أياً كانت نتيجة ما يحدث على أرض مصر الآن، فإنني بفضل الشباب المصري الواعد والبطل، قد صرت بالفعل في مصر الجديدة. . مصر التي كان جيلي يحلم بها حلماً باهتاً بعيد المنال، ويجدر الآن بي أن أتحلى بقدر من الشجاعة الأدبية، تكفل لي أن أعترف بأنني لم أتصور أن الشعب المصري قادر على إنجاب مثل هذا الجيل. . الجيل الذي أعاد لمصر الحياة التي ماتت طوال ستة عقود، وأعاد سريان الكرامة والعزة بالنفس في دمائنا، التي كانت قد يتبست على الذلة والخنوع. . نعم أنا من كنت أعتقد أن الشعب المصري لا يستحق أكثر مما يرزح فيه من فقر وذلة وهوان. . لهذا بالتحديد كنت أبكي بكاء مراً خلال مسيري في أول مظاهرة التحقت بها. . نعم كان بكائي يرجع في جزء منه لفرح غامر بما يتجسد حولي من عظمة الشعب المصري، الذي شعرت لأول مرة في حياتي بفخري بالانتماء إليه. . لكن الجزء الأكبر من انفعالي غير القابل للكبح، كان يرجع لفشلي في اكتشاف تلك الإمكانيات الهائلة الكامنة في شعبي العريق، صاحب أقدم حضارة في تاريخ الإنسانية. . هذا هو اعترافي الصريح بتقصيري وعجزي، المصحوب بفرح غامر بأن العمر قد امتد بي، حتى رأيت الجماهير المصرية تهتف للحرية، وترتفع أصواتها عالية بالهتاف بسقوط الطغيان.
أكتب هذه الكلمات في غمرة الأحداث، وسدنة الطغيان يلفظون (فيما آمل) أنفاسهم الأخيرة، وهم يحاولون ضرب ثورة الشباب. . وفيما الطاغية يحاول البقاء على كرسيه بأي ثمن، حتى لو كان هذا الثمن هو دماء ومقدرات حياة الشعب الذي سيده عليه لثلاثة عقود. . مهما تكن نتيجة ما يجري، فما أنجزه شبابنا لا رجعة فيه، ولن تعود مصر ثانية بأي حال لخنوعها، ولا لركوعها تحت أقدام الطغاة. . كما لن يقبل هذا الشباب ومن طالتهم روحه الوثابة الوقوع بين براثن طغاة جدد، من بين هؤلاء الذين ينتظرون أن تسقط الثمرة بين أيدهم. . لن يقع أحرار مصر بين براثن المتأسلمين إخوان الإرهاب، الذين نحجوا في خداع البعض من جيلنا، فساروا من ورائهم مسير العبيد، الذين لا حيلة لهم إلا الانتقال من تحت أقدام طاغية إلى أقدام طاغية آخر يرفع شعارات دينية، تمنحه قداسة تعفيه من المراجعة والحساب، وتجعل الخارج عليه كافر وعدو للإله. . لا يطأ الشباب بأقدامهم الطاهرة الآن نظام مبارك وحده، لكنهم يطأون معه على فزاعته التي أخافنا بها وأخاف العالم دهراً. . الشباب الآن تجاوز كل طغمات الطغيان عسكرية ودينية، وينطلق نحو فجر الحرية والحداثة، ويفتح أحضانه للأحرار في سائر بقاع الأرض.
يخوض الآن الطاغية معركته الأخيرة، مستخدماً أشد التكتيكات خسة ونذالة، هو يضرب الشعب ببعضه البعض، موظفاً الخارجين على القانون لضرب الشباب الأعزل الغض. . هو أمر غير مستغرب على محاولة الطاغية المد ولو سويعات من عمر طغيانه. . لم نصدقه عشية وهو يعلن أنه لن يعيد ترشيح نفسه للانتخابات القادمة، ويتعهد بالإشراف على إجراء التغييرات الدستورية والقانونية التي تكفل حياة سياسية ديموقراطية حقيقية، وإن كان الكثيرون من أهالينا الطيبين المسالمين قد صدقوهم، وخدعهم تلاعبه بعواطفهم، ليأتي الصباح فنرى إطلاقه لجموع من الأبرياء مصحوبين بالمجرمين والبلطجية، ليهاجمون الشباب المنادي بالحرية والكرامة. . هذه هي النهاية المناسبة لهذا النظام، والتي تفتضح فيها حقيقته، كنظام للإجرام والفساد. . هذا هو ما قلته بالفعل في روايتي quot;زمن حودة تباتةquot;، فنحن كنا في زمن البلطجي quot;حودة تباتةquot;، وليس الطيار حسني مبارك الذي كان، والذي بدد خلال ثلاثين عاماً رصيده الذي كان مشرفاً في خدمة الوطن، لينقلب بعد جلوسه على كرسي العرش، فيلوث تاريخه وتريخ مصر كلها بالديكتاتورية والفساد والإجرام!!. . ونحن صغار نسعد بأن نلعب لعبة quot;عسكر وحراميةquot;، فنقسم أنفسنا إلى فريقين، فريق يلعب دور quot;العسكرquot;، والآخر يلعب دور quot;الحراميةquot;، ويدور الصراع الودي بيننا، لينتهي بالحتم بانتصار العسكر، الممثلين للشرعية والعدالة والشرف!!. . لكننا في الثلاثة عقود الأخيرة، وبفضل quot;حودة تباتةquot; الشهير بحسني مبارك، عشنا ثلاثة عقود تماهى فيها quot;العسكرquot; مع quot;الحراميةquot;. . تبادلوا بين بعضهما الأدوار، وتخفوا خلف بعضهم البعض. . تقلد quot;الحراميةquot; المناصب السيادية والاقتصادية، وتحرك البلطجية بأوامر من العسكر، وتحرك العسكر بأوامر من البلطجية. . والشعب المسكين حائر وجائع وذليل. . لكنه كان في ذات الأثناء ينجب جيلاً جديداً. . جيلاً لم يعتد على الذل والهوان ولم يتأقلم معه. . هذا الجيل هو شمس مصر الجديدة، هو الذي يذكرني وجيلي بما كنا قد افتقدناه ونسينا. . يذكرنا بأننا كائنات حرة أبية!!
لا يستحق شباب مصر أن تسفك دماؤه الزكية في ميدان التحرير، لكن الطاغية يستحق بالتأكيد هذه النهاية، أن يسقط ودماء المصريين تقطر من يديه، وتلطخ وجهه وصدره. . سوف ندفع ثمن الحرية كاملاً أيها البلطجي quot;حودة تباتةquot;، فحريتنا تستحق أن نقدم أرواحنا ثمناً لها. . لن نركع ولن نخنع بعد اليوم، ولن نقبل أقدامك لكي ترحمنا وتكف عنا زبانيتك. . كنا نريدك أن ترحل معززاً مكرماً، لا لأنك تستحق هذه النهاية، ولكن لأننا شعب طيب ومسالم، وقد تعاملنا معك طويلاً بثقافتنا الأبوية وكأنك أب لنا، لكنك اخترت لنفسك النهاية الأنسب لك. . اخترت أن تنتهي قاتلاً واضحاً صريحاً، فمبارك عليك خيارك يا مبارك، ومبارك علينا مصرنا الجديدة!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]