ينظر الكثيرون منا الآن لما حدث في تونس من ثورة شعبية أثمرت هروب من اعتبرته الجماهير طاغية، نظرة يشوبها الإعجاب والأمل، وأيضاً الإشفاق وربما الحيرة. . الإعجاب والأمل مفهوم ولا يحتاج لإيضاح، والإشفاق أيضاً محدد بالخوف من حدوث فراغ وسيادة فوضى أمنية، تسرح فيها العصابات الإجرامية وتمرح، ممارسة لعمليات نهب وسلب للمواطنين الآمنين، خاصة مع هروب أعداد من المساجين الجنائيين من سجنين تونسيين شهيرين، واستسهال آخرين ممارسة الإجرام، في ظل اختلال هيكل وأداء الأجهزة الأمنية. . أما الحيرة فهي موضوعنا في هذه السطور.
يركز الفكر السياسي الشائع في منطقتنا شعبياً وربما أكاديمياً أيضاً على رأس الحكم. . على نموذج الطاغية الذي يجلس على القمة في الكثير من بلاد المنطقة، ونتصور أنه يحرك الجميع كما لو لاعب وحيد بدمى الماريونت، يفرض عليها وعلينا تمثيلية محددة، ليبدو الأمر هكذا واضحاً لمن ينشد الحرية والحياة السياسية الصحية، وهو أن التخلص من ذلك اللاعب الفذ، يعني أن تأخذ الأمور بعدها تلقائياً مسارها نحو تحقيق كل ما تصبو إليه الجماهير من آمال سياسية واقتصادية. . هذا بالطبع لم يحدث في العراق وقد تحرر بواسطة قوى التحالف، حتى مع حل وتجريم حزب البعث والاستئصال الكامل لقياداته. . الآن وقد تحقق لتونس بقواها الذاتية وثورتها الشعبية التخلص من الطاغية وعائلته، وتجري محاولة تشكيل حكومة مؤقتة يقال أنها حكومة وحدة وطنية، مهمتها الإعداد القانوني لإجراء انتخابات نيابية ديموقراطية، علاوة على ما تم إعلانه من رفع القيود عن حرية الإعلام وتشكيل الجمعيات والأحزاب، فهل نكون هكذا قد وصلنا أو على وشك الوصول إلى تخوم فردوس الحرية والحداثة والتقدم؟!. . واضح من تحركات الجماهير التونسية التي مازالت تتظاهر ضد تشكيل تلك الحكومة، وإن لم يكن بذات الزخم الأولي، وواضح أيضاً لنا نحن المراقبين لما يجري، أننا ربما لا نكون على بداية الطريق نحو جني ثمار ثورة شعبية تحررية، وإنما من بين الاحتمالات التي تعصف بالرؤوس أن نكون على بداية العودة إلى حيث كنا، أو حتى نكون كمن يسير محلك سر، كما يمكن بالطبع أن تتحقق بدرجة أو بأخرى آمالنا في مستقبل حر وحداثي لذلك الشعب الذي صار الآن رمزاً للحيوية والقدرة على الفاعلية السياسية.
نجد حزب التجمع الدستوري الذي حكم الطاغية البلاد عن طريقه مازال هو المسيطر على الوضع السياسي، بوزيره الأول الذي يعدنا الآن بالحرية وقيادة مسيرة التغيير، يصاحبه رموز من الحزب يمكن أن نطلق عليها لقب quot;الحرس القديمquot;، تحتل رأس الوزارات السيادية الخطيرة الثلاث في حكومة الوحدة الوطنية المقترحة، وهي الخارجية والدفاع والداخلية، وبقاء عدد من الوزراء السابقين في مواقعهم، بالإضافة إلى قيادات ما يعتبره الشعب التونسي أحزاب quot;معارضة هيكليةquot;، أي كيانات كانت مكملة لطغيان الطاغية عن طريق قيامها بلعب دور معارضة مستأنسة، تجمل الوجه القبيح للحكم، بأكثر مما تسعى حقيقة لتغييره. . ولغرض التجميل لتلك التشكيلة التي تبدو باعثة على اليأس أكثر من الأمل، ضمت حكومة الوحدة الوطنية بعض رموز حقوقية ونقابية، ليلعبوا أدواراً تبدو حتى الآن هامشية، سواء لضآلة ثقلها في التشكيلة الحاكمة، أو لطبيعة الدور المنوط بها. . ونرى تعثر تمرير هذه التشكيلة التي تعد خدعة من النظام الذي أطيح برأسه، للاستمرار في القبض على مقاليد الأمور، كما نشهد تراجعات بعض المرشحين للانضمام إلى تلك التمثيلية الطريفة، بعدما أدركوا ما تشكله من تهديد أو تبديد للآمال.
واضح ربما وإن كان ليس للكثيرين، أن المطالبة بالاستبعاد التام للمنتمين لحزب التجمع الدستوري، هو مطلب يتنافى مع الدعوة إلى الحرية للجميع، بالإضافة إلى استحالته العملية. . فهذا الحزب أياً كانت طبيعة تشكيله وظروفها، يضم أكبر تجمع من أبناء تونس، وأقصى ما يمكن عمله في هذا الشأن هو محاكمة الرموز التي قامت بارتكاب جرائم ضد الشعب التونسي. . واضح أيضاً أننا هكذا لسنا في مستهل موسم الحصاد لنتائج ثورة شعبية أو برتقالية، وأننا على الأكثر في مفارق طرق، يمكن أن نذهب بعدها إلى أكثر من اتجاه، بما فيهم الاتجاه إلى الخلف.
إن نظرة عامة الآن للساحة التونسية وقد خلت من الطاغية ودائرته الضيقة، والذي اعتدنا أن ننسب لمثله كل الموبقات والبلايا، تكشف لنا الحقيقة التي غفل عنها كثيرون، وهي أن هذا الطاغية وإن كان يمكن نسبة حالة التردي السياسي إلى ممارساته القمعية، إلا أن النتيجة المتحصلة هو أن البيئة بمختلف مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية قد توافقت مع حالة الطغيان المكروهة، بل وصارت الداعم الحقيقي لاستمراريتها وانتاجها في كل لحظة، بحيث صار القابضون على زمام الأمور مرتبطين بتلك البيئة بعلاقة عضوية، بمعنى أن تغيير الأشخاص والأمر هكذا، لن يؤدي لتغييرات جذرية كفيلة تلقائياً بتغيير الحالة الراهنة، وأقصى ما قد تؤدي إليه عملية التخلص من الطغمة الحاكمة هو فتح بوابة لاحتمالات عديدة، يقلل من احتمال أن يكون المطلوب في مقدمتها، طبيعة البيئة المنتجة للطغيان والجمود، وإن بواسطة أشخاص جدد هم أبناء ذات البيئة المنتجة أو المتوافقة لنصف قرن مع طاغيتين مخلوعين.
لا نهدف إلى إنكار أو تجاهل العناصر الحرة والمستنيرة بحق داخل مكونات الشعب التونسي، الذي أجبرنا بما أقدم عليه وأنجزه أن نلقبه quot;بالشعب البطلquot;، لكننا نرصد أن نسبة هؤلاء ضئيلة، مقارنة بحجم وقوة الناشطين في الساحة السياسية، الذين لعبوا دوراً مباشراً في تدعيم الهيمنة، سواء بانخراطهم في مواقع السلطة، أو في تشكيلات حزب التجمع الدستوري، أو تشكيلات المعارضة الهيكلية أو المستأنسة الموالسة. .. أيضاً أجواء الكبت والطغيان التي سادت تونس لما يقرب من نصف قرن، وضعت بلاشك حدوداً وقيوداً على روح الابتكار والجرأة على ظهور أفكار حرة جديدة بحق، فهذه حتى لو توصل إليها بضع أفراد قلائل، لم تكن لتجد آذاناً صاغية من جماهير تعيش في بيئة كبت وقهر، حتى لو كانت مثل تونس متواصله مع عالم الحرية في الشمال. . فمحافظة الجماهير وميلها للتقليد والقديم لابد أن تكون سمة مثل تلك المجتمعات، حتى لو تذمرت أو ثارت من أجل الخبز وضيق سبل الحياة، بحيث نجد الآن أن مشكلتنا الحقيقية هي الحالة المتردية للمجموع الكلي للساحة التونسية، وأن سائر الساحات السياسية في كل دول الجوار العربي لا تختلف عن تلك الحالة إلا من حيث الدرجة، تخلفاً بالطبع وليس تقدماً.
هكذا لو صحت نظرتنا، فإننا يمكن إذا ما أجرينا عملية حصر وجمع وطرح لسائر القوى والتوجهات في تونس، أن نصل إلى اليأس من إمكانية التقدم للأمام، وقد نقرر ببساطة مخلة لاجدوى تلك الثورة الشعبية الرائعة بحق، هذا ما لم ننساق في التشاؤم إلى توقع وثوب الإسلاميين على السلطة، ليحيلوا فجر ثورة الياسمين إلى ظلام دامس!!. . لكننا لو تمعننا قليلاً، فسنجد ما هو أبعد من مجرد حسابات اللحظة الراهنة، بعد أن انزاح غطاء ثقيل كان يكبت تفعالات الشارع التونسي وتطوره، بحيث لو تمكن التونسيون من المحافظة على حالة تحرر تسمح بازدياد وتسارع معدل تعبير الإنسان التونسي عن نفسه وعن أمانيه المستقبلية، فإننا نكون قد غادرنا حالة الجمود والتيبس في مفاصل الدولة والمجتمع، ودخلنا فيما يعرف بالفوضى الخلاقة. . هي ليست فوضى أمنية بالطبع، فالفوضى الأمنية لا توصف بالخلاقة بل بالمدمرة، لكنها فوضى في الرؤى والقيم والعلاقات والثوابت المستقرة، والتي هي معالم وأركان حالة التردي والتخلف، تلك التي أنجبت الطغيان، أو على الأقل سمحت له بالتواجد في تونس، بداية من إعلان استقلالها وحتى الآن. . في هذه الحالة سوف تتولد قوى واتجاهات ورؤى جديدة لا وجود ظاهر لها بالساحة الآن. . سوف تتفجر تلك الرؤى الجديدة من عقول وقلوب الأفراد والجماعات التواقين لمستقبل أفضل، خاصة مع التواصل المميز للشعب التونسي مع الحضارة والعالم الحر في الشمال الأوروبي. . هكذا يمكن أن تظهر تيارات وتجمعات جديدة، توجد لنفسها قادة جدداً، ليبدأ شأنها مع الوقت في التعاظم كتدحرج كرة الثلج.
هذا التصور المأمول في طفل جديد يولد من رحم حالة السيولة التي حققتها الثورة، لن يحدث بالطبع بين يوم وليلة، ولا الطريق إلى توافر شروط تلك الفوضى الخلاقة سهل معبد، فالمخاطر والتهديات تحيط به من كل اتجاه، وأولها اتجاه الإسلام السياسي، بشعاراته التي تغازل الدهماء، وبتمويلاته البترودولارية السخية، وبمرتكزاته التنظيمية في دول الجوار القريب والبعيد، علاوة بالطبع على الخطر القائم والمسيطر للحرس القديم لنظام الطاغية، فهو الأقرب لمفاتيح السلطة حتى الآن، وهو الذي يتوقع أن ينتهج إفراغ ثورة الجماهير من محتواها. . الأمل منوط بمدى يقظة الشعب التونسي، وحرصه على أن يحصد ما دفع ثمنه غالياً من دماء أبنائه، وهو معقود أيضاً بما نتمناه من توافر هاجس الحرية والتحديث لدى الإنسان التونسي، ما يجعله ينأى وينفر من دعوات عودة الهيمنة تحت أي شعارات، ويظل متيقظاً وحارساً لثورته المجيدة حتى تأتي أُكُلها!!
مصر- الإسكندرية
التعليقات