عجيبة أنت يا بلدي، الأشبه quot;بمولد وصاحبه غايبquot;، يختلط فيك quot;الحابل بالنابلquot; كما يقولون، أو بتعبير أكثر حداثة صارت مصر كمحرك سيارة، اختلط فيه الزيت بالماء بالوقود، والمحرك مازال ظاهرياً يدور، لكن بلا قوة دفع أو جَرِّ حقيقية. . هي تتظاهر بأنها تعمل، وربما اعتقد البعض بالفعل أنها تعمل، لكن أي عمل هذا، وهل من الممكن بالفعل أن يذهب بنا إلى أي مكان؟!!
يبدو وكأن النظام الحاكم يعرف جيداً ما يريد، وأنه قد حدد بدهاء أنجع الأساليب لتحقيق هدفه، وهو البقاء متربعاً على كرسي السلطة، مهما كان الثمن، حتى لو كان سيجلس في النهاية على كومة من الأنقاض، ويحكم ويتحكم في أنقاض أمة. . في سبيل الوصول لهدفه في البقاء والتمديد والتوريث، هو مستعد لترك الشعب المصري نهباً للفاسدين وللمجرمين والإرهابيين وقطاع الطرق. . لا وقت ولا متسع لديه لحماية أمن مصر وحدودها، والتصدي بجدية لعصابات حماس وحزب الله وإيران وهي تدق بأياديها الملوثة بالدماء أبواب مصر، وكيف حتى إن أراد وعزم يستطيع أن يفعل ذلك، وقد ترك الشعب المصري أمانة ينتهبها فكر وتنظيم أخطر جماعة عرفها تاريخ الإنسانية الحديث؟!!
جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في نهاية عشرينات القرن الماضي، بجهازها السري وجرائمه، التي كانت رغم بشاعتها وممارستها للقتل المقدس للشخصيات السياسية المصرية، وقيامها بحرق القاهرة عام 1952، أقل وأهون مما ارتكبت من جرائم، بضخها للفكر العنصري والكراهية في شرايين البلاد، التي كانت حينها تحبو على طريق الديموقراطية، وعلى طريق توحيد كل مكونات الشعب المصري في واحد. . وطن واحد ومصير واحد لجميع المصريين، الذين جمعت بينهم قضية الاستقلال الوطني وجلاء الإنجليز، تحت راية الوفد وثورة 1919. . كانت جماعة الإخوان المسلمين بفكرها أشبه بالفيروس الذي أصاب الليبرالية المصرية الوليدة في رأسها، لينتشر منه بعد ذلك في سائر أنحاء الجسد.
تلك الجماعة التي نبتت في أحضانها عصابة العسكر التي اغتصبت الحكم في مصر في يوليو 1952، فقاموا بحل جميع الأحزاب السياسية المصرية وحظرها، ليسمحوا فقط لجماعتهم الأم بالعمل في الساحة المصرية، ثم لم يلبثوا أن اكتشفوا أن الوكر الذي ينتج العقارب، لا يمكن إلا أن يعيد لدغ عقارب من تسموا quot;بالضباط الأحرارquot;، حتى لو كانوا هم ذاتهم من إنتاجها ومنتسبيها، فكان أن بدأ مسلسل مطاردة فيض المخربين والمجرمين، التي كانت ومازالت تلك الجماعة تنتجهم بأعداد وفيرة، مستغلة تدين الشعب المصري وجهله وسذاجته!!
منذ النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي صارت جماعة الإخوان محظورة قانونياً، بعد محاولتهم اغتيال عبد الناصر عام 1954 بالمنشية بالإسكندرية، ثم محاولتهم الانقلابية عام 1956، ثم مؤامرتهم على النظام في معية التكفيري والماركسي السابق سيد قطب، الذي حكم عليه حينها بالإعدام. . وظلت كذلك بالفعل حتى نهاية الستينات، ليأتي السادات مع بداية السبعينات ليقرر إخراج ثعابينها من جحورهم وزنازينهم، ليسملهم البلاد والعباد، بأمل أن يكونوا ظهيراً له، في مواجهة تنظيم الاتحاد الاشتراكي الناصري. . سلمهم مؤسسات الدولة والنقابات المهنية، والمجتمع المصري بعامة، في ظل حالة قلق وتمزق وطني وفراغ سياسيي، لينجحوا في التغلغل في الجسد المصري الواهن والهش، أثر ما فعل به العهد الناصري، الذي قضى على كل رجالاته السياسيين، وحكم بمعونة فلول جرارة من الإمعات والمنتفعين، الذين لا يدينون بمبدأ، ولا ولاء لهم إلا لأنفسهم، وللممسك بالسيف وخزائن الثروات المنهوبة. . فكان المجال متسعاً للجماعة المحظورة اسماً، كما لو كان قد قال لهم : quot;خلا لك الجو فبيضي وصفريquot;. . رغم هذا ظلت الجماعة محظورة قانونياً، رغم أن الحقيقة هي أنها وحدها التي لم تكن محظورة، وكل ما عداها -بما فيها الدولة المصرية الوطنية- هو المحظور!!
وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد فشلت في اغتيال صنيعتها عام 1954، فإن بعضاً من خريجي وكر الأشرار هذا، الذين ذهبوا إلى المدى الأبعد في اعتناق وتطبيق فكر الجماعة العنصري الإجرامي، تسموا بأسماء عديدة، مثل الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وغيره، وكلها مسميات لعصابات تحمل نفس الفكر الإخواني العنصري الكاره للعالم وكل ما فيه ومن فيه. . هؤلاء نجحوا في بداية الثمانينات من القرن الماضي من إرداء السادات -من مد إليهم يد العون- صريعاً، بعد أن كان هذا قد قطع كل ما يربطه من خيوط بشعبه، وبالكرسي الذي كان يجلس عليه، وهو كرسي quot;الرئيس المصري لدولة مصريةquot;، معلناً في نفاق وعنصرية مبتذلين، أنه quot;رئيس مسلم لدولة إسلاميةquot; يسكنها أقباط، وكأن الأقباط جالية مهاجرة، وليسوا هم أساس هذا البلد والوطن. . وإذا كان ما أعلنه السادات صحيحاً وقتها، وهو أنه رئيس لدولة إسلامية، فإن نهايته قتيلاً تكون بالفعل هي النهاية الطبيعية، فحكام الدولة الإسلامية عبر التاريخ كانت نهايتهم التي تكاد تكون طبيعية هي الاغتيال، وبالأخص في فترة الخلافة الراشدة!!
إذا تركنا التاريخ البعيد والقريب، وعدنا إلى الحاضر الذي نخوض الآن في مستنقعاته، سنجد أن جماعة الإخوان المسلمين مازالت قانونياً محظورة، ومازلنا بين الحين والآخر نسمع عن القبض على بعض من أعضائها بتهم شتى، مثل محاولة إحياء جماعة محظورة، أو الانتماء لجماعة محظورة، أو تشكيل تنظيم دولي، أوالقيام بغسيل الأموال وممارسة أنشطة غير شرعية. . كل هذا طبيعي في مواجهة جماعة محظورة قانونياً، وتشكل خطراً داهماً على النظام السياسي وعلى المجتمع المصري وسلامه وأمنه على وجه العموم، لكن هذه الضربات المتفرقة التي دأب النظام على توجيهها للجماعة، كانت من قبيل ما يقول عنه المثل quot;الضربة التي لا تميتني تقوينيquot;، وهذا هو الحادث بالفعل، إذ تساعد تلك الضربات الجماعة على إظهارها أمام المجتمع كضحية لاستبداد سلطة غاشمة، فيتضاعف حجم التعاطف إن لم يكن التأييد الجماهيري لها، علاوة على زيادة تماسكها الداخلي، وهو الأمر الطبيعي حدوثه لجماعة تتعرض لضغوط خارجية.
لكن وقبل أن نتحدث عن وجود الجماعة القوي والعلني بالواقع المصري، علينا أن نتأمل إن كان ما يتخذ من مواقف قانونية تجاه هذه الجماعة يتناسب بالفعل مع ما تشكله من تهديد للأمن القومي المصري، وذلك بعلاقاتها التي تكاد تكون علنية مع دولة معادية كإيران، وتنظيمات إرهابية في نظر المجتمع الدولي كمنظمة حماس وحزب الله، علاوة على تنظيمها العالمي، ذلك التحالف الذي أودى أخيراً بحياة الجندي المصري الشهيد quot;أحمد شعبانquot;، فيما أنصار quot;إخوان التضليل والكراهيةquot; يهتفون للكلاب التي تتجرأ على حدود مصر وسيادتها. . هل تتناسب ردود أفعال الدولة إزاء هذه الجماعة مع متطلبات الأمن القومي المصري؟!!
لا نظن أبداً أن الإجابة يمكن أن تكون بالإيجاب، خاصة ونحن نراهم في مجلس الشعب يسائلون الدولة المصرية ويحاكمونها على حماية حدودها، ببناء جدار يحمي الحدود المصرية من انتهاكها بواسطة عصابة حماس، التي تنشب مخالبها في أعناق أهل غزة. . ما يحدث الآن هو أن quot;الجماعة غير المحظورةquot;، تحاكم quot;الحكومة المحظورةquot; على قيامها بواجباتها لحماية حدود مصر وسيادتها، وينضم لتلك الجماعة المعروف انعدام ولائها للوطن، رهط من متثاقفي الحقبة الناصرية، الذين لا تعدو مصر في نظرهم مجرد إقليم جنوبي، كما علمهم الزعيم الملهم بطل الكوارث والنكسات. . كما يقوم بمهمة الترويج والتضليل والتبرير لنشاط الجماعة الإجرامي، أعداد ممن يطالعوننا على شاشات الفضائيات باسم خبراء ومحللين سياسيين ومتخصصين في شئون الجماعات الإسلامية، فيشيعون الضباب لكي تعمى العيون عن حقائق واضحة وضوح شمس الظهيرة، ولسنا مضطرين لذكر أسمائهم فرداً فرداً، ماداموا هم يعرفون أنفسهم، كما نعرفهم نحن تمام المعرفة!!
يزداد الطين بَلَّة، ويزداد حنق الحريصين على الشرعية وأمن الوطن، حين يرون المحظورة تجري انتخابات لمجلس شورى (برلمان)، وانتخابات مرشد عام (أمير جماعة)، وتتناقل الصحف المصرية (ومن خلفها العربية والعالمية) أخبار تلك الانتخابات في صدر صفحاتها وفي مانشيتاتها الأولى، ليبدو الأمر أمام الشعب والجماهير البسيطة، وكأن هذه الجماعة هي التي تحدد حاضر مصر السياسي ومستقبلها.
لقد تغلغل الإخوان المسلمون التنظيم والمدرسة الفكرية في سائر أنحاء الوطن ومؤسسات الدولة، حتى صارت هي الحاكمة الفعلية للوطن، والنظام الحاكم المدني هو المحظور. . محظور عليه حماية مواطنيه الأقباط من الاغتيال، رغم وصول تحذيرات مسبقة كما في حالة مذبحة نجع حمادي الأخيرة. . محظور عليه أيضاً تطبيق القانون على المجرمين، المحميين من الجماعة quot;غير المحظورةquot;، ومن جماهير الدهماء التي تقودهم وتوجههم كيفما شاءت. . محظور حتى على الجرائد المسماة قومية أن تشير إلى الحادث بتوصيفه الحقيقي، فتطالعنا الأهرام في اليوم التالي لتلك الجريمة البشعة، بتصريح لمصدر مسؤول كما تقول، يفيدنا بأن الحادث غير طائفي. . هي التعمية والتضليل، ريثما يتم استئصال الأقباط من أرض مصر، ليستدير بقية أبناء مصر بعد ذلك لتصفية بعضهم البعض، تماماً كما حدث في أفغانستان!!
ألا يكون الأمر والحالة هذه، هي أن الدولة المصرية قد انساقت للمحظور، في لعبة القط والفأر المستمرة منذ أكثر من نصف قرن، بين النظام العسكري اليوليوي، وبين الجماعة الإرهابية المسماة محظورة، وأن هذا النظام سيقودنا والحالة هذه إلى أن نكون quot;دولة فاشلةquot; مثل الصومال وأفغانستان واليمن؟!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات