إذا كان مفهوم الثورة يشمل كلاً من مرحلتي هدم الأبنية القديمة وتشييد الجديدة بدلاً منها، فإنه إذا كان نجاح ثورة 25 يناير المصرية في إسقاط نظام الطغيان والفساد الذي امتد لستة عقود قد صار نموذجاً مبهراً عالمياً لقدرة الشعوب بثوراتها السلمية على هدم القديم، فإن الخوف الآن أن تصير ذات الثورة نموذجاً للسرقة السلمية أيضاً للثورة في مرحلة البناء، فلا نشهد ما يسمى انقضاض الثورة المضادة على قوى الثورة وتصفية الثوار وتعليق المشانق لهم وما شابه، وإنما رأينا كيف يعود الثوار إلى منازلهم بهدوء، بعد تنظيف الميادين التي تظاهروا فيها، وإعادة طلاء أرصفتها وجدرانها، ويسلمون آمالهم في مصر جديدة ومستقبل أفضل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي لم يتصادف أنه الجهة التي سلم لها رأس الطغيان السابق مهامه وسلطاته.
هنا حدث خلط شكل خطأ قاتلاً ارتكبه الثوار في حق أنفسهم وثورتهم، فلم يتبينوا أو تجاوزا بأريحية مذهلة، عن الفرق بين أن يقوم الجيش بدور الحارس لحماية البلاد والثوار، وهم يقومون بأنفسهم ببلورة تصوراتهم لمصرهم الجديدة، وتولي تحقيقها على أرض الواقع، في ظروف يلتزم فيها الجميع بالحوار السياسي والمجتمعي السلمي، بينما يقوم الجيش بردع البلطجية والبلطجة باختلاف أنواعها، سواء الجنائية منها أو الدينية والأيديولوجية، وبين حالة أخرى مختلفة تماماً، يتولى فيها الجيش تحقيق طلبات الثوار، بأن يكون المشرف والموجه والأمين على عملية التغيير وإعادة البناء.. هنا في الحالة الأخيرة والتي تجري فصولها الآن، يكون الجيش أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة في موقع الأب البطريرك، الذي قرر وبإخلاص أن يرضي أبناءه بإعادة ترتيب بيتهم، لكن هذا ومن المحتم أن يكون وفق رؤيته وقدراته الخاصة.
نعم لم يبد لنا ما يجعلنا نتشكك في إخلاص المجلس الأعلى للقوات المسلحة للوطن الذي أقسموا على الولاء له، ولا لأرواح الشهداء الذين أدى لهم المتحدث باسم المجلس الأعلى التحية العسكرية.. ونعم لم يظهر لنا أن أعضاءه لديهم أجندة أو رؤية خاصة يريدون فرضها على البلاد.. كلا الأمرين أكيد في روع كاتب هذه السطور حتى هذه اللحظة، وما لم يجد جديد يغير هذه القناعات أو يقلبها رأساً على عقب، لكن هذا لا يعني بأي حال أن الجيش يقوم بدور الحارس المحايد، ليقوم الثوار بتحقيق ما ينشدونه.. فدور الأب الراعي حتى لو لم تكن له رؤيا خاصة محددة، يفرض عليه وعلينا أداء وفق طبيعة هذا الأب البطريرك، والذي هو ليس بأي وجه من الثوار، ومنقطع الصلة بتصوراتهم وآمالهم، فرجال جيشنا (لحسن الحظ) قد تفرغوا تماماً طوال الحقبة الماضية لمهامهم وتخصصاتهم العسكرية، ونأوا بأنفسهم عن مستنقع السياسة المصرية العطن، وهذا يجعلنا مطمئنين (حتى هذه اللحظة) لعدم تطلع العسكريين لحكم البلاد، لكنه في نفس الوقت يجعل أفراد القوات المسلحة بمنأى شبه تام عن تطلعات الشباب لمستقبل بلادهم، فلا يكادون يدركون من الأمر إلا جانب مكافحة الفساد المالي، أما كيف يتحقق هذا، علاوة على سائر ملامح مصر المستقبل، فهي أبعد ما تكون عن اهتماماتهم التخصصية.
هكذا يجد الأب الراعي (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) نفسه مضطراً لأداء دوره أن يلجأ لأقرب من يجدهم حوله، ولنا أن نتوقع لجوءه إلى رموز الجيل القديم، وقد عاد الثوار (الأولاد) إلى منازلهم وكلياتهم وأعمالهم.. نقصد بالجيل القديم هنا القوى الموجودة بالفعل في الساحة، فكان من الطبيعي أن يبدأ بوزارة هي امتداد لعهد مبارك، وبذات منهج التعديل الدستوري الذي شرع به الطاغية قبل سقوطه، وكان أيضاً أن تم تشكيل لجنة تعديل الدستور حصرياً من الحرس القديم بالساحة السياسية المباركية، ولا نقصد بهذا الوصف فقط رموز الحزب الوطني الحاكم، لكن أيضاً يندرج ضمن هذا التوصيف قوة المعارضة الحقيقية الوحيدة له، وهي جماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى التكنوقراط الذين يؤدون عملهم بمهنية تفتقد للرؤى التجديدية ناهيك عن الثورية.. كانت هذه اللجنة بتشكيلها الذي يهيمن عليه فكر الإخوان المسلمين بداية غروب أو غياب شمس الثورة والثوار، حيث لم تضم أحداً من النخبة المصرية الثورية، التي كانت تصاحب شباب الثورة، والتي كانت كتاباتها ورؤاها الثورية هي الملهمة للشباب الذي قام ليصنع مستقبله بنفسه.. بعبارة أخرى كانت هذه اللجنة، وما تلاها بعد ذلك من لجان خفية تصدر الإعلانات والقوانين أبعد ما تكون عن أن توصف بأنها تمثل quot;ضمير الثورةquot; أو quot;ضمير الأمةquot;.
هكذا أنتجت لنا البطريركية العسكرية والقوى القديمة المتأسلمة والتكنوقراطية التعديلات الدستورية، لتستفتينا عليها دونما فرصة لحوار شعبي، وفي تجنيب لقوى الثورة الشبابية ونخبتها، لتنتهزها القوى الظلامية فرصة، تطارد فيها الثوار بدعاوى التكفير ومحاربة الإسلام.. ثم يشرع ذات التحالف البطريركي في التمادي في دوره الأبوي، فينتج لنا إعلاناً دستورياً تم طبخه من قبل مجهولين في مطبخ خفي، ينسف بالضرورة موافقة الشعب على التعديلات، وما تعنيه من إحياء لدستور 1971، ويسارع منفرداً بتعديلات أيضاً لقانون الأحزاب القديم، في تخبط قانوني لا مثيل له، إذ يرقع ما تم سقوطه، ليعاود إسقاط ما تم ترقيعه، وهكذا دواليك.. ليس لنا أن نستغرب والوضع هكذا أن يأتي قانون الأحزاب الملفق، يكاد يسد الطريق على قوى الثورة لتشكيل أحزابها، ولا يتيح إلا لقوى التأسلم السياسي، التي تمتلك وحدها القدرة المالية على نشر خمسة آلاف اسم مؤسس لحزب في جريدتين شهيرتين، بتكلفة تفوق المليوني جنيه، كخطوة ضرورية فور إخطار لجنة الأحزاب الجديدة بإنشاء الحزب.. الصورة تبدو هكذا هزلية، أن يأتي قانون الأحزاب الجديد بنفس الروح القديمة، وهي روح التقييد والجزع من قيام الأحزاب، مستترة خلف مبرر ضمان شعبية الأحزاب وجديتها، وهي حجة طريفة، خاصة في ظل إلغاء الدعم المالي الحكومي للأحزاب، مادمنا لا ندري حقيقة ما هو الضرر من قيام حتى آلاف الأحزاب غير الفاعلة، فإذا كان محكوماً عليها بأنها غير فاعلة، فماذا يمكن أن يكون الضرر منها، ما لم يرجع هذه الضرر إلى تلك الرؤية المهيمنة، التي تتوجس الشر من أي تجمع وانتظام للجماهير؟!!.. أم نحن بسبيل تمهيد الطريق لسيطرة المتأسلمين الفولاذية، وديموقراطية المرة الواحدة كما حماس في غزة، وكما يتوعدنا السلفيون بأن الديموقراطية كفر، ومع ذلك سوف يؤسسون حزباً لخوض التجربة الديموقراطية التي سوف تولد يتيمة؟!!
على ذات النحو أيضاً من سيطرة وهيمنة القديم الذي ندعي سقوطه، ما نجد في الإعلان الدستوري الذي أسقط إلى غير رجعة الدستور القديم، من اشتماله بغير ما حاجة ولا مبرر على عناصر من موبيقات الدستور القديم، تمس نقاطاً لا نحتاجها أساساً في إعلان دستوري، يفترض أن ينحصر في ترتيبات المرحلة الانتقالية، ولا يتعداها إلى تفصيلات مكانها الدستور الجديد، مثل النص في الإعلان على هوية مصر العربية، وسعيها للوحدة العربية الأسطورية الكوميدية، في استدعاء مستفز للتراث الناصري، ونجد مجلس شوري انتقصت صلاحياته، رغم أنه كاد أن يكون بلا صلاحيات بالأساس، ويكلف الدولة سنوياً ما يقارب نصف مليار جنية.. كما نجد فيه اشتراط نسبة 50% للعمال والفلاحين في تشكيل مجلس الشعب.. هو ذات النفاق القديم، والخوف من العلم والمتعلمين ونحن في القرن الواحد والعشرين، الذي يجري الحديث فيه عن أمية الكومبيوتر.. في ذات الوقت اختفت كوتة المرأة، بما يشي بأمر غير تحقيق المساواة بين الجميع دون امتيازات لفئة على أخرى - والذي هو مطلب ثوري - ليشير إلى روح القوى التقليدية بالمجتمع تلك المعادية للمرأة!!
الأمر بالإجمال الآن في مصر ليس أمر ثورة مضادة كما يردد البعض، فالثوار عن طيب خاطر أو بسذاجة قد أسلموا ثورتهم لقوى المجتمع والدولة التقليدية، حاكمة كانت أو معارضة، ليقوموا وحدهم بعملية البناء المزعوم لمصر الثورة، ولا أدل على ذلك من مداخلة أخيرة أجراها مساعد وزير الدفاع للشئوون القانونية في برنامج تليفزيوني يناقش فيه بعض من النخبة ذلك الإعلان الدستوري الذي انفرد المجلس العسكري بإصداره، واعتبر سيادة اللواء الانتقادات السياسية والفنية للإعلان بمثابة إهانة للجيش ومجلسه العسكري، ومنَّ على حضور النقاش وملايين المشاهدين معهم، عدم تصرف الجيش المصري أثناء الثورة على وجه مماثل لتصرف الجيش الليبي، الذي ظل يضرب ويقتل شعبه حتى أتت القوى العالمية والمحلية لتكسر عظامه!!.. هذا متوقع بالطبع من عقليات عسكرية لا تعرف غير الانضباط والطاعة العمياء للأوامر، وتعد النقاش والنقد والاعتراض خيانة عظمى، وهو المنهج الذي لا يلام عليه بالتأكيد قادة عسكريين، فالمفارقة أو اللوم ينحصر في الملابسات التي جعلت منهم رعاة لثورة شعبية، تقتضي أن تنقلب فيها الأمور، لتكون القاعدة الشعبية هي القائد، ومن يجلس على القمة هو المقود الذي عليه أن يصغي لما يصدر إليه من أوامر تأتي من أسفل!!.. المدهش في مداخلة سيادة اللواء المرعبة هذه، أننا لم نشهد مثل هذه الغيرة على هيبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة إزاء الهجوم الكاسح على مدن مصر وقراها، من قبل هؤلاء الذين خرجوا من سجونهم وجحورهم، ليعملوا فينا تهديداً ووعيداً وتكفيراً، محاولين فرض هيمنتهم على البلاد والعباد، فارضين الأتاوات أو الجزية على الأقباط، ويبدأون في هدم كنيسة في ظل صبر جميل لأجهزة الدولة وجيشها، حتى يتموا على مدى أيام مهمتهم الجهادية المقدسة، ويبدأوا مرحلة تطبيق الحدود بقطع الآذان والرؤوس!!.. كم استشعرت أنا كمواطن مصري انتهاك كرامتي الوطنية وأنا أرى ممثل الجيش المصري العظيم يجلس في مجلس الصلح الذي انعقد في قرية صول بعد هدم كنيستها، وهو يصغي لما يلقى من بيانات وكلمات من قبل ذات أصحاب اللحى الكثة الرهيبة، الذي تشعل مواعظهم كل حين النيران في البلاد!!.. المحزن أن يستمع مندوب القوات المسلحة لمثل تلك الكلمات التي تنزع عن القانون والجيش المصري سلطته، لتنسبها إلى قوى الظلام والإظلام في مصرنا!!
يتصور بعض المفتونين بنظرية المؤامرة أن المجلس الأعلى يفعل ذلك عن عمد، لكي يتمنى ويطلب الشعب عودة نظام مبارك، أو لكي يلجأ الشعب وصفوته إلى الصدر الحنون لجماعة الإخوان المسلمين، لكي تتولى حمايتهم من ذئاب السلفية المتعطشة للدماء والتدمير.. لكن لأن كاتب هذه السطور ممن ينحون نظرية المؤامرة جانباً قصياً، ما لم تظهر دلائل علمية يقينية على وجودها، فإننا نرى ما يحدث في مصر الآن مجرد فشل ذريع للأب البطريرك المجلس الأعلى للقوات المسلحة الموقر!!
استمرار غياب الثوار عن ثورتهم إذن سوف ينتج لنا بنياناً جديداً يكاد لا يمت لأماني الثوار إلا بالنذر اليسير، أما غالبيته فسوف يستمد من القوى والمناهج القديمة، علاوة بالطبع على ما نتخوف منه جميعاً، وهو تمكن القوى الظلامية التي حجمها أو حاصرها النظام القديم في معرض توظيفه لها وتلاعبه بها.. لن يعود الوضع بالتأكيد إلى ما كان عليه، ونتوقع أن يكون المنتظر رغم التشوه المتوقع لملامحه، أفضل في بعض مما سقط من قاموس المصريين السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. نتوقع أيضاً أن يعود الثوار لصنع ثورة جديدة، هذا لو تأخروا لبعض الوقت، حتى يتمكن من البلاد والعباد، ذاك الذي يجري الآن طبخه.. لكنهم لو أسرعوا بالعودة إلى ساحة التحرير وغيرها من ميادين المدن المصرية، فسوف تكون مهمتهم أيسر، إذ ستكون عندها مجرد استرداد ثورة، أي البناء على ما سبق لهم إنجازه.. هكذا يتحدد السؤال في متى أو في أي مرحلة سيعود ثوار مصر من غيابهم؟!!
مصر ndash; الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات