الحلقة الأولى

نعم أنا والكثيرون نضع أيدينا على قلوبنا، حباً لمصرنا، وخشية وتحسباً مما قد تؤول إليه الأمور، لكن هذا لا يعني بأي حال إلا أن مصر تعيش مرحلة عظيمة وخالدة في تاريخها الحديث. . مصر تنصهر وتتشكل الآن، لتولد من رحم تفاعلاتها مصرنا الجديدة، التي ليس من قبيل التفاؤل فقط أن أتوقع أنها ستكون مصر الحرية والحداثة والتقدم. . ذهب الآن الغطاء الثقيل الوبيل الذي كتم تحته التفاعلات المجتمعية بعيداً عن الشمس والهواء النقي، ومن الطبيعي بعد رفع الغطاء أن نجد الأرض متعفنة، وتسعى الديدان والحشرات فيها. . ثقافتنا وسلوكياتنا التي صارت بديهيات ومقدسات حياتنا اليومية، هذه كلها تحتاج لثورة حقيقية، ولا يعدو ما حققناه من إسقاط النظام البائد أن يكون مقدمة ضرورية لحدوث التفاعلات والتغييرات الحقيقية، والتي يتوقف على نحاجها تحديد إلى أي طريق نتجه. . هل سنتجه للخلف كما ينعق الناعقون والمتخوفون ومدمنو التباكي دون تحرك إيجابي؟. . أم سنظل محلك سر، لنستبدل طغياناً بطغيان مماثل، ما بقيت التربة والبيئة المصرية التي ترعرع فيها ذلك الطغيان باقية على حالها؟. . أم سوف نغير ما بأنفسنا عبر تفاعلات وصراعات وحوارات مجتمعية، تجري بين كل منا والآخر، وبين كل فرد وذاته، لكي نتوافق مع العصر، ومع متطلبات وشروط ما ننشده من حرية وعدالة ورخاء؟!

ما يحدث في مصر هو ترافق القديم والجديد والصراع بينهما، ونتيجة ذلك الحوار والصراع هي التي ستحدد شكل المستقبل، الذي قد يكون انتصار القديم في أسوأ الاحتمالات، وقد يكون انتصار الجديد مصحوباً بولادات جديدة لم يسبق لنا أن عرفناها في كافة مجالات حياتنا. . ذلك وفق نظرية الانتظام الذاتي العلمية، والمعروفة سياسياً باسم الفوضى الخلاقة.

الجديد في شوارع المدن هؤلاء الشبان والشابات الذين يجمعون القمامة من الشوارع وهم بملابسهم الغالية ويرتدون الكمامات والقفازات، ويقومون بإعادة طلاء الأرصفة. . وهناك باعة الفاكهة في الميدان القريب من محل إقامتي، وكنت قد كتبت رواية ونعد فيلماً عن ذلك الميدان المحكوم بالعشوائية، كمثال لمصر حسني مبارك. . هؤلاء الباعة فشل البوليس في تحريكهم من احتلال نهر الطريق بعربات الفاكهة، قاموا من تلقاء أنفسهم الآن بالتراجع إلى الرصيف، وتركوا نهر الشارع الواسع للسيارات والمارة. . نجد من الجديد اهتمام الشباب وحتى ربات البيوت بالسياسة ومصير الوطن، علاوة على سيادة روح المحبة والتعاطف بين المسلمين والمسيحيين. .هذا بعض من الجديد المتواجد بقوة في ساحة مصر الثورة.

أما القديم الذي لم تصله بعد أنباء ما حدث، أو بالأحرى وصلته لكنه فشل عن استيعابها حتى الآن، فإنه يمضي في طريقه بأكثر جسارة ربما. . نجد الجماعات السلفية تخرج بلحاها الكثة وسراويلها القصيرة، لتجأر متوعدة مهددة من يفتح فمه اعتراضاً على المادة الثانية من الدستور، والتي يؤدي تفعيلها إلى تحول مصر إلى مصرستان أو إيران أو غزة حماس وربما الصومال. . ونجد جماعة الإخوان المسلمين التي تسترت طوال الفترة الماضية خلف ادعاء قبولها بدولة مدنية ذات مرجعية دينية، ولأن بهذه المقولة تناقضاً يجعلها أشبه بنكتة سخيفة، فلقد أسفروا أخيراً عن وجههم الحقيقي، والذي لم يغب عنا لحظة واحدة، وقالوا أن الدولة المدنية هي المضاد للدولة العسكرية وليس الدولة الدينية!!. . هكذا وكأنهم يخرجون لسانهم لنا ويوقولون quot;هاااااا. . وضحكنا عليكمquot;. . هكذا منذ البداية، وقبل أن يتمكنوا من رقابنا، وقبل أن يأتي أوان قولهم لنا يكفيكم تجربة الديموقراطية لمرة واحدة، وعليكم الدخول الآن صاغرين إلى زنزانة حكمنا الإلهي!!

بجانب هؤلاء نجد أهل القديم من الكنيسة الأرثوذكسية وأتباعها، الأقباط الذين احترفوا البكاء والعويل، مستمرئين دور الضحية المقهورة، في مازوشية ربما لا نظير لها بين سائر الشعوب والأقليات. . هؤلاء يحتاجون لعمودين يستندان عليهما، العمود الأول هو العمود الإلهي، بابا يوكلون إليه أمورهم، ليفعل هو بالنيابة عنهم كل شيء، بصفته ظل الإله أو حتى شخصه على الأرض، وقداسة البابا المعظم يقوم بهذا الدور منذ أربعين عاماً على خير (أو بالأحرى أسوأ) وجه، فهو مصر على نفس التكتيك، تربيط أموره مع الطاغية الذي يحكم البلاد، فيتعاظم وفق التربيط سلطان كليهما، بغض النظر عما يحدث لرعيته التي أسلمت له قيادها، باعتباره أب الآباء وراعي الرعاة، ولقد رأينا ثمار تلك السياسة طوال عهد مبارك غير المبارك، مذابحاً للأقباط وحرقاً لمنازلهم ومتاجرهم، مقابل تعاظم شأن البابا الذي صار جرياً على سياق النفاق بابا العرب أجمعين، وهو لقب نشاز لا مكان له في قطار ألقاب البابا المعظم ممتد العربات. . قداسة البابا استدار الآن في العهد الجديد، ليمنح بركاته وتأييده للمجلس العسكري، ولم يفته مغازلة القادم الإسلامي المحتمل، فاستهل الحوار المجتمعي بإعلان رضاه عن المادة الثانية من الدستور، بعد أن كان عظمة قداسته قد استند إليها في تحديه للقضاء المصري في موضوع إعادة زواج المطلقين الأقباط، فما كان من مواقع التحريض الإسلامية على الإنترنت إلا أن استنتجت أن البابا قد أسلم ويخشى إعلان إسلامه، وهو تخريف لا يخلو من دلالة حقيقية، هي توافق منطلقات البابا الفكرية مع جماعات التأسلم السياسي، التي تصر على مبدأ الحاكمية لله، وهو نفس من يصر عليه قداسة البابا. . قداسة البابا المعظم إذن ورعيته مستمرون على ذات المنوال، ويعجزون عن استيعاب الخطير الجاري في الساحة المصرية، والذي لا يعطي مكاناً لغير المجتهدين الساعين للتلاحم الوطني، بمنأى عن سلطان أو إرشاد رجال الدين، الذين لا يمكن أن يقودوننا إلى أي مكان غير هاوية الماضي السحيق والتخلف.

العمود الثاني الذي يستند إليه الأقباط في ممارسة مازوشيتهم واستمتاعهم بدور الضحية هو العمود الشيطاني. . هم يحتاجون لشيطان يصبون عليه نقمتهم، وهم قعود بجوار حوائط المبكى المنتشرة من مصر حتى سائر بلاد المهجر. . لديهم شيطان جاهز وحقيقي ودائم هو جماعة الإخوان المسلمين، لكن وبعد سقوط مبارك الذي شارك الإخوان لدهر موقع الشيطان، نفاجأ ببدء شيطنة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وصيحات على مواقع اللطم والندب القبطية على الإنترنت، تدعي استخدام الجيش لطريقة تعامل طائفية ضد رهبان أديرة، كانوا قد استغلوا الفراغ الأمني، ليمدوا من سيطرة قلاعهم الخرسانية الهائلة في صحاري مصر، بضم المزيد من أراض الدولة، في تصرف مماثل لما نشهده حالياً في المدن، من استغلال بعض أصحاب العمارات الخارجين على القانون للفراغ الأمني، فيقومون ببناء أدوار أكثر من المرخص لهم بها، أو هؤلاء السائقين الذين يستمرؤن الآن في غياب رجال المرور السير في عكس اتجاه الطريق!!

هذا الصراع والترافق بين القديم والجديد لا ينبغي له بأي حال أن يزعجنا أو يصل بنا إلى اليأس، فما قصدته بالتحديد هو العكس تماماً، فالصراع كلما اشتدت سخونته الآن، كلما دفع بقاطرة التغيير بسرعة أكبر، وبعمق التغيير إلى أعماق غير مسبوقة بمصر. . مصر الآن تتمخض بمولود جديد هو الأجمل والأروع، والفجر قادم نراه بعيوننا على بعد سويعات!!

مصر- الإسكندرية

[email protected]