أطلقنا لفظ quot;الورطةquot; على الحالة المصرية الراهنة لأن محمولها يتسع لأكثر من مجرد مواجهة مشكلة أو عدة مشاكل تحتاج إلى حل، فالكلمة تعبر عن حالة شديدة التدهور يصعب الخروج منها. . المشكلة في الحالة المصرية ليست تعدد المشاكل وتنوعها وكبر حجمها، فالكثير من الأمم واجهت ما هو أقوى منها بما لا يقاس، ويكفي أن نتذكر حال اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فرغم ضعف إمكانيات وموارد مصر المادية، مقارنة بما يتطلبه توفير الحد الأدنى الإنساني لإعاشة شعب يوشك حجمه على الوصول إلى التسعين مليوناً، إلا أن هذه المفارقة ذاتها يمكن أن تصبح مفتاح الحل أو الفرج، إذا ما تم تحويل تلك الكتلة البشرية الهائلة إلى مورد بشري واعد، عبر التعليم والتدريب الحقيقي الذي يؤهلها لتلبية متطلبات العصر علمياً ومهارياً.
المشكلة أو الورطة هي في التداخل بل والارتباط العضوي بين العناصر المسببة لها، تلك العناصر التي تغطي مجموع الشعب المصري، لنستطيع القول أن quot;المشكلة هي نحنquot;، وليس ما يعترضنا من عقبات مهما كان نوعها، لكن هذه أيضاً ليست أشد ما في المشكلة خطورة، أن تتعدد مراكز الفشل ومحطات إنتاجه، لتشمل كل أو أغلب مناحي الحياة المصرية، فما نريد وضع اليد عليه في هذه السطور هو الارتباط العضوي بين هذه المراكز، بما يعقد عملية إنتاج الفشل، ويعقد بالتالي نوعية الحل المطلوب.
لنأخذ ثنائية الشعب والسلطة، الشعب بخنوعه وسلبيته واحتراف الكثير من عناصره الفاعلة النفاق والتسلق يصنع استبداد السلطة، أو يدفع الممسكين بها دفعاً إلى التجبر والاستبداد، فليس من المتصور أن quot;مباركquot; يوم حلفه اليمين لتولي رئاسة الجمهورية كان يضمر أن يكون حاكماً مستبداً فاسداً تتدهور على يديه أحوال البلاد والعباد، فالقابلية الشعبية للخنوع واستسهال النفاق هو من يصنع المستبد، إلا إذا كان هناك من يتصور أن هذا الـ quot;مباركquot; لو تولى حكم الشعب البريطاني أو الأمريكي كان سيصنع به ما صنع بنا، وأن أياً من هذين الشعبين كان سيتحول على يديه إلى حالة مماثلة لحالتنا الراهنة!!
الاستبداد يقترن به تلقائياً الفساد، الذي يبدأ منذ اللحظة الأولى لرحلة استشرائه في التغلغل نزولاً نحو القاعدة. . هنا سوف يواجه إما برفض شعبي للفساد بمختلف أشكاله، ولو بحد أدنى من المقاومة لا تسهل استشراءه، وإما سيواجه بقابلية واستعداد شبه فطري للولوغ فيه، والحالة الثانية هي الوضع المصري تحديداً. . في غياب ردع الفساد أو سيادة القانون لتنظيم الحياة، واقتصار الردع على مواجهة من يهدد سلطة الجالس على كرسي العرش، يتصرف كل فرد على هواه، وحسب ما يرى أنه الخيار الأوفق والأسهل، والحقيقة أن خيار الشعب المصري عموماً (رغم المحظورات على استخدام التعميم في الحكم على الشعوب) هو دائماً الخيار الأسوأ من الوجهة القانونية والأخلاقية والحضارية، ولننظر لسلوكيات الناس في الشوارع، وكيف تسير وتقف السيارات والباعة الجائلين بعد أن حصلنا على الحرية بفضل ثورتنا العظيمة، ولنراقب ليس تزايد علميات السطو والسرقة بالإكراه، ولكن الغياب الملحوظ للأمانة في تعاملات الناس بالأسواق، ناهيك عما نعرفه منذ فترة بعمليات التحرش الجماعي بالنساء في الأعياد، رغم موجة التدين العارمة التي تجتاح هذه الشعب منذ عقود، ورغم أن هذه الجموع ذاتها هي من أعطت الأغلبية الكاسحة في الانتخابات البرلمانية لرجال الدين، ليس اقتناعاً بما يعلنونه من أفكار متعصبة ومتخلفة مخيفة، ولكن توسماً للصدق والأمانة فيهم. . ولننظر أيضاً لهجمة المباني المخالفة في المدن استغلالاً لحالة الغياب التام للأجهزة الرقابية التي أعقبت الثورة، بعد التسيب والتراخي المعتاد لهذه الأجهزة خلال العهد السابق، وهي ما يهدد أو يدمر المستقبل الحضاري لهذه المدن، بما يستحيل بعد ذلك تداركه. . نريد حكاماً صادقين أمناء ملتزمين بسيادة القانون، فيما نحن لا وزن لدينا لقيم الصدق والأمانة واحترام القانون في تعاملاتنا اليومية وسلوكياتنا، لنأتي إلى التساؤل المشكلة: من يُقَوِّم ويراقب من، ومن يحاسب من، وكلنا حكاماً ومحكومين نرزح في بركة من الفساد؟!!
قد تبدو هذه السطور للبعض وكأنها بمثابة إهانة quot;للشعب المصري العظيمquot;، وصادرة عن مناصر للنظام البائد ومدافع عنه، أو عن عدو للشعب quot;العظيم والبطلquot;، فنحن دائماً نترك ما يقال، خاصة إن لم يكن على هوانا، لنمسك بتلابيب القائل، ننهال عليه بالطعنات هروباً من مواجهة ما قيل. . فليكن كاتب هذه السطور ما يكون، وليكن صدق ودقة ما استنتجناه محل نقد ومراجعة تستهدف التوصل للحقائق، وليس الدفاع عن أي جهة نتصور أنها quot;خط أحمرquot;، سواء كانت هي الحاكم المدني أو العسكري، أو كانت الشعب الذي لا يتوجب أن نذكر اسمه إلا مقروناً بصفة quot;العظيمquot; أو quot;البطلquot;!!
لكن بمناسبة إهانة quot;الشعب المصري العظيمquot;، لا بأس من التطرق لمن يهينون بالفعل هذا الشعب، وينسبون له درجة من التردي لم يصل إليها، وأقصد هؤلاء الثوار الأشاوس، الذين ينسبون الفعاليات الهمجية التي تقوم بها قطاعات من الشعب المصري - تقدر بالمئات أو الآلاف - إلى مؤامرات يحيكها فلول النظام أو إسرائيل وأمريكا، باستئجار من يقومون بارتكاب هذه الجرائم، وآخر تلك الحوادث مجزرة بورسعيد الأخيرة!!
هم يدفعون عن الجماهير المصرية تهمة محدودة، ونراها حقيقية في الأغلب، وهي الاندفاع وراء التعصب والحماسة، يعززها نوازع مفهومة ومتوقعة للتنفيس عن مكبوتات القهر وشظف العيش، عن طريق ممارسة أعمال عنف وتخريب، وهو الأمر الذي لا تخلو منه مراحل الثورات لدى جميع الشعوب، خاصة وأن تصرفات الكيانات الجمعية وسلوكياتها تختلف جذرياً عن تصرفات الإنسان الفرد، أي عن تصرفات كل من أفرادها منفرداً، مما يستدعي قدراً أقل من الانزعاج، وقدراً أكبر من التحليل والمعالجة العلمية الرصينة. . في مقابل هذا نجد الأشاوس ينسبون للشعب المصري أن المئات منه قابلة للاستئجار لدمير بلدها وارتكاب تلك الجرائم، وأن الآلاف تنقاد لهولاء المأجورين وكأنها منومة مغناطيسياً. . يؤكد هؤلاء بإصرارهم على ذلك التفسير العجيب أن نزلاء ليمان طره من رؤوس نظام مبارك قادرون على تحريك الشارع المصري بأكثر مما يستطيع الثوار بأحرارهم وإخوانهم المسلمين وسلفييهم وفوقهم المجلس العسكري حامي حمى البلاد والعباد!!
ليس هذا فقط، بل أيضاً كل من إسرائيل وأمريكا قادرة وفق منطق الأشاوس على ذلك، رغم أن كراهيتهما تسري في شرايين وأعصاب الشعب المصري جراء غسيل المخ الذي تعرض له الشعب المصري طوال ستة عقود. . هكذا يريدون تأكيد أن quot;اللهو الخفيquot; أياً كانت شخصيته هو السيد الذي يطيعه الشعب المصري وينفذ له ما يريد، مما قد يعني أيضاً أن الشعب المصري لن ينصلح حاله وتنتهي مشاكله إلا إذا أعدمنا ليس فقط من نسميهم الفلول جميعاً، ولكن أن نبيد أيضاً الشعب الأمريكي والإسرائيلي، وربما لزم أيضاً لتأكيد أمن الشعب المصري إبادة الشعب القطري والسعودي والإيراني!!
رغم ما نرصده ونؤكد عليه من تردي الأحوال الشعبية المصرية سلوكياً وثقافياً، إلا أن الأحوال لم تصل أبداً لذلك الحد من التردي الذي يقودنا إليه تبرير الأشاوس للفعاليات الهمجية لقطاعات من الجماهير المصرية، وإن كان اللوم والمسئولية تعود على الشعب المصري قطعاً، من حيث أنه هو من أنجب هؤلاء، وجعل منهم نخبة ونجوماً إعلامية وسياسية، وهذه مفارقة أخرى في ثنائية الشعب والنخبة، فدور النخبة قيادة الشعب نحو مستقبل أفضل من المفترض أنها قادرة على استطلاع معالمه، والحادث أن النخبة المصرية أشبه بوليد مشوه لأم مضروبة بكل أنواع الأمراض والفيروسات، وبالتالي فالوليد يحمل كل صفاتها وعللها، لتكون نتيجة فعالياته الإعلامية والسياسية والثقافية هي المزيد من تغييب عقول الناس بدلاً من تنويرها، بشدهم بعيداً عن روح العصر وقيمه وحضارته، البعض يبشر ويدفع نحو ماض مرت عليه عشرات القرون باعتباره العصر الذهبي للدين والتقوى، والبعض نحو ماض مرت عليه عقود باعتباره عصر القومية العربية والاشتراكية والأمجاد الثورية، لنقع هنا أيضاً داخل ذات الدائرة الجهنمية المغلقة، شعب ينتج صفوة فاشلة ومأفونة، لترتد عليه فعالياتها مزيداً من الفشل والغياب ومعاداة العصر!!
الورطة المصرية شاسعة وممتدة الأطراف، وسنحاول قدر ما نستطيع رصد المزيد من معالمها في مقاربات قادمة.
مصر- الإسكندرية
التعليقات