الاحتفاء بما سمي عودة محمد حسنين هيكل الملقب بالأستاذ إلى الأهرام، تشكل علامة محبطة وسط الكثير من الإحباطات التي تلت ثورة مصر. . ليس الأمر مجرد إتاحة مجال لكاتب سياسي ليعبر عن رأيه، فالأستاذ لم يتوقف يوماً عن الكتابة للشعب المصري والعربي، ولم تتوقف أحاديثه التليفزيونية التي يستعرض فيها اتساع علاقاته، التي تشمل كل ما على سطح كوكبنا من ملوك وأمراء ورؤساء. . فالانزعاج هكذا لا يرجع لصوت مضاد لما نراه جوهرياً لعبور مصر من أوحال ستة عقود بائدة، ولا هو انزعاج من شخص الأستاذ في ذاته، والذي يستخدم قدراته التعبيرية ومعلوماته في تضليل استمرأه منذ بداية ازدهاره إلى جوار القائد الملهم، الذي نجح في أقل من عقدين في تدمير كافة مناحي الحياة المصرية، وفي مقدمتها الإنسان المصري، الذي بدأ بفضل ما ساد من قهر وقبضة بوليسية خانقة في مسيرته نحو التزام السلبية وإتقان النفاق، وتتخرج في عصره وما تلاه كائنات تعيش على الشعارات الجوفاء، التي يشير الواقع إلى تمام ما يضادها.
فزعيم الوحدة العربية مزق بتوجهاته وعنترياته العرب، بعد تصنيفهم إلى دول تقدمية وأخرى رجعية. . وأوصلنا نضاله الجنجوري ضد الاستعمار كما كان يجأر في خطبه الديماجوجية، إلى أن تحتل إسرائيل الأراضي المصرية، وتكمل إلتهامها لكل فلسطين، علاوة بالطبع على الجولان، لتشهد إسرائيل في عهده تمدداً جغرافياً لم تكن لتحلم به، والمصيبة هي أن يظل الزعيم وهتيفته وعرابه الأستاذ سادرون في خداعهم، بالشعارات والتحليلات للتوجهات الكارثية، ولترث الأجيال من المثقفين الذين لم يشهدوا ذلك العصر الأسود مفاهيم أنه كان عصر الكرامة والعزة والدور الريادي المصري، ليس في المنطقة العربية فحسب، بل أيضاً في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية!!
لن نستفيض هنا في شرح تدمير عصر الأستاذ وتلميذه الزعيم الملهم لكافة مناحي الحياة المصرية، وفي مقدمتها الحياة السياسية والاقتصادية، وما ترتب عليها من انحدار ثقافي ومجتمعي، لا نجد لنا حتى الآن وسيلة إصلاح ما أفسده. . فالمرعب في عودة سيادة هذا النهج من الرؤية للأمور والحياة، هو تجاهل الواقع والعيش على الشعارات. . الحياة في عالم مواز نتخيله، نرى فيه أنفسنا أسوداً، ونرى قامتنا وقامة قادتنا شامخة، في حين أن العالم كله ينظر إلينا شذراً، ويرانا في الحضيض، والإسرائيليون مثلاً يدوسون على أرضنا ورقابنا، ونحن نمد أيدينا للتسول من الممالك العربية التي صنفها زعيمنا الملهم بالرجعية!!
يكفي تلك المقدمة المبتسرة لكي نأتي إلى صميم موضوعنا، أو عين ما أزعجنا بالعودة غير الميمونة للأستاذ، ليدخل إلى جريدة الأهرام دخول الفاتحين بعد ثورة مصر. . المشكلة كما نراها هي أن احتفاء الأهرام بعودة هيكل بكل ما يمثله، يعطي مؤشراً خطيراً لنتائج الثورة، هو احتفاء بردة فكرية، إلى الأفكار المستهلكة فشلاً، فالأربعة عقود الماضية لفظت كل ما يمثله هذا الشخص، اكتفاء بالنكبات التي حلت بنا جراء عبقرية الكاتب الملهم لزعيم ديماجوجي أحمق. . صلب المشكلة أن أي ثورة من المفترض أنها الفرصة الذهبية لخروج الأفكار الجديدة المبدعة، والتي كان النظام الذي تمت الثورة عليه يقمعها. . الثورة تتجه للمستقبل المختلف جذرياً عن كل ما سبقه من عصور مظلمة تسيد فيها الفشل والنفاق والقهر، لكن أن تتمخض الثورة المصرية عما نراه من تسيد قواعد الإرهاب والإرهابيين على الشارع المصري، وخروج قاتل رئيس جمهورية ليتم استقباله استقبال الأبطال، مسترجعين من الماضي البغيض أسود حلقاته، ثم نرى الاحتفاء بعودة عراب النكسة أو بالأصح الوكسة إلى جريدة الأهرام التي سبق له أن جعل منها خادمة للسيد الطاغية، مصحوبة في ذات التوقيت بتظاهرات جماهيرية تبغي المشاركة في انتفاضة فلسطينية ثالثة، وكأننا والفلسطينين لم نتعلم بما يكفي من انتفاضتين سابقتين، كانتا وبالاً على الشعب الفلسطيني المسكين وقضيته العادلة. . هكذا نكون في حالة ردة وانتكاسة إلى الخلف، ولسنا في حالة ثورة مستقبلية خلاقة ومبدعة!!
الأستاذ عراب الطغيان والفشل والعبث بمقدرات الشعوب لا يرضيه محاكمة عادلة وقانونية لمبارك، هو يحرض في بداية قصيدة الكفر للأهرام على محاكمة سياسية، قد تصل بالرجل إلى حكم الإعدام. . لو تجاوزنا عما يشكله هذا من دفع للثورة إلى منحى دموي همجي، فإننا نقول له حسناً يا سيدي الأستاذ كنز المعلومات والأسرار العالمية، فمن إذن يحاسبك أنت سياسياً، ومن يحاسب ذكرى قائدك، ليسجل التاريخ على الأقل مدى الجرم الذي أجرمتموه في حق مصر، بل وفي حق شعوب المنطقة كلها، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الذي تسببت توجهاتكم وشعاراتكم في الإجهاز على ما تبقى له من مقومات الحياة؟!
إن أيديولوجيا العروبة والتأسلم السياسي صنوان وإن تعاديا ظاهرياً، فعلاوة على العلاقة الوثيقة بين العداء العروبي للعالم، مع العداء الديني لليهود والنصارى، فإن تصاعد المد الديني كان الرد على اجهاض ما توقعناه من نهضة حضارية على يد البطل الملهم وعرابه الأستاذ. . ولا يقل هيكل وما يمثله كثيراً في خطورته، عن القرضاوي ومحمد حسان ووجدي غنيم وأمثالهم. . هم الماضي المعادي للعالم وللحضارة، هم رموز الفكر الذي يقود الشعوب للاصطام بجدار صلب فتتحطم، كما حدث لمصرنا وللعراق الصدامي والسودان وأفغانستان.
لن أقول للأستاذ اصمت فصمتك من ذهب. . اصمت فنحن نحتاج لأن نفارق عصرك وحكمتك التي دخلت بنا إلى هاوية نتحير حتى الآن كيف نخرج منها، لكنني أقول لشباب الثورة، والذي ينادي بأعلى صوت لمحاكمة النظام البائد ورموزه، أقول لهم احترسوا من هذا الرجل وتلاميذه فهم كثيرون، ويسيطرون على مواقع حيوية في أجهزة الإعلام، احترسوا من العروبجية الذي ينتوي اثنان منهم الترشح لرئاسة الجمهورية. . احترسوا جميعاً من الماضي فماضينا أسود ومتعفن. . ننتظر منكم أنتم الجديد، الجديد الذي يخرج بمصر من كهوف الفشل والتخلف، إلى آفاق الحرية والحضارة والحداثة.
مصر- الإسكندرية
[email protected]