من المفترض أن الشعب المصري قد قام بثورة، ومن المفترض أيضاً بعد مرحلة إسقاط النظام، والتي لاشك أننا قد قطعنا فيها شوطاً لا بأس به، أن ندخل في مرحلة حوار مجتمعي، تتفاعل فيه كل القوى على الساحة السياسية والاجتماعية المصرية، ليتبلور الحوار في النهاية عن خطوط عريضة متفق عليها، نسير عليها في مرحلة إعادة البناء.
لقد كان أسوأ ما ارتكب نظام مبارك من جرائم هو تعويق التفاعلات المجتمعية بمختلف مجالاتها إلى درجة التجميد، في ذات الوقت الذي جلبت فيه المتغيرات والتأثيرات العالمية والمحلية تيارات شتى، تتراوح ما بين الليبرالية والأصولية الدينية، ظلت جميعها بدرجة أو بأخرى، وبأساليب متنوعة تحت غطاء ثقيل من الحظر، فكان أن تقزم بعضها، كما في حالة التيارات الليبرالية أو العلمانية باختلاف أطيافها وأجنحتها، وتعملق البعض الآخر تحت السطح وفوقه، ونعني التيارات الأصولية الدينية، والتي بقيت نتيجة القهر والتضييق الأمني جزراً منعزلة، أو كما لو كانت كل منها داخل كهوفها الخاصة، تتحدث همساً أو صراخاً بخطابها الخاص، الذي لا يراعي أو يتحسب لوجود آخر، وإن فعل فبالمواجهة العدائية، التي تدفع كل لأن quot;يركب أعلى ما في خيولهquot; كما يقال.
ما حدث أنه بسقوط رأس النظام وأجهزته الأمنية المسيطرة القمعية، سادت الفوضى البلاد على جميع المستويات، بدءاً من الشارع المصري، الذي أثبت المصريون به لكل مراقب خارجي أنهم لم يتعلموا بعد حرفاً واحداً من أبجديات الحرية، فافترش الباعة الجائلون الطرق، وسارت السيارات وتوقفت كما يحلو لسائقيها، ضاربين عرض الحائط ليس بقيم الحرية واللياقة فقط، ولكن بكل ما كانوا مجبرين عليه في السابق من سلوكيات تراعي انتظام واحترام قواعد الحركة، رغم أننا كنا جميعاً ننتقد وقتها تدني درجة الالتزام، ونلقي بالتبعة كعادتنا على تخاذل الدولة عن تحقيق الانضباط في الشارع.
الفوضى على المستوى السياسي جاءت أعم وأشد وبالاً. . نعم أتيحت لكافة التيارات الليبرالية والعلمانية تنفس الصعداء، والتحرك في الساحة والشارع المصري قدر ما تتيح لها قدراتها الخاصة، لكن أيضاً تم رفع الحظر عن الجماعة المحظورة، ولم يكن الحظر المرفوع في الحقيقة غير شعار بلا مضمون، فقد كانت تعمل بحرية وعلانية يحسدها عليها جميع من عداها، لكنها بقيت تحت السيطرة. . ظل عمل جماعة الإخوان محكوماً بلعبة القط والفأر بينها وبين أجهزة الدولة الأمنية، التي سمحت وربما ساعدت الجماعة على مد نشاطها إلى كافة أنحاء البلاد، والتغلغل في كل المؤسسات، فيما عدا الاقتراب أكثر من المسموح به من مقاليد السلطة السياسية، فكان جمع قياداتها الوسيطة في مواسم الانتخابات، وإيداعها سجون ومعتقلات النظام، تحسباً من تمدد أو تهور يدفعها لتجاوز الخطوط الحمراء التي تحمي الجالسين على العرش.
جماعات الجهاد الخارجة من المعتقلات والسجون وجدت نفسها فجأة تنتقل من خلف القضبان إلى برامج التوك شو في الفضائيات التليفزيونية، فهؤلاء الذين دفعتهم سنوات البقاء قيد الأغلال إلى ما يعرف بالمراجعات، وجدوا أنفسهم طلقاء، ويساهمون في إدخال من حاكموهم وسيطروا عليهم إلى ذات الزنازين التي أنفقوا فيها أغلب سنوات عمرهم، واستقبلهم الثوار والمجتمع المصري وكأنهم أبطاله الذين اضطهدهم نظام ديكتاتوري، وليسوا قتلة هددوا الحياة في وادي النيل لأكثر من عقدين من الزمان.
عندما يتقابل كل هؤلاء في ساحة خراب تفتقد لأبسط قواعد النظام، ليس لنا أن نتوقع أن يجري بينهم حوار إيجابي وصحي، كما يليق بأمة تشرع في مسيرة إعادة بناء. . بناء حضارة حديثة فوق أرض مصر، وليس حفر كهوف مظلمة يتم إدخال الشعب المصري كله فيها، ويقوم على بواباتها حرس مدججين بالسيوف والخناجر، هم ذاتهم من فجروا وقطعوا الرقاب، لدفعنا لدخول تلك الكهوف في الثمانينات والتسعينات!!
لا أعتقد أننا بحاجة لأن نجهد أنفسنا في التدليل على أن الساحة الخراب الخالية من أي ضوابط تحكم حركة كافة الأطراف، لا يمكن أن نجني منها أي نتيجة إيجابية، تفيد في تحقيق آمال شعب ثار من أجل الخبز والحرية والكرامة الإنسانية، خاصة إذا ما كان الفصيل الأكثر تمويلاً وتنظيماً، هو ذلك الفصيل الذي مازال إخوانه يجاهدون في سبيل الله في كهوف وجبال تورا بورا وقندهار، كما يجاهدون وسط المتضورين جوعاً في الصومال.
نتائج الحوار المزعوم والمتوقع في هذه الظروف نجنيها بالفعل الآن، ولقد شاهدناها في جمعة 29 يوليو، حين تحول ميدان التحرير رمز الثورة المصرية وقلبها إلى تورا بورا، حيث ارتفعت الرايات والشعارات السوداء، وافترشته كائنات عرفها العالم حديثاً، وشرع يطاردها في كافة أركان الكرة الأرضية. . جنينا أيضاً النتائج في سيناء، التي دفع جيلي الدماء ثمناً لتحريرها ممن سميناه العدو الصهيوني، بعد أن تم فتح الحدود المصرية لحماس الأخ الشقيق لجماعة الإخوان المسلمين، والمجاهدين الأصدقاء المفضلين لدى العروبجية مدمني النكسات والكوارث
نأتي الآن لسؤال ربما كان هو البوابة لحل تلك الإشكالية، التي تتجاوز خطورتها كل ما سبق وتعرضت له مصر خلال تاريخها القديم والحديث:
لماذا انعدمت السيطرة تماماً على الساحة المصرية؟. . هل هذا حقيقة من فعل الثورة والثوار؟. . إذا صدقنا جدلاً أن وزارة الداخلية التي يربو عدد منسبيها عن المليون قد انهزمت وتحللت أمام بضع أحجار قذفها متظاهرون، ولم يتم سحبها بقرار سيادي لسبب في نفس يعقوب، فما هو تبرير ما يحدث في سيناء، التي يشرعون الآن في تحويلها لإمارة إسلامية، ولماذا لم يحاولوا هذا في زمن مبارك؟!
واضح أن ترك الساحة المصرية على وضعها الحالي ليس من قبيل حرية قد اكتسبناها، وربما كان العكس هو الصحيح، وأنه يتم معاقبة الشعب المصري على ثورته، ببث الرعب في قلبه، بإطلاق جحافل الإرهابيين والظلاميين عليه، فيحتلون القنوات الفضائية التليفزيونية وميدان التحرير وسيناء في توقيت واحد، ليتبقى انتظار تكملة سيناريو هذه المسرحية الهابطة، ليقول الشعب المصري في نهايتها quot;حقي برقبتيquot;، ويصرخ متوسلاً ديكتاتورية عسكرية تنقذه من مصير غير مجهول، أو لتسقط مصر في غياهب عقود مظلمة، ليجلس عواجيز النظام البائد يمصمصون الشفاة مرددين quot;جنت على نفسها براقشquot; يوم ثارت على نظام كان على قدر سوءه يقيها من الأسوأ!!
الأمر ليس بيد القوى التي فشلت بجدارة في الحوار، هو خارج عن مسئولية كافة الفرقاء، فما يحدث الآن هو تراجع مستمر من قبل القوى الليبرالية والمدنية، لا يقابل بما يماثله من فيالق الظلام، وإنما يغريهم هذا بالعكس، بالتمادي في رفع سقف آمالهم، والتي لن تنتهي إلا بإسدال ستارة سوداء على كافة ربوع وادي النيل. . ورغم اختلاف هؤلاء الأخيرين فيما يعلنونه على الأقل، بين حزب يدعي الوسطية، إلى آخر يتسمى بحرية وعدالة وهمية ومخادعة، إلى أصوليين صرحاء يزمعون طرد الأقباط من البلاد، ووضع المسلمين في زنزانة يحرسها السياف مسرور، إلا أنهم يزايدون على بعضهم البعض، وهم يرون الساحة خربة وخالية من أي قواعد تردعهم.
إذا صح أن القائمين على أمور البلاد يبتغون وصول فرقاء الشعب المصري إلى كلمة سواء بين بعضهم البعض، فيتحتم عليهم ردع الفئة الباغية، ليس باجراءات استثنائية، وإنما بتفعيل الإعلان الدستوري وقانون الأحزاب، والذي يحرم العمل السياسي وفق أسس دينية. . بهذا فقط سيسعى من يستكبرون ويستجرمون الآن إلى توفيق أوضاعهم، خاصة مع تطوع العلمانيين والليبراليين منذ البداية بالتنازل إلى أقصى حد ممكن، وهو تكتيك أحمق وجريمة يرتكبها أي محاور في حق قضيته، أن يقدم كل ما يمكن تقديمه من تنازلات حتى قبل جلوسه على مائدة الحوار، فيغري منافسه بهذا على استمراء ضغطه، أو في حالتنا هذه يستمرئ هياجه الذي لا يراعي حقائق الواقع، ولا يرى إلا ما يسيطر عليه من هلاوس مجنونة.
هل يتكرم علينا الممسكون بزمام البلاد بالتدخل لتحديد قواعد اللعبة، والسيطرة على البلاد قبل ذهابها في طريق أفغانستان والصومال، أو في quot;سكة إللي يروح ما يرجعشquot;، لننتقل من الفوضى إلى الحوار الحقيقي والبناء؟!!
مصر- الإسكندرية

[email protected]