لن تستطيع الحصول على إجابة صحيحة إن كنت تطرح السؤال الخطأ، لهذا بالتحديد تفشل شعوبنا وصفوتنا في التوصل لحلول لمشاكلنا المزمنة، ذلك أنها تقاربها عبر أسئلة مغلوطة عن عمد أو عن جهل، لتكون النتيجة أن نظل ندور حول أنفسنا، وحول ذات أسئلتنا البائسة، ويمكننا على سبيل المثال لا الحصر، استعراض بعض من هذه النوعية من الأسئلة التي تدور بيننا حول موضوع مصيري، هو موقفنا من الانتشار الذي يشهده عصرنا لليبرالية على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية: لماذا لا ننتج نحن توجهاً وثقافة خاصة بنا، بدلاً من قبول تلك الثقافة الغريبة عن مجتمعاتنا؟.. إذا كان الإصلاح الحقيقي هو الذي ينبع من الداخل وليس من الخارج، فلماذا يتم هذا الإصلاح وفق نماذج مجلوبة من الخارج؟.. هل تصلح الليبرالية لمجتمعاتنا؟.. لماذا ينكرون علينا خياراتنا، إذا كانت الليبرالية تعني أن يحدد كل شعب بالآليات الديموقراطية خياره الخاص؟.. أليست الليبرالية تعني الوصول إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف، وقد يكون مزيجاً أو توافقاً بين سائر الاتجاهات المتواجدة بالساحة؟.. كيف نحمي أمتنا من الغزو الثقافي الذي يهدد هويتنا؟.. أليس من حقنا أن نرفض من الليبرالية ما يتعارض مع عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا؟
الخطير والمغلوط في هذا العينة من الأسئلة، أنها تجسد مقاربتنا للموضوع، وكأنه مجرد اقتراح تفرضه علينا قوى خارجية شريرة، انخدع بها نفر منا، انبهروا بحضارة الغرب، فراحوا كالببغاوات والقردة التي تحترف التقليد الأعمى، يحاولون تغريب الشرق وسلب هويته!!
رغم أهمية الحوار والتساؤل لنتمكن من عبور مأزقنا، الذي هو ثقافي بالأساس، والذي لا بد من المسارعة بحسمه قبل فوات الأوان، إلا أن التناول من تلك الأرضية، وما ينتج عنه من أسئلة مغلوطة، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من استحكام ما نواجهه من أزمات على كل الأصعدة، مادياً واجتماعياً وثقافياً، بل ويصبح الحوار ذاته جزءاً أساسياً من الأزمة، وليس أدل على ذلك من أن الصفوة والمعارضة المصرية بأغلبية تياراتها، هي أزمة مصر الحقيقية والعميقة، وليس فقط مجرد استبداد أو فساد بعض أفراد ممن يمسكون بالسلطة.. الأمر إذن مرتهن بداية بالعثور على المدخل الصحيح، فهو وحده الكفيل بعثورنا على الأسئلة الصحيحة التي علينا مواجهتها، وعندها سيكون الطريق ممهداً للتوصل إلى إجابات نحسم بها خياراتنا.
لا يعد من قبيل التبسيط المخل تصور شعوب العالم وقد انقسمت إلى عالمين: عالم الوفرة والرخاء، وعالم الفقر والمعاناة، وإذا كنا بجدارة نصنف ضمن الشطر الأخير، ثم بذات اليقين رفضنا البقاء إلى الأبد في ذلك الواقع البغيض، وقررنا جميعاً دون جدال ومماحكات، البحث بإخلاص عن المناهج والأساليب التي تنقلنا إلى النصف الآخر من العالم، أي من الفقر والمعاناة إلى الوفرة والرخاء، فإنه يتحتم أن نتفق على الترحيب والتبني لما يثبت علمياً وليس عاطفياً، وجوب اتباعه من هذه المناهج والأساليب، ليكون همنا وحوارنا بعد ذلك، هو حول كيفية توفيق أوضاعنا لتفعيل هذه المناهج والرؤى في حياتنا.
إذا كانت جميع التجارب البشرية لتحقيق الرخاء والوفرة قد فشلت وسقطت، لتبقى الليبرالية وحدها هي النموذج القادر على تحقيق الهدف المطلوب، فإن هذا يعني أن تبنيها هو الهدف الذي ينبغي أن نسعى نحن إليه، لا الذي يسعى هو إلينا، أو يفرضه علينا المخدوعون والعملاء، أو تغزونا به تلك القوى العالمية التي تدبر لنا السوء.. فهناك اختيار علينا حسمه، بين التمسك بما نحن فيه منذ الأزل من ثقافة وعادات وتقاليد، تعيد إنتاج نفسها عبر العصور، وتثمر ما نحن فيه ونئن منه فقر ومعاناة، وبين ما نصبو إليه من تقدم يبدل أحوالنا، والطريق إليه واحد كما أثبتت التجارب الإنسانية وهو الليبرالية، أي أنه خيار تحت مبدأ: quot;إما.. أو.. quot;، والمزيد من إهدار الوقت في التردد وعدم حسم الخيارات، لن يؤدي إلا للمزيد من صعوبة الأمر وتعقيده وربما استحالته.. عند هذا بالتحديد يكون السؤال الصحيح ليس quot;هل تصلح الليبرالية لنا؟quot;، وإنما quot;هل نصلح نحن لليبرالية؟quot;.. على مستوى المبدأ، يزعم الليبراليون الجدد أننا نصلح لليبرالية، ثقة منهم في أنفسهم وفي قومهم، فشعوبنا ليست بخصوصيتها التي يتحدثون عنها، حالة شاذة بين كافة الشعوب والأجناس من شرق العالم لغربه، والتي سارت في طريق الليبرالية باستقامة، لاشك مع تنوعات هامشية تفرضها طبيعة هذه الشعوب، لكنها لا تمس جوهر أو صميم النهج الليبرالي، كما هو مطبق في مواقع إنتاجه في العالم الغربي.. لكن على المستوى العملي فإن تحقيق الأمر كاملاً وبالسرعة المبتغاة يواجهه صعوبات جمة، لا تصل به بالطبع إلى تخوم المستحيل، إذ يمكن أن يتحقق تدريجياً، بشرط توافر الإصرار والإخلاص في تحقيق الهدف بأسرع ما يمكن، تحاشياً للمزيد من الفجوة بيننا وبين العالم المتقدم.
إن أي انتقاص في التطبيق الليبرالي لصالح ما يسمى بهويتنا وخصوصيتنا، سيؤدي إلى أحد أمرين لا ثالث لهما، إما إلى إفشال مشروع الإصلاح كله، إذا كانت جوانب الانتقاص من الليبرالية جوهرية.. أو إلى الحد من حجم النجاح في تحقيق ثمار التقدم المرجوة، إذا كانت جوانب الانتقاص من التطبيق الليبرالي ثانوية، ومن ثم لا مجال للحلول التلفيقية، مثل ما يسمى بالجمع بين quot;الأصالة والمعاصرةquot;، أو بحل وسط يرضي جميع الأطراف، أو بالاستخدام الممسوخ لآلية الديموقراطية، لإعمال عمليات جمع وطرح حسابية، تقرر فيها الأغلبية -التي هي متخلفة بواقع الحالndash; أي طريق نسلك، لنعيد إلى ما لانهاية تجاربنا وتجارب الإنسانية الفاشلة، أو كما يقول البعض نعيد اختراع العجلة من جديد، في إصرار أحمق على طحن الهواء، وتعذيب الذات.
في المقابل لا بأس من القناعة على المستوى العملي بقدر التقدم الممكن تحقيقه، بناء على أقصى مدى تسمح به طبيعة الشعب ومدى تشبعه بتراثه، من حيث إمكانيات توافقه مع القيم الليبرالية، فنحن أو أي أمة مهما بلغت حيويتها، لا تملك تغيير ما بنفسها تغييراً كاملاً فورياً، على أن لا يكون هذا الموقف من قبيل الإصرار على الجمود وعلى عشق التخلف الحضاري، الذي تدرجه شعوبنا في عداد المقدسات والثوابت، وإنما من قبيل الواقعية التي لا يُرحب فيها بالإصرار على طلب المستحيل، وإن لم يمنع ذلك طموحنا من السعي للزحف نحوه، على الأقل كموقف مبدئي، فأغلب إنجازات البشرية الآن، كانت في يوم مضى مدرجة لدى البعض في عداد المستحيلات، ولم تخرجها للنور إلا قلة لا تعترف بهذا المسمى مستحيل.
من الحمق التردد بدعوى البحث عن منهج للتطور من إنتاجنا الخاص، لأن نهجنا الخاص هو ما نحن فيه الآن، والإصرار على مثل هذه المحاولات بلا نهاية هو إصرار على المزيد من الفشل، وأشرف منه قبول واقعنا المزري، على أن نعلن ذلك بوضوح، وليس من خلال خداع الذات بإيهام أنفسنا أننا نسعى للتقدم، فيما نحن ندور في حلقة مفرغة، بل وتؤدي فيها تحركاتنا إلى المزيد من تعميق قبورنا.
هكذا لابد وأن ندير ظهورنا لجميع التساؤلات المغلوطة، تلك التي طرحنا بعضاً منها في بداية المقال، وأن نعي أن أغلب ما يدور بالساحة من حوارات حول الإصلاح والليبرالية، ويكون أحد أطرافه دهاقنة القديم من سلفيين دينيين وقومجيين، هي حوارات خارج الموضوع، لأنها تتناول الأمر من الوجهة الخطأ، كأن المريض يبحث مدى مناسبة طعم الدواء لحاسة تذوقه المقدسة، ومدى مناسبة مكوناته لقواعد ما يجوز وما لا يجوز له ابتلاعه في فمه ومعدته الخاصة، والمحروسة بقائمة لا نهاية لها من الثوابت والمحرمات، بدلاً من أن يهتم بإعداد نفسه للانضباط الكامل لتعليمات تعاطي الدواء، والقلق حرصاً على قابلية جسده للتفاعل الإيجابي معه، تحقيقاً لأقصى استفادة ممكنة!!
أما لو كان الماضي أعز علينا من المستقبل، وكان الأجداد أولى برعايتنا من الأبناء والأحفاد، وإذا كنا نقر أو نعترف أو نصر على أننا كائنات ترفض وتستعصي على التغيير، فإن لنا أن نتجاهل الأمر برمته، ونغلق علينا مخادعنا أو كهوفنا، انتظاراً لمصيرنا الذي قد يحل سريعاً، وقد يتلكأ بعض الشيء.. عندها لا بأس من اليأس التام من هذه الحياة الدنيا، انتظاراً للنعيم في الحياة الآخرة.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات