لا يدفعني لكتابة هذه السطور أكثر من تعاطفي مع الإنسان الشريف محمود عباس وإدارته المخلصة، فالمخلصون في زمن التزييف العربي الذي يصعب أن نتصور له فجراً يبدد ظلماته، يلمعون كالأحجار الكريمة وسط ركام الحصى والنفايات التي تملأ الساحة العربية، سواء في نطاق الحكام، أو في مستوى رموز الفكر والمعارضة الديماجوجية، التي تتبنى أسوأ الخيارات وأكثر الشعارات حمقاً وشذوذاً، لتتخذ منها طريقاً إلى قلوب وعقول جماهير هي أعجز من أن تفكر لنفسها، وأعجز من أن تقوم بالفرز والمراجعة لما يعرض عليها من أفكار أو هلاوس!!
أخال الرجل محمود عباس وصحبه الكرام متحيرين، وهم يدعون الله أن يكفيهم شر إخوانهم من الفلسطينيين المرتزقة، ومن يمولهم ويتلاعب بهم، وهم يدركون جيداً أن أعداءهم المفترضين هم كفيلون بهم. . مشكلة أبي مازن وكل مخلص للشعب الفلسطيني ليس التفاهم مع الإسرائيليين، رغم صعوبة التفاهم والوصول إلى حلول عادلة لقضية مزمنة التعقيد، لكنها مشكلة كيف يقف المفاوض الفلسطيني منتصب الظهر مسنوداً بشعبه، بينما المزايدون والمتاجرون يختطفون قلوب وعقول الناس، وقد أدخلوا في روع الجماهير أن العقلانية استسلام وانبطاح وخنوع وعمالة، وأن المتاجرة بالشعارات المستحيلة التحقق هي الوطنية والعزة والكرامة!!
يعرف أبو مازن جيداً أن أي مفاوض فلسطيني لا يمكن أن يحصل على أكثر مما عُرض على ياسر عرفات في كامب ديفيد الثانية عام 2000، والذي تمثل في استعادة 98% من الضفة الغربية، مع مبادلة أراض بالبقية، لكن عرفات لم يتمكن من قبول ما عرض عليه، ليس فقط لأنه كان واحداً من المتلاعبين المتاجرين بالقضية والشعب الفلسطيني، ولكن لأن البقية المتبقية له من إخلاص لم تكن كافية لمواجهة ما يتعرض له من ضغوط، سواء من قبل الجماهير المعبأة والمشحونة بالرفض المطلق والمزمن لكل ما يعرض من حلول لا تتضمن إلقاء اليهود في البحر المتوسط، أو ضغوط الحكام العرب الذين يؤثرون سلامتهم الشخصية وكراسيهم على أي شيء أو قيمة في الحياة، ويفضلون حالة التظاهر بالعمل من أجل السلام سراً، وترك الحبل على الغارب لأعداء السلام في الشارع العربي، وربما أكثر من برع وتمادى في هذه السياسة كان حسني مبارك المخلوع، وتشاركه بالطبع في سياسته هذه جميع دول الخليج بلا استثناء!!
يعرف ويدرك أبو مازن جيداً أن العقبة الكأداء في طريقه ليست فقط تشدد بعض أو حتى كل أجنحة الحكم في الإدارة الإسرائيلية، بل أيضاً وبالدرجة الأولى معضلة تمكنه من الجلوس على مائدة المفاوضات، بحيث يبدو أمام مفاوضه العنيد والمرواغ ممثلاً لشعبه، مما يعطيه ثقلاً أو وزناً جديراً بالاحترام أمام مفاوضه، وفي نفس الوقت يطمئن هذا المفاوض المتشكك في العرب ووعودهم، أنه قادر على الوفاء بما يتعهد به!!
هذا ما يدفع أبي مازن لأن يبحث عن أي شيء يبدو به أمام الجماهير متعنتاً عنيداً، ليجتذب بصورته هذه ولو بعضاً من أشياع الأشاوس المناضلين بالحناجر، فكان أن وجد وضع شروط مسبقة للمفاوضات، هي التوقف عن الاستيطان والاعتراف بحدود عام 1967، رغم إدراكه أنه يتشبث بقضية خاوية، فالمفاوضات لن تكون مفاوضات إلا لمناقشة معضلة المستوطنات، ليتم تفكيك بعضها كما حدث في سيناء، ويتم مبادلة بعض الأراضي لبقاء البعض، كما يجري تحديد الوضعية القانونية للبقية المتبقية داخل حدود الدولة الفلسطينية. . يعني هذا ما تعرفه بالتأكيد إدارة أبي مازن أن التشبث بوقف التوسع الاستطياني قضية خاوية المضمون، وأن الخطر المتمثل في الاستيطان والتهام الأراضي الفلسطينية يتحقق فقط بهذا التأخر في الوصول بالقضية إلى حل نهائي لها، وأنه كلما أمعن العرب في رفض السلام وفي quot;ركوب أعلى ما في خيولهم الهزيلةquot;، كلما وجدها معسكر التشدد الإسرائيلي فرصة للإمساك بالأرض، فيما quot;نركب نحن الهواءquot;!!
وعندما لم تأت ورقة الشروط المسبقة للمفاوضات بنتيجة إيجابية، والتزمت إسرائيل التشدد، ضاربة عرض الحائط بالموقف الأمريكي والأوروبي والعالمي عموماً من رفض الاستيطان، راح أبو مازن يبحث عن ورقة أخرى، يواجه بها أيضاً ليس ما نسميه العدو الصهيوني، ولكن يواجه المزايدين والمتاجرين في حماس وسائر منظمات الارتزاق من بقاء القضية بلا حل، فكان أن وجد قضية أخرى خاوية، هي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولأن حماس وأخواتها يدركون جيداً حقيقة خواء الأمر، وحقيقة أن الغرض الحقيقي منه هو سحب البساط من تحت أقدامهم، رأينا معارضتهم له، وكأن عقيدتهم الدينية أو الوطنية أو ما يسمونه quot;ثوابت الأمةquot; تمنعهم من الموافقة على الاعتراف العالمي بدولة فلسطينية!!
عن أي اعتراف يبحث أبو مازن حقيقة، والاعتراف العالمي بالدولة الفلسطينية المستقبلية متحقق بالفعل؟!!. . الاعتراف متحقق من قبل إسرائيل وأمريكا وأوروبا والعالم كله، ولم تعد قضية حق الفلسطينيين في دولة مستقلة مثار جدل أو إنكار أو نقاش، فهل يضيف الاعتراف الرسمي بها الآن بتوجه منفرد وقبل تحديد حدودها وحل الملابسات والإشكاليات المزمنة مع جارتها إسرائيل مما يفيد القضية ويدفع بها للأمام، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون دوراناً حول الذات؟!!
لا يجد الرجل المخلص أبو مازن من يرحمه، مما يضطره للدوران حول نفسه بحثاً عن سند يستند إليه، فلا إسرائيل ترحمه بتقديم تنازلات تعضض موقفه أمام خصومه وخصوم السلام وأعداء الشعب الفلسطيني الحقيقيين، ولا نحن نرحمه من مزايداتنا وهلاوسنا التي تدفعنا للتشبث بأكثر المواقف تطرفاً!!
لا أرى لأبي مازن خلاصاً من هذه الحالة الدوامية التي سقط فيها، غير أن يترك الآن مسألة المفاوضات والحل النهائي، ويتفرغ تماماً لما هو وإدارته منخرط فيه من تنمية الضفة الغربية والارتقاء بمؤسساتها، وتحسين الأحوال المعيشية للشعب الفلسطيني، فهذا وحده هو الذي يخلق كياناً ودولة فلسطينية على الأرض، وليس في سماوات الأحلام، أو في وثائق ورقية لا قيمة حقيقية لها في أرض الواقع.
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات