قد يبدو العنوان للبعض غريباً، فهو يجمع بين quot;العلمانيةquot; كموقف أو منهج للحياة، وبين quot;البرجماتيةquot; كفلسفة تعتمد صحة القضية على أساس برهان بعدي تجريبي، بما قد يثير التشكك في منطقية استخدام الشطر الثاني كوصف أو تصنيف للشطر الأول، لكننا نأمل أن يزول هذا التشكك أو الالتباس في فهم المقصود، بعد استعراض هذه السطور.
بصورة عامة المحمول التاريخي والمعاصر للفظ quot;علمانية quot;، يعبر عن موقف مقابل للفكر والنظرة الدينية أو الميتافيزيقية للحياة بسائر علاقاتها.. فالعلمانية تنتزع الإنسان من الاعتماد الحرفي على مرجعيات نصية دينية، ليخرج إلى الفضاء الرحب، يصوغ حاضره ومستقبله بيديه، مستعيناً بقدرته على التفكير والإبداع، وبذخيرة خبراته المتراكمة على مدى مسيرة تحضره.. هكذا تتيح هذه النقلة للإنسان أمرين أساسيين، أولهما التحرر من الارتباط بمرجعية ثابتة، كانت بمثابة أغلال تربط قدمي الإنسان إلى أوتاد ثابتة ومقدسة، وهو يحث الخطى في مسيرة التطور، فيما يعني التطور المحاولة الدائمة للإفلات من أنساق الأمس، بحثاً أن نظم وعلاقات جديدة، تكون أكثر اتساقاً مع مايحدثه في محيطه الحيوي من تغيير.. وتزاد تلك النقلة إلحاحاً، مع عجز النصوص على مجاراة التطور، وتحولها إلى حجر عثرة في طريقه، أو ربما إلى سد يمنع تماماً استمراره.. يحدث هذا طردياً مع بعد الفترة الزمنية المعاشة، عن الزمن الذي نبتت في سياقه تلك المرجعيات، وهو الأمر الذي يتفاقم مع توالي السنين والقرون، على مسيرة إنسانية لانهائية الامتداد.. والأمر الثاني الذي تحققه النقلة العلمانية، هو تسلح الإنسان بآلية العلم، يتعامل بها مع حقائق الحياة، بعد تخلصه من أوهام وتصورات ساذجة، موروثة من مراحل طفولة وظلام العقل الإنساني.
هكذا كان من المفترض أو المأمول أن تتقدم الشعوب التي اعتنقت العلمانية على الأقل منذ القرن التاسع عشر، بخطوات سريعة وفي خط مستقيم للأمام، لكن هذا لم يحدث، ولم تفض النقلة العلمانية بمفهومها السابق بالإنسان إلى الانتقال المباشر والسهل إلى عالم الحرية والإبداع.. لم تتحقق تلك الصورة المثلى كاملة وبذات القدر من الاتساق لدى جميع الشعوب، فقلد أهدرت البشرية خلال القرن الماضي جهودها في ثلاثة حروب كونية بين جبهات علمانية، اثنتان منهما ساخنتين والثالثة باردة، خسرت فيها ملايين الأرواح، وما لا يقدر من مجهودات سخرت للتدمير بدلاً من التشييد والتطور والإبداع، فأين الخلل هنا؟.. من التسرع نسبة ذلك الإحباط إلى فشل الإنسان، أو فشل الحرية الإنسانية في تحقيق الفردوس المنشود، لأن الإنسان يوم تحرر من الميتافيزيقا ونصوصها الثابتة المقدسة، لم ينتقل في الحقيقة إلى عالم الحرية، فالعقل الذي تم تمجيده في القرن الثامن عشر وما تلاه، تصرف كطاغية يتصور لنفسه من القوة والقدرة على الهيمنة، ما أدى به لأن يماثل أو يفوق أنساق الطغيان السابقة.. نقصد شغف العقل الإنساني بالرؤى الشمولية لكل مظاهر ومقومات الحياة، وغرامه بالنظريات القادرة على تفسير جميع الظواهر، لينطلق منها إلى التنبؤ بالمستقبل، فكان أن اقترف اختراع الأيديولوجيا، التي كانت البديل العلماني للميتافيزيقا، واحتلت عرشها،، لتلعب نفس الدور القديم في تكبيل الشعوب، ليكون العقل هذه المرة هو المتحكم المتسامي الجبار، الذي يسعى لفرض إرادته وتصوراته المفارقة على العالم، كأنما يريد أن يخلقه من جديد.
كان على الإنسان في العهد الجديد وفق ماركس وإنجلز مثلاً، أن يخضع للضرورة المادية المدعاة، وأن يصدق أو يؤمن (سيان) بالصحة المطلقة للتفسير الاقتصادي للتاريخ الذي تفتق عنه ذهنهما العبقري، ويلاحظ أن الأمر قد تمت صياغته بصورة مقدسة، فلم يكن مجرد رؤية تحتمل إلى جانبها رؤى أخرى، قد تفوقها في جوانب، وقد تكون دونها في جوانب أخرى، لكن كحق مطلق لا يأتيه الباطل، قسم العالم بموجبه إلى معسكرين لا سبيل للتلاقي بينهما.. المستقبل أيضاً قدمته لنا نفس الفكرة العبقرية النبوية ككتاب مفتوح، على غلافه عبارة: quot;حتمية الحل الاشتراكيquot;، وكانت النتيجة أن نجا الإنسان من اتهامات بالهرطقة والإلحاد، ليواجه باتهامات مماثلة بالرجعية والعداء للطبقة العاملة وما شابه.. نحن غير معنيين هنا بتوجيه النقد للماركسية بذاتها، فهذا يخرج عن مجال هذه السطور، إنما نقصد الأيديولوجيا عموماً، باعتبارها محاولة لوضع رؤية شمولية لحقائق الحياة، وهي محاولة نراها وفيرة المثالب، فهي تريد أن تفرض على العالم اتساقاً مصطنعاً ليس له وجود على أرض الواقع، فهذا الاتساق والشمولية مجرد وهم وهوس إنساني، يرجع إلى حيرة الإنسان واضطرابه في مواجهة التنوع والزخم الوجودي الهائل، كما لو كان يسبح في محيط واسع بلا نهايات ولا شطوط، تتعدد فيه التيارات وتتضارب الأمواج، فيحلم بأن يتحول ذلك المحيط إلى نهر منتظم يسير في خط مستقيم.
هذا الحلم الأحمق قد أرق الفلاسفة منذ القدم، فشرعوا في صياغة الأفكار والنظريات، ليحولوا فوضى العالم إلى نظام، وتنوعه إلى أحادية نمطية تكرارية.. مثل هذا الموقف لا يختلف عن الأوهام الميتافيزيقية، ويخلف حال تطبيقه فشلاً وفوضى، عوضاً عن الانتظام المنشود.. فعالمنا ليس أكثر من عدد هائل من الشذرات، قد ينجح العقل الإنساني نجاحاً جزئياً في إيجاد تصور يضفي على بعضها نوعاً من الانتظام، في مجالات محدودة ولأغراض محددة، وسرعان ما تتلاشى صلاحية ذلك الانتظام إذا ما تجاوزنا تلك العناصر عداً وحصراً، وإذا ما خرجنا ولو قليلاً عن الأغراض التي أثبت التصور الموضوع صلاحيته العملية لها.
تقدم الأيديولوجيات كذلك للإنسان يقيناً مماثلاً لليقين الإيماني الذي تم تجاوزه، لكن اليقين هذه المرة يرتدي مسوح العلم والعقلانية، ولعلنا لا نجادل الآن بعد أن تعرفنا على نظرية اللاتحديد أو عدم اليقين عبر تركيب الذرة، التي لا نستطيع تحديد سرعة وموقع الإلكترون فيها في ذات الوقت، أنه لا يقين في العلم، وأن اليقين العلمي وغير العلمي وهم من أوهام الماضي، فمهما قال المدافعون عن المادية الجدلية بأنها ليست بالأساس دوجما، وأنها منهج ديالكتيكي لصراع المتناقضات، فإن هذا صحيح كوصف لبناء النظرية، لكن تبقى الدوجما وصمة عندما تفرض علينا النظرية قراءة واحدة للماضي الإنساني، وتتنبأ لنا بمستقبل محدد للمسيرة الإنسانية بمقولة حتمية الحل الاشتراكي.. في ظل الأيديولوجية أيضاً يتخلى العقل الإنساني عن حريته، حين يقتصر المدى أو النشاط الذي يذهب إليه، على مجرد تطبيق النظرية، وفي أحسن الأحوال إعادة تفسيرها أو تأويلها، وهو نفس الوضع الذي ظن الإنسان أنه قد تخلص منه حين انتقل من أسر الميتافيزيقا إلى رحابة العلمانية.. ونحن هنا لن نتعرض للتجاوزات أو الجرائم في حق الإنسان، والتي ارتكبتها النظم الشمولية التي اعتنقت تلك الأيديولوجيات، لأنها في نظر البعض تدخل في نطاق مساوئ التطبيق، وإن كنا نعدها نتاجاً طبيعياً لشمولية النظريات.
quot;العلمانية البرجماتيةquot; التي نقصدها هي علمانية الألفية الثالثة، والمختلفة تماماً عن علمانية القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فهي تحرر للإنسان من جميع الرؤى التوحيدية الشمولية، سواء كانت ميتافيزيقية أو عقلانية، هي تحرير للعقل من ذاته، فهو الذي ابتكر هذه وتلك.. هي علمانية تطلق العقل من إسار تكاسله واعتماديته على قوى غيبية، وتطلقه في نفس الوقت من إسار أوهامه الخاصة، ومن تصوراته الخرافية بقدرته على فرض نماذجه المتخيلة على الواقع المادي بمعزل عن ذلك الواقع، هو سقوط لليوتوبيات بكل أنواعها.. quot;العلمانية البرجماتيةquot; تضع العقل الإنساني أمام إمكانياته الحقيقية، غير منقوصة ولا مزيدة، فهو قادر فقط على إدراك وتحليل واكتشاف العلاقات بين عناصر الواقع، وقادر على تكوين أعداد لانهائية من العلاقات الجديدة، عبر تشكيل منظومات تشمل أعداداً مختلفة من العناصر، فتجاور العناصر يزيد من عدد العلاقات، وتجاور العلاقات وتأثيراتها المتبادلة يخلق علاقات جديدة، ليحصل الإنسان دائماً على ثروات لا تنضب من العلاقات المادية/ الإنسانية الممكنة، يوظفها باتجاه التطور والتحديث المستمر، للحصول على غد لابد أن يكون أفضل من الأمس.. لكن معيار الصدق/ الزيف، أو الصواب/ الخطأ، ليس معياراً قبلياً نظرياً، يقيم فيه العقل ذاته، كذئب يمسك بذيله في فمه، ويدور حول نفسه إلى مالانهاية.. فالتجربة والبرهان البعدي هما أساس التقييم الوحيد، والهدف هو المرجعية التي تقاس عليها النتائج، وليس مدى الالتزام بالنظرية المقدسة، علمانية كانت أو ميتافيزيقية.
ربما كان هذا بالتحديد هو ما ينقصنا في الشرق أن نعيه، أن نفك رباطاتنا بكل المرجعيات، وأن نسبقها لنحدد أهدافنا الحياتية، وشكل المستقبل الذي نريده لأبنائنا وأحفادنا، نبحث عن أنسب وأيسر وأقصر الطرق المتاحة للوصول إلى تلك الأهداف.. وخلال ذلك نهجر بصورة مستمر كل الطرق والوسائل غير الفعالة أو الفاشلة.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]