لعل تعبير quot;ثوابت الأمةquot; هو أكثر التعبيرات تكراراً على ألسنة صفوتنا، وأكثرها استدعاء حين نجد أنفسنا أمام طريق مسدود، عاجزين عن التأقلم مع العالم والعصر، فلا نجد مهرباً سوى أن نعتبر أنفسنا شهداء أو ضحايا، قدموا أنفسهم قرباناً على مذبح الحفاظ على الهوية أو الأصالة، أو في سبيل الحفاظ على أحجار قديمة نحتفظ بها كجواهر ثمينة، فصارت كومة كما مذبح قديم تُنحر عليه ذبائح بشرية، إرضاء لإله دموي مجهول النسب!!
نوظف quot;ثوابت الأمةquot; أيضاً ككومة أحجار نأخذ منها، لنشج رأس من نتهمه بالواقعية، التي هي لدينا مرادف للانهزامية، فنحن بأصالتنا وثوابتنا نستنكف بإباء وشمم الانتماء إلى الواقع، وهذا طبيعي ما دمنا ندرك أن واقعنا مزري، وأننا لا نمتلك همة تغييره إلى الأفضل، ليكون الخيار السهل هكذا هو الاختباء خلف تلك الصخور المسماة quot;ثوابت الأمةquot;!!.. هكذا نبرر لأنفسنا غباء منقطع النظير، حرمت من مثيله الحيوانات، تلك التي وسيلتها الوحيدة للبقاء التعلم عبر التجربة والخطأ، فلا تقرب طعاماً أو طريقاً سبق وآذاها، لكننا لفرط حصافتنا اخترعنا ما نستند إليه في تخشبنا وتحجرنا، فكان أن أضفينا عليه القداسة باسم ثوابت نسبناها للأمة، تلك التي تقيأتها قريحتنا ونجرسيتنا خاوية المضمون، في غيبة للقدرة على استقراء الواقع منطقياً، مستندين لأكثر قراءات التراث والتاريخ تحجراً ولا عقلانية، دون حتى أن نعطي أنفسنا فرصة لنتأمل، ماذا يمكن أن نجني من بعض ثوابتنا هذه، وإن كان يمكن أن تعود علينا يوماً بالخير، أم هي بداية ونهاية ليست أكثر من كارثة مقدسة؟!!
لو تأملنا قليلاً مسألة quot;ثوابت الأمةquot;، قبل أن نتعرض لما يصاحبها من ربط لا منطقي بين الواقعية والانهزامية، سنجد أن كلمة quot;الثوابتquot; لابد أن يُفهم منها أنها quot;الحد الأدنىquot; المقبول من الأمة، والتي لا تستطيع الحياة أو الاستمرار بدونه وإلا فقدت كينونتها ذاتها، ومن المفروض أن تكون هذه الثوابت ضمن نطاق المستطاع الواقعي، حتى لا يكون الإصرار عليها من قبيل الانتحار.. فمن المفهوم أن يكون لفرد أو لأمة quot;طموحات علياquot; -قد يراها البعض غير واقعية- وهذه يمكن مع الأيام والجهد إدراكها، أو الانصراف عنها دون غضاضة، مادامت تندرج ضمن quot;الحدود العلياquot; للطموح، بمعنى أنها ليست شرطاً ضرورياً لبقاء الفرد أو الأمة بقاء أدبياً أو مادياً.
كذلك من حق وربما من واجب كل فرد أو أمة، تحديد quot;حد أدنيquot; لما يقبل به ويصر على تحققه، في علاقاته الداخلية والخارجية، لكن هذا بالتحديد لابد وأن يكون وثيق الارتباط بالواقعية، وليس مضاداً أو متحدياً لها، وإلا كنا نقامر بحاضرنا ومستقبلنا، فليس من المقبول أساساً الحديث عن quot;ثوابتquot;، في عالم لا يعرف الثبات، فالأرض تحت أقدامنا متحركة، والأجرام في سماواتنا حالما نرصدها تكون قد غيرت موضعها، فعن أي ثبات نتحدث، وأنى لنا دون سائر الخليقة من جماد وأحياء تحقيق هذا الثبات؟!!
جيد إذن أن يكون في حياة الأمم والأفراد quot;حداً أدنىquot; لا يجوز التنازل عنه، على ألا يأخذ شكل الثوابت الأبدية، المفارقة لصيرورة التاريخ، لكن حتى هذه يتحتم مراجعتها دورياً، للتأكد من ارتباطها بالمرحلة الحضارية الراهنة، لا أن تكون مرساة تنتزعنا من قطار الحضارة المسرع في طريقه.. فالأمر لا يتعلق فقط بمدى إمكانية المحافظة على هذه الثوابت من عدمه، وإنما بالدرجة الأولى بالتحقق مما ستجلبه علينا لو نجحنا في تحقيقها.
هو الفهم الجامد للأيديولوجيات والعقائد الدينية، ما يمد فكرة الثبات لدى شعوب الشرق بالدماء المتجددة، فنحن لم نغادر بعد العالم البطلمي الساكن، والذي تدور فيه الشمس وسائر الأجرام حول أرضنا الثابتة، إلى عالم كوبرنيكوس المتحرك في جميع الاتجاهات، دوراناً حول الذات وحول الشمس وسياحة في الفضاء الكوني اللانهائي.. هكذا يكون أصحاب مثل هذا الفهم هم المسؤولين تجاه أنفسهم بالدرجة الأولى عن الموائمة بين ما يعتقدون من صلاحية لعقائدهم لكل زمان ومكان، وما يرونه حولهم من عالم مؤسس على التغير لا الثبات، فالمفترض في المعتقدات سواء كانت علمانية أو مقدسة، أنها مناهج لتأسيس علاقات ونمط حياة، يحقق السعادة والنجاح للإنسان، أي إنها وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، فالخلط بين الوسيلة والغاية خطيئة متكررة للإنسان، فإذا رأيت أن وسيلتي (عقيدتي التي أؤمن بصحتها المطلقة) لا تحقق النتائج المرجوة منها عند التطبيق الواقعي، علي أن أرجع لتفسيراتي لمرجعياتي النصية، لفهمها فهماً جديداً يتواكب مع روح العصر، ليس من باب التراجع أمام المستجدات -وإن كان مشروعاً- ولكن احتراماً وتحقيقاً للمقاصد العليا لهذه العقائد، أو ما نسميه الأهداف التي وُجدت هذه الوسائل (العقائد) لتحقيقها، وإن كانت لنا العديد من التحفظات على ذلك المنهج.
نأتي الآن إلى الخلط العجيب بين مفهوم quot;الواقعيةquot; ومفهوم quot;الانهزاميةquot;.. إذا كانت quot;الواقعيةquot; هي الاستسلام للأمر الواقع، والكف عن السعي لتغييره إلى واقع أفضل يحقق لنا ما نصبو إليه، فإنها تكون بالفعل انهزامية بائسة، لو أخذ بها الإنسان ما تقدم خطوة واحدة في مسيرة تحضره، أليست الأحلام والإصرار على تحقيقها هي المنارة التي هدت الإنسان طوال تاريخه، نحو تحقيق أهدافه والسيطرة على مقدراته، وتسخير كل ما تصل إليه يداه، لتحقيق سعادته وغاياته؟!.. لو كان الأمر هكذا، فإن المنادين بالواقعية الآن في عالمنا العربي هم بالفعل مجموعة من الخونة والعملاء، يريدون تركيع الأمة أمام أعدائها، ومنعها من تحقيق ذاتها، لحساب من يعملون لصالحهم من قوى إمبريالية وصهيونية!!.. هذا ما يقول به أحباؤنا الأشاوس والصناديد، سواء الجالسين على كراسي الحكم، أو الممسكين بأبواق الإعلام، وأقلام التزييف والتضليل الغوغائية!!
بالتأكيد الاستسلام للأمر الواقع ليس من الواقعية في شيء، ولو كان المنادون بالواقعية يعنون ذلك، لوجب عليهم منطقياً أن يستسلموا هم للواقع المتردي في منطقتنا الآن، ويقبلوا حالة التخلف واللاعقلانية والعداء للآخر المتفشية في شرقنا الكبير.. في المقابل فإن الأحلام والرؤى الساعية لتغيير الواقع نحو الأفضل، لا يمكن أن تكون مفارقة للواقع وحقائقه وإمكانياته، وإلا كانت ضياعاً وغيبوبة لا نهاية لها، إلا بفناء المصر على التمسك بها على مستوى الفعل.. وهناك من يسرف فيما يعلن من أحلام وتطلعات لمجرد المزايدة بها على آخرين، في حين أنه ينصاع في الممارسة العملية لحقائق الواقع، لكن في تكتم وشعور داخلي بالذنب والتغصب!!
الواقعية تشمل الإقرار بالأمر الواقع والسعي لتغييره معاً، والأحلام والرؤى الصحية (الواقعية) هي التي تستند لمقومات متواجدة في الواقع بالإمكان، وتشمل مقومات مادية ومعنوية محلية وعالمية، فلا يدخل في الأحلام الواقعية مثلاً، المطالبة بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى مواطنهم الأصلية داخل إسرائيل، مستندين في مماحكاتنا لقطع الطريق على عملية السلام، إلى مجرد حيثيات قانونية وتاريخية جزئية وتعسفية تنفي وجود الآخر من الأساس، وتتجاهل التغيرات التي حدثت على أرض الواقع بامتداد القرن العشرين عموماً، وفي النصف الثاني منه خصوصاً، ومعه حركة الواقع العالمي وموازين قواه وقيمه المعاصر.. واقعية quot;الأحلام والرؤىquot; تحتم أن تتصف بالاتساق مع اتجاه حركة الواقع الإنساني الآني والمستقبلي، لا أن تكون أحلاماً ارتدادية، تضع صاحبها في تصادم مع الحقائق غير القابلة للتجاوز، كما نرى الآن من تفشي أحلام الدولة الدينية والحروب المقدسة.
لا تدعو هذه السطور إذن إلى الانبطاح أو الاستسلام لتلك القوى المتخيلة التي تريد تركيعنا، ولكننا ننادي بأن نراجع ثوابتنا وأهدافنا وأحلامنا، ونقوم بعمليات تعديل وحذف وإضافة، بحيث تتفق وتتناغم مع حقائق الواقع واحتمالاته المستقبلية، وإذا كان من حق البعض أن يصروا على ضرب رؤوسهم في صخور أوهامهم وثوابتهم، فليس من حقهم جر شعوب جعلت منهم رواداً وصفوة لها إلى الخراب.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات