إذا كان معظم النار من مستصغر الشرر، فإن توالي وتسارع أحداث إحراق بيوت وكنائس الأقباط في مصر وتحت رعاية المسؤولين المحليين كما اعترف محافظ أسوان أخيراً واستمرار دعوات تكفير الأقباط بفتاوى ليس فقط في المساجد لكن في كافة وسائل الإعلام يدق لنا ناقوس الخطر، للحذر من أن نجد أنفسنا ننزلق إلى حالة إبادة جماعية للأقباط في مصر، خاصة في قرى الصعيد.
ما حدث أخيراً في قرية quot;المرينابquot; بمحافظة أسوان من حرق كنيسة بدعوى هدم قبابها لعدم قانونيتها، وحرق ثلاثة منازل لأقباط، وذلك بعد صلاة الجمعة، إثر تنادي خطباء المساجد لقيام المسلمين بهدم الكنيسة، ليس مجرد حلقة جديدة من حلقات اعتداءات الغوغاء مدفوعين بتحريضات خطباء المساجد والجماعات الظلامية التي تزحف الآن للتسيد على البلاد، وصولاً لنية ترشح مناصر صريح لتنظيم القاعدة لرئاسة جمهرية مصر، وفق ما يصرح فضيلته بنفسه، لا وفق ما نتهمه نحن به. . الأمر هذه المرة يأخذ أبعاداً مختلفة في غاية الخطورة، بكلام محافظ أسوان quot;اللواء/ مصطفى السيدquot;، فهو ينقل الأحداث من تجاوز غوغاء، إلى اضطهاد رسمي من الدولة للأقباط، وهو ما كنا طوال الوقت ننكره، ونستنكر أن يصدر من أي من نشطاء الأقباط، معتبرين أن الأمر لا يتعدى التمييز الديني في بعض المجالات، علاوة على تحرشات لا تخلو منها أي مجتمعات تضم تنوعاً طائفياً، وإن كنا أيضاً لم نغفل أن الأمور إذا لم نسارع لوضعها في نصابها، يمكن أن تتحول بالفعل إلى اضطهاد ديني، وربما ما هو أسوأ!!
الجديد في الأمر في الحادثة الأخيرة هو قيام مسؤول كبير هو محافظ أسوان بالكشف عن المستور، وذلك بشجاعة أو تهور نادر الحدوث من المسؤولين في مصر، الذين أدمنوا لعصور إطلاق معسول الكلام عن الوحدة الوطنية والنسيج الواحد وما شابه، وهم في الحقيقة ضالعون على الأقل بالرضى عن الكوارث التي يلحقها الغوغاء ودعاة الكراهية بالأقباط المسالمين المستضعفين. . فبينما الأحداث الإرهابية ساخنة، والضحايا الأقباط تركوا بيوتهم لاجئين إلى بيوت المعارف، نجد الأنباء ووسائل الإعلام تطالعنا:
quot;محافظ أسوان: الأمن تباطأ تجاه الأقباط مما دفع الشباب المسلمين لهدم تلك المساحة بأيديهم. . قائلاً لمذيعة مودرن تي في: quot;كلامك مالوش معنىquot; وأضاف: من أخطأ عليه أن يعاقب وقد تم إزالة الخطأ من قِبل الشباب المسلمين وانتهى الأمر.quot;
quot;الأقباط متحدون | محافظ أسوان: أحداث المريناب هي طياشة شباب والأقباط مخطئين وأعترفوا بخطأهمquot;!!
هي إذن ليست إذن طياشة شباب بل ظلامية مسؤولين، جاءت لنا بهم ما كنا نعتقد أنه ثورة من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، أو جاء في الحقيقة لنا بهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي قال أن مهمته حماية البلاد والثورة، فإذا به يقتل الثورة، ويفشل في حماية البلاد، بداية من سيناء التي يكاد يسيطر عليها الآن تنظيم القاعدة كما يقال، وصولاً إلى أقصى جنوب مصر في أسوان، حيث يشرف اللواء المحافظ على الغزوات التي تشن على الأقباط، باعتبارها تفعيلاً للقانون على الأقباط المجرمين الذين تجاوزوه ببناء قباب لكنيستهم، بل وتمادى سعادته بصفته إلهاً محلياً في محافظة أسوان، وأنكر في خطوة أولى وجود كنيسة ليحرقها المتطرفون في قرية المريناب، لنتوقع في الخطوة التالية إنكاره لوجود أقباط من الأساس، بل ولن يدهشنا في المستقبل أن تبرر إبادة الأقباط بأنه تم تخييرهم بين الإسلام والجزية ورفضوا كليهما فحق قتالهم!!
ليس هذا فقط، بل جاءت هذه الحادثة في سياق تصاعد نغمة تكفير الأقباط في كافة وسائل الإعلام المقروءة والمنظورة، باستضافة القنوات الفضائية (الرسمية والتجارية) لرموز الإظلام والتعصب والكراهية، ليؤكدوا أن الأقباط كفار، بل ووصل الأمر أن يشارك مفتي الجمهورية د. علي جمعة في هذه الموجة التكفيرية المقدسة، ليطالعنا بفتواه التكفيرية في قناة تليفزيونية رسمية. . للرجل الحق بالطبع في تبيان وشرح عقيدته الدينية أياً كان محتواها، لكن الرجل الكبير تجاهل الفرق بين درس ديني مقصور على الدارسين أو المؤمنين في نطاق محدود، وبين إطلاقه على الملأ في قناة فضائية، ليفهم العامة والغوغاء أن كفر الأقباط يوجب عليهم استئصال شأفتهم، مهملين ما أوضحه في ذات حديثة بالفصل بين الرأي العقيدي والمعايشة، وهم غير ملومين في فشلهم في هذا التفريق، فأي تعايش مع كفار، وهي صفة مشيطنة في الخطاب الديني الإسلامي؟!!
في مصر المحروسة لا يعلو صوت الآن على صوت الإرهاب والإرهابيين، وقد أطلقهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة من السجون بعد الثورة، واستقبلت مصر بترحاب واحتفاء شبه رسمي من كان هارباً من تنفيذ أحكام منهم، وسمحت لجنة الأحزاب بتأسيس أحزاب لهم بالمخالفة للقانون والإعلان الدستوري، بتجاهل ما يصرخون به ليل نهار من رؤى دينية مشوهة ومتطرفة، وراحت للاستناد في الموافقة على هذه الأحزاب إلى بضع أوراق تافهة لا تحوي فكرهم الحقيقي، قدموها للجنة الموقرة باعتبارها برامجهم الوطنية الرائعة!!
نوعية quot;اللواء/ مصطفي السيدquot; محافظ أسوان هي نوعية من المسؤولين، تمت تربيتها وإطلاقها في كافة مؤسسات الدولة برعاية وتخطيط جماعة الإخوان المسلمين في عصر مبارك، الذي ضم حزبه المسمى بالحزب الوطني جناحاً خطيراً وفاعلاً للجماعة المسماة محظورة، وتفاقم الأمر بعد الثورة، تمهيداً لتمكن تنظيم القاعدة من حكم مصر على يد مرشحهم الآن للرئاسة، الذي تفضل بطمأنتنا إلى أن تنظيم القاعدة لن يقوم بأعمال تخربيبية في مصر، لأنه سينفذ له إذا ما تولى الحكم كل ما يريده التنظيم ويسعى إليه!!
هنا يحق لنا القول أنه لو لم يقم المجلس العسكري بتقديم quot;اللواء/ مصطفى السيدquot; محافظ أسوان لمحكمة عسكرية بتهمة الإهمال الجسيم وتعريض الأمن الوطني للخطر، يكون المجلس هكذا موافقاً على ما يحدث للأقباط وللوطن، وعلى أداء وتوجهات مسؤوليه، وسيكون من حق الأقباط الدعوة لرفع الأمر للمنظمات الحقوقية الدولية، لتقوم المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة هذا المحافظ وأمثاله، مع وضع ما يكفي من الأحجار في فم من ينسبون لمثل هذه الدعوات الخيانة أو العمالة، خاصة وأن من أرسل الظلاميين بالأمس للتقفيل والتدليس على كارثة قرية quot;أطفيحquot; بالغة الفظاعة والشذوذ، هو المسؤول الأول عما حدث اليوم في قرية quot;المرينابquot;، وإن لم يتم ردع المسؤولين للقيام بواجبات وظائفهم بوطنية وأمانة، ستصل مصر إلى كارثة لا نعلم مداها!!
كان عصر مبارك مزيجاً من حكم المتأسلمين وحواريي الطاغية، والآن طغى المتأسلمون وتجبروا في غياب من يردعهم. . لا أبرئ السلفيين ولا الإخوان بالطبع من حوادث الاعتداءات على الأقباط، لكن الحقيقة أن من يفعل ذلك هم من عموم الشعب المصري أياً كان المحرض، وهنا الكارثة الكبرى، لكن هذا لا يعني بأية حال أن الشعب المصري كله قد تحول تماماً إلى غوغاء متعصبين وكارهين، فهناك قاعدة مصرية كبيرة وإن كانت تتآكل مع الوقت، مازالت تجسد الشخصية المصرية المتسامحة القابلة للتعايش في ظل التنوع، لذا لا أعتقد أنني أحلم بالمستحيل بل بالممكن المتاح بالفعل، حين أتعشم أن يدافع المصريون المسلمون عن كنائس مصر وعن الأقباط، وألا ينتظروا مشاركة الأقباط لهم، فالأقباط لن يجمعهم إلا ظهور العذراء فوق قبة كنيسة، أو إلقاء قداسة البابا لعظة رائعة مقدسة، يوزع بعدها بركاته على خراف الكنيسة وملائكتها الأرضيين!!. . أتعشم أن ينظم الثوار مليونيات ضد قوى التخلف والتعصب والكراهية الدينية، التي لا تهدد الثورة فقط، بل تهدد الحضارة في وادي النيل.
مصر- الإسكندرية
[email protected]