تكاد كلمة quot;البرجماتيةquot; تكون أكثر الكلمات استخداماً للسب أو القدح من قبل مثقفينا أو بالأحرى متثاقفينا، فالكثيرون لم يتعرفوا عليها إلا كمفردة مميزة في قاموس زاخر بنعوت السباب، ذلك الذي يعزى الفضل في تأليفه إلى مناضلينا اليساريين والعروبيين عبر عشرات السنين من النضال الحنجوري.. يعرفون الكلمة وكأنها مرادف للانتهازية والأنانية الدنيئة، وكأحد علامات التلوث بالغزو الثقافي الإمبريالي، ويا حبذا لو ألحق بهذا وصف الأمريكي والصهيوني!!
بالتأكيد يجهل هؤلاء الأشاوس حجم الخسارة التي تلحق بشعوبنا، نتيجة لجهلها أو افتقادها للفلسفة والمنهج البراجماتي في التعامل مع الواقع.. ليس بالطبع أدل على فداحة هذا الافتقاد، أكثر مما نراه سائداً في ساحتنا العروبية من خيارات وشعارات، هي بجدارة الأسوأ والأكثر وبالاً من أي خيار آخر يمكن أن يكون متاحاً لنا.. كما أن هذا الافتقاد طبيعي في ظل ثقافة تختار قرع الطبول حتى لو كانت بلا حروب، أو القعقعة التي لا يتحتم أن يصاحبها طحن.. حيث نغرم بالطريق، دون أن نكترث كثيراً أو قليلاً بما يمكن أن يؤدي بنا إليه، ونغرم بأهمية تسجيل المواقف، بغض النظر عن جديتها أو جدواها.
كان أول صاحب أراء برجماتية الطابع هو المنطقي والفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس (1839 ndash; 1914 م)، ولكن المذهب البرجماتي ظهر في صورته الواضحة على يد وليم جيمس (1842 ndash; 1910م)، والذي يعد مؤسس هذه المدرسة ورائدها.
quot;أشهر ما تقدم به وليم جيمس من مذاهب هو البرجماتية، وهي التي ترى أن الفكرة تكون صحيحة حين تؤدي إلى إدراك موضوعها، وأن القضية تكون صحيحة حين تؤدي إلى نتائج نافعة إذا نحن قبلناها، وحين تثبت أنها قابلة للعمل، وقد استخدم جيمس للتعبير عن هذا التحقق العملي كلمة quot;Cashquot; (النقد المعدود)، وقد أساء كثيرون فهم المقصود بها. أما quot;المنفعةquot; فإن وليم جيمس لا يقصد بها إشباع الحاجات المادية للفرد وحدها، بل يقصد كذلك كل ما يساهم في تألق حياة الإنسان والمجتمع. ومن هذه الوجهة للنظر فإن عقائد الدين صحيحة تماماً في نظر وليم جيمس، وهو يرى أنه ينبغي الحكم على الدين لا بشيء إلا بنتائجه.quot; (عالم المعرفة- العدد 165 ص 196)
quot;تنحصر البرجماتية في القول بإنكار أن تكون المعرفة نظرية وتأملية خالصة، وفي القول بإرجاع الحقيقة إلى المنفعة. ولكن كل واحد من البراجماتيين يعرض هذه المبادئ على نحو يختص به هو، وعلى درجات تختلف فيما بينهم. وعلى حين أن التيار الأكثر تشدداً يعلن أن القضية الصحيحة هي التي تؤدي إلى نجاح فردي، فإن التيار الأكثر اعتدالاً يرى أن الحقيقي هو ما يمكن التحقق من صدقه بوسيلة الوقائع الموضوعية. وسواء كان هذا أو ذاك، فإن كل براجماتي يرى أن المنفعة والقيمة والنجاح هي المعيار الوحيد للحقيقة، وهي أيضاً بصفة عامة جوهر الحقيقةquot; (المصدر نفسه ص 193)
فلسفة الحياة تدعم البرجماتية في تيارها الأمريكي- الإنجليزي، quot;وترى هذه الفلسفة الحيوية البرجماتية أن الحقيقة لا تعرف الثبات، بل هي تسيل وتخلق ألواناً من الخلق الحر، ويعجز العقل عن إدراك هذه الحقيقة، وتقوم كل معرفة على أساس التجربةquot; (المصدر نفسه ص 194)، هكذا غدت البراجماتية العماد الأساسي للتطور والتحديث الجذري والمستمر، فهي تنطلق من المنافع المتحققة، لاستحداث منافع جديدة إلى ما لانهاية، هذا يختلف بالطبع عما هو متاح عبر التقيد بالاستنباط من أوليات معرفية ثابتة أو محدودة، تحد بالتالي من إمكانيات التطور ومداه.
الفلسفة البرجماتية شأنها شأن الكثير من الأفكار الخلاقة هي اسم وبلورة جديدة لأفكار قديمة، ربما قدم حضارة الإنسان، فنحن جميعاً نعرف عبارة quot;النجاح دليل الصلاحquot;، التي يستهجنها المثاليون والمتحذلقون وأسيروا المرجعيات النظرية، علمانية كانت أم ميتافيزيقية؟.. ألم يكن سعي الإنسان دوماً هو سعي هادف لتحقيق المصلحة، ولولا التزامه بتحقيق أهدافه، وبخياراته التي كانت دوماً ملتزمة بهذه الأهداف، هي ما أوصلته إلى ما وصل إليه؟!!
في حين أن سائر الفلسفات ومناهج التفكير المنطقي تعتمد على التدليل على صحة القضية تدليلاً قبْلياً، عبر الانطلاق من بديهيات ومسلمات وقضايا أولية، لتخرج منها بالرأي المستهدف في موضوع البحث، وفي هذه المنطقة بين المقدمات والنتائج يدور الجدل والخلاف، سعياً لأدق وأصح استنباط ممكن، فإن البرجماتية برهانها بعدي، فهي لا يعنيها الاستنباط من أوليات، سواء كانت مقدسة أو علمية، إذ تركز في الحكم على مدى حقيقية الرأي أو القضية، على أساس اختبار النتائج المترتبة على تطبيقها على أرض الواقع، وقد يتم هذا بتطبيق تجريبي محدود، أو بالحساب العلمي للنتائج المتوقعة، والتي قد تأتي مطابقة لتطبيق العملي أو مختلفة عنه بدرجة أو بأخرى.
يختلف هذا بالطبع عن الاستخدام الانتهازي أو الأناني للمنهج، والذي قد يقترفه فرد طبيعي أو معنوي، حين يتجاوز به حدود حرياته القانونية، فيتعداها إلى التطاول أو الاعتداء على حريات وحقوق الآخرين، لتحقيق منفعة خاصة قصيرة المدى، بما يوقع الضرر بآخرين، لا يحسب لهم حساباً عند تقييم نتائج ما أقدم عليه، فعلاقته مثل هذا النهج بالبرجماتية لا تزيد عن علاقة أي منحرف أو محتال بأي فكر آخر، سواء كان فكراً مثالياً أو ميتافيزيقياً.
الغريب في الأمر أن البرجماتية الغائبة والمستهجنة في الخطاب والشأن العام في منطقتنا، حاضرة في نفس الوقت وفاعلة في الشأن الشخصي للأفراد، فلا أظن أن أحداً في مجتمعاتنا يحتاج لهذا الدرس في البحث عن المصلحة فيما يختص بحياته الشخصية، لكن المشكلة هي في الازدواجية التي اعتدنا على الحياة في ظلها.. هناك خطاب غير منطوق به يسيرنا باتجاه مصالحنا الشخصية، وخطاب رسمي في المجالس والمنابر بمستوياتها المختلفة، بدءاً من العائلي حتى أعلى المستويات السياسية، نتشدق به ونزايد ونتزايد في أحاديث وشعارات وأوهام مستمدة مما نظنها ثوابت أخلاقية أو إيمانية أو تاريخية أو وطنية، لتنحصر مجادلاتنا العقيمة في مدى صحة هذا الاستنباط أو ذاك، ونصل فيها أحيانا إلى حد التكفير أو التخوين أو التجهيل لبعضنا البعض، لكن دون أن نتطرق إلى تقييم نتائج التطبيق، أي انعكاس ما نقول على المصلحة سلباً أو إيجاباً.
ويتملكنا العجب حين نرى مثلاً كبار المناضلين دفاعاً عن القطاع العام في مواجهة ما يسمونه بالرأسمالية المستغلة، يعمل أبناؤهم في شركات أجنبية تدفع لهم أجورهم بالدولار، ومن يدافعون عن مجانية التعليم يدفعون أيضاً بالدولار أو ما يوازيه، ليتلقى أبناؤهم العلم في مدارس حقيقية، ومن يتصايحون بالعداء لأمريكا والغرب، لعدائهم لشعوبنا وكراهيتهم للعرب والإسلام، مبشرين بقرب انهيار الحضارة الغربية التي وصلت حسب تصوراتهم أو ادعاءاتهم إلى مرحلة الانحلال، هؤلاء إما يعيشون في الغرب طلباً للأمان أو تمتعاً بالرفاهية والحرية، أو يعيش أبناؤهم هناك، أو يسعون ولو في أحلام يقظتهم للهروب من جحيم الشرق وتخلفه، إلى جنة الإنسان في العالم الغربي!!
لنا أن نتخيل لو كانت البرجماتية حاضرة في ذهن القادة العرب عام 1947، هل كان سيتم رفض قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود؟.. أو هل كنا سنصل الآن إلى اللهاث وراء ما يعرف بحدود 4 يونيو 1967؟.. نقول هذا ومازال مسلسل الهدر والإهدار لفرص حل هذه القضية مستمراً، رغم أن الجماهير الفلسطينية المنتجة والمؤيدة لمنظمات مثل لحماس والجهاد وكتائب شهداء الأقصى، والتي تنتشي بسفك دماء المدنيين الإسرائيليين، تلك الجماهير ذاتها تسعى لمصالحها حين تقف في طوابير طويلة أمام المعابر، محتملة كل صنوف المعاناة، لتذهب للعمل في إسرائيل، لتكون عنصراً لا يستهان به في تدعيم الاقتصاد الإسرائيلي، لأنها إذ تفعل هذا تدعم اقتصادها الأُسري، وفق قانون تبادل المصالح، الذي هو قانون طبيعي أزلي، يستعصي على الشعارات والأفكار والأيديولوجيات، ولا يفرق هؤلاء العمال الذين يعولون أسراً لا تقيم أودها الشعارات، بين العمل في المصانع الإسرائيلية أو في بناء المستوطنات أو الجدار العازل، ناهيك عن قيام الفلسطينيين منذ البداية وحتى الآن ببيع أراضيهم وبيوتهم للإسرائيليين، مادام الثمن المعروض مرتفعاً بما يكفي لتجاهل شعارات وتوجهات تدفع بعكس مصالح الشعوب.. هذه المواقف الشخصية للشعب الفلسطيني لا ترجع لقصور ومحدودية رؤى عامة الناس، في مقابل وعي وشمولية ووطنية رؤى المناضلين الأشاوس، فلو التزم القائمون على الأمور ومعهم أصحاب الحناجر العظيمة بالمصلحة كمقياس لصدق دعاواهم، لاستطاعوا خلق واقع لشعوبهم، يتوافق فيه صالح الفرد على المستوى الشخصي والآني، مع الصالح العام والمستقبلي، لكنهم بحماقة انتحارية منقطعة النظير يتحركون في عكس اتجاه المصلحة، التي لا تدخل من الأساس في حساباتهم المتسامية.
هي البراجماتية إذن ما نحن في مسيس الحاجة إليها للخروج من ورطتنا الحضارية هذه، فهي البوصلة التي لا تخيب، والقادرة أن تدلنا إن كنا نتجه بالفعل نحو أهدافنا، أم أننا نتجه نحو الضياع.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]