نعم مصر تتقدم، ولكن ببطء شديد. . نعم قد يكون معدل تقدمها، مقارنة بالمتوسط العالمي لمعدلات التقدم، هو بمثابة تأخر أو حتى تقهقر. . لكن مهما اختلفت طريقة التقييم، فلاشك أن الحوار الذي تشتد سخونته يوماً فيوماً، حول ترشيح د. محمد البرادعي لرئاسة الجمهورية في انتخابات عام 2011، هو خطوة كبيرة إلىالأمام، وغير مسبوقة في تاريخ مصر الحديثة، بداية من وراثية أسرة محمد علي، إلى وراثية العسكر في النظام اليوليوي، والمرشحة الآن للتحول إلى توريث عائلي في جمهورية ملكية.
لم تستهدف دعوة الترشيح في بدايتها د. البرادعي بالتحديد، وإنما شملت الدعوة عدداً من المصريين المقيمين بالخارج، والذين حققوا نجاحات، حصلوا بموجبها على تقدير عالمي، وحصل بعضهم على جائزة نوبل. . علينا هنا أن نتساءل عما حدا بمن تحمسوا لتلك الدعوة أو الدعوات، أن يتجهوا هذا الاتجاه. . يلاحظ على هذا المنهج ملمحان أساسيان، أولهما أنه يتجه لمصريين خارج البلاد، وغير مشاركين إيجابياً أو سلبيباً (بالصمت على ما يجري) في الحالة المصرية الراهنة. . والثاني التركيز على شخصيات ناجحة، وفي ذات الوقت متوافقة مع العالم، وليست في صراع معه، أو معادية له، باستثناء حالة طرح اسم السيد/ عمرو موسى، المنتمي فكرياً وسياسياً إلى طائفة الأشاوس العرب، المحسوبة عالمياً في ضفة العداء أو التوجس من مسيرة الحضارة العالمية!!
نرى أن الملمح الأول، وهو الاتجاه نحو المصريين بالخارج، نتيجة لحالة الفشل الذريع للمقيمين على أرض مصر، في ترتيب حياتهم وإدارتها. . هذا الفشل الذي نستطيع أن نؤرخ له، على الأقل طوال ستة عقود مضت، ومن العلمي والمنطقي في هذه الحالة، أن يتجه الأمل في التغيير، إلى تدخل عنصر خارجي، عسى أن يُحدث تدخله تغييراً معتبراً في المعادلة المصرية الساقطة أو الفاشلة. . بالطبع في حالة البحث عن مرشح لرئاسة الجمهورية، يكون ذلك العنصر الخارجي المأمول لتحريك الوضع، هو أي من المصريين الناجحين في الخارج.
تحقق قائمة الشخصيات الجديرة برئاسة جمهورية مصر والتي تم استعراضها، الرد على الأغنية المكرورة، والتي بررت التوريث بين العسكريين في المرحلة الماضية، وتستعمل الآن لتمرير التوريث العائلي، والتي تقول quot;وهل هناك من هو أفضل من فلان؟!quot;. . يحاول ذلك التساؤل إقناع المصريين دوماً، أن المعروض عليهم ليس فقط أفضل الموجود، بل هو الموجود الوحيد، وبالفعل عندما يتلفت المصري حوله، ولا يجد اسماً واحداً استطاع الهروب من هيمنة النظام البوليسي، ليقدم نفسه للناس كشخص جدير بالرئاسة، فإنه يقتنع بالفعل أن الأمة المصرية لم تنجب من يصلح رئيساً لها غير هذا الـ quot;فلانquot;. . الآن لم يعد الأمر هكذا، ففي عصر العولمة نجح مصريون هربوا إلى الخارج (ربما محبطين من أحوال بلادهم)، في تحقيق نجاحات لم يستطع النظام الحاكم في مصر أن يطفئ شعلتها، وهاهم ينتظمون في قائمة، بقدراتهم التي لا قِبَلَ للوريث السعيد بالادعاء بامتلاك بعضها أو جزءاً عشرياً منها!!
بالنسبة للملمح الثاني، وهو الاتجاه لترشيح مصريين ناجحين ومتوافقين مع العالم، فهو يشير بوضوح إلى توق المصريين للنجاح، وفي نفس الوقت التوافق مع العالم، بعكس ما ينادي به الخطاب المعلن لأغلب فصائل المعارضة، والفاقدة لكل رؤية، غير رؤية العداء لرموز ورواد الحضارة في عصرنا، واعتبار الاقتراب منها خيانة، والانفتاح عليها انبطاحاً وغزواً ثقافياً، وهيمنة ينبغي علينا مقاومتها بكل ما أوتينا من قوة، أو بالأحرى من ضعف.
التوجه إذن جيد ودليل تقدم، في كل من الحالة السياسية المصرية وفي وعي الإنسان المصري، وبالذات في فئة الشباب المصري الواعد، والذي أتاحت له الإنترنت والفيسبوك، أن يكون له صوتاً مسموعاً. . صوت يسمعه نظام الحكم الذي ينصت لدبة نملة على أرض مصر، ويسمعه العالم كله أيضاً!!
نأتي إلى ملمح سلبي خطير فيما يحدث، سواء في جانب المستدعين لمرشح لرئاسة الجمهورية من الخارج والمؤيدين لهم، أو في جانب أبواق النظام الحاكم في وسائل الإعلام القومية، ممن يشنون هجوماً كاسحاً، على المصري الوحيد حتى الآن، الذي أعلن رد فعل إيجابي على الدعوة الشعبية، وهو د. محمد البرادعي. . فالجميع ينظر إليه وكأنه جودو، أو المخلص أو المهدي المنتظر أو حتى quot;روكيquot; المصري، الذي سيأتي إلينا ليملأ بقدراته الذاتية الأرض عدلاً ورفاهية. . هكذا بدأ المؤيدون يعددون محاسن وقدرات البرادعي، وبدأ المعارضون يسفهون ويشككون في قدراته!!
المطلوب من رئيس الجمهورية يا سادة أن يتحلى بالعدالة والليبرالية والمقدرة الإدارية، ومجرد الرؤية العامة للوضع العالمي، وللمستقبل المرجو لمصر. . وليس مطلوباً ولا متوقعاً منه أن يكون موسوعة علمية متخصصة في كافة مناحي الحياة المصرية، وليس مطلوباً منه أن يعرف تفصيلياً عدد ومواضع الشوارع التي تهالكت فيها مواسير الصرف الصحي، ولا تفاصيل قضبان السكك الحديدية المتهالكة، ولا عدد المهملين والمتواكلين في ورش صيانة هيئة السكة الحديد، ولا عدد أفراد البعثات الدبلوماسية المصرية بالخارج، والذين لا يكترثون بالمصريين ومشاكلهم، بل ويتعالون عليهم، كأنما ليذكروهم بالوطن الذي لا يحترم إنسانية الإنسان. . كما من غير الضروري أن يمتلك إحصائية بعدد أئمة المساجد الذين يتقاضون رواتبهم من وزارة الأوقاف، ويحرضون في خطب الجمعة الغوغاء على شن هجمات كاسحة على الأقباط كأعداء الإسلام وأعداء الله. . فهو لكي يحقق أي شيء، يلزمة إدارة واسعة من السياسيين والعلماء والمتخصصين، الذين ينتهجون نفس نهجه. .هؤلاء هم من سيقودون جماهير شعبنا وقواه العاملة في طريق التقدم، وهنا نقطة الضعف الخطيرة، في توجه استدعاء رئيس لا ينتمي إلى حزب سياسي حقيقي، حتى لو كان هذا المرشح مقيماً داخل مصر، وحتى لو كان منضماً لواحد من أحزاب مصر الكرتونية، فيما عدا بالطبع الحزب الوطني الديموقراطي، رغم تحفظاتنا على كثير من شخوصه وتوجهاته.
ينبغي أن نكون جميعاً قد أدركنا بعد تجاربنا المريرة، أننا لا نريد قائداً ملهماً، ولا زعيماً ضرورة، لكي يقودنا معصوبي الأعين، لنتسيد على العالم. . نريد ممن نرشحه لرئاسة الجمهورية أن يعرض علينا تصوراته لمصر المستقبل، ولبرنامجه التنفيذي لتحقيق هذه التصورات على أرض الواقع، ونريده أن يقدم لنا مع شخصه، شخوص الإدارة التي سيعتمد عليها، لتحقق لنا ما نصبو ويصبو هو إليه.
كلمة أخيرة أهمس بها في أذن د. محمد البرادعي، الذي أكن له، ويكن له العالم التقدير والاحترام:
نعم يا سيدي كل ما تفضلت به في بيانك، من شروط لابد توافرها لترشيح نفسك لرئاسة الجمهورية، هي شروط ضرورية وجوهرية، كي لا تأتي انتخابات 2011 مهزلة كسابقتها. . لكن يا سيدي، لو كان الشعب المصري قادراً من تلقاء ذاته على توفير الحالة السياسية والدستورية التي تتمناها، هل كنا عندها سنكون بحاجة ماسة إليك أو إلى غيرك؟!!. . كانت الترشيحات للرئاسة ستتم بيسر وتلقائية قانونية دستورية، ولم نكن لنقع في quot;حيص بيصquot; كما نحن الآن واقعون!!
نحن ننتظر مُخَلِّصاً ليخلصنا، والمُخَلِّص يشترط علينا أن نُخَلِّص أنفسنا، قبل أن يتفضل ويسكن في قصرنا الجمهوري. . فما هو الحل؟. . هل نظل ننتظر المُخَلِّص، أم يقوم الثمانون مليون مصري بما عليهم القيام به، لترتيب وإدارة حياتهم، فلا يحتاجون بعد إلى مخلص، ولكن إلى كبير موظفين يعمل في خدمتنا، ووفق توجهاتنا، ولتحقيق آمالنا نحن، وليس وفق إلهامه وعبقريته وزعامته التاريخية؟!!
المجتمع والحالة المصرية يا سادة لا تنتج قادة سياسيين، يمكن أن نجد العديد منهم جاهزاً حين نطلبهم، لكنها تنتج كل حقبة مشروع ديكتاتور واحد وحيد، أما باقي الكفاءات التي لا تنفك بطون المصريات تنجبها، فهي إما مهمشة أو محبطة، أو هاربة في بلاد الله الواسعة، ومن الظلم لها ولأنفسنا أن نضعها في مواجهة أو حتى منافسة مع المهيمنين على كل مؤسسات البلاد. . ما أشبه الشعب المصري الآن بتلميذ أهمل استذكار دروسه طوال العام الدراسي، ثم قام ليلة الامتحان يبحث عن وسيلة ينجح بها وبتفوق!!
تلك هي المعضلة، فهل لها من حل؟!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات