أميركا تريد الحوار مع إيران، ومن بين كل القوى الموجودة في إيران لا يوجد من يمكن أن يحدد مسار ووجهة الحوار مثل المرشد الأعلى علي خامنئي. هذا الرجل هو صاحب القول الفصل، والغرب لا يعرف جيدا ما يدور في ذهنه، فهو براغماتي حيناً، ولكن مثالي حيناً آخر، فتركيزه على مسألة الكرامة والانتصار أمام الغرب تمثل له أحيانا مسألة وجود. وواقعية ومثالية المرشد الأعلى تتشابه مع سياسة إيران نفسها، فإيران quot;التبشيريةquot; صاحبة الرسالة تغير خطابها حيناً لتصبح براغماتية وواقعية.
لم يكن الرئيس الإيراني السابق (1981-1989) علي خامنئي قد وصل إلى درجة quot;الحجةquot; حتى يكون أهلاً لمنصب الولي الفقيه، فلم يكن معتبرا من بين الصفوف العليا كعالم، لكن مجلس الثورة قرر انتخابه ليكون خلفاً لآية الله الخميني، وقدّمت له هذه الدرجة. ورغم أن خامنئي كان على علاقة وطيدة بالتنظيمات السياسية الثورية في إيران، من قبل الثورة ومن بعد، إلا أنه كان على المستوى الشخصي أكثر ليبرالية، فقد وبّخه الإمام الخميني مرة لأنه أراد التخفيف من حدّة الفتوى الصادرة من هذا الأخير بحق الروائي البريطاني سلمان رشدي، كما عُرف عنه حب مجالسة الفنانين والأدباء والشعراء أكثر من مجالسة الفقهاء، لكن بعد اختياره كمرشد نحى بشخصيته لتماثل مواقف رجال الدين الأكثر سلفية وراديكالية ليقوّي نفسه، مع أنه عمل على تهميش رجال الدين الأقوياء من الصف الأول، وقوّى في المقابل من سياسيين جدد وشخصيات عسكرية. وهذا يعني أن قوّة المرشد السياسية المتزايدة في لم تكن تعني زيادة لقوة رجال الدين في السياسة.
في الأشهر الأخيرة، تصعّدت حدة الأمور بين إيران والغرب حتى وصلت إلى نقطة لابد من العودة معها إلى تفاوض واتفاق. فلا إيران قادرة على احتمال مزيد من العزلة، عبر حظر نفطها ووقف التعامل مع بنكها المركزي، ولا الولايات المتحدة ومن خلفها اسرائيل قادرة على تمرير ضربة لإيران. وقد كان الحديث حول ضربة اسرائيلية لإيران وصل لأعلى مستوى مؤخرا عبر رفع مستوى وكثافة الحديث الإعلامي والسياسي حول هذه الضربة، لدرجة الحديث عن موعد محدد لها. لكن علامة العودة عن هذا النقطة من الحدّة تجلت هذا الأسبوع حين كثر الحديث في وسائل الإعلام الغربية عن أن إيران لا تنوي الحصول على قنبلة ذرية، استناداً على quot;استدعائهاquot; لـتقرير وكالة الاستخبارات الأميركية في العام 2007 الذي يقول أن إيران أوقفت سعيها للحصول على رؤوس نووية منذ العام 2003. وقد دعمت نتيجة التقرير بتقارير استخباراتية أخرى أحدث منه. بينما تراجعت إيران أيضاً عن رفع حدة موقفها حين ألمحت أنها ستغلق مضيق quot;هرمزquot;، حيث أعلن وزير الخارجية صالحي أن إيران لن تغلق المضيق الذي تستفيد منه دول العالم.
الحوار مع المرشد الأعلى وغموضه، يبدو كأنه الحديث مع إيران نفسها. لا يوجد أصعب من الحوار مع الإيراني quot;لاعب الشطرنجquot;، ففي داخل هذا المحاور احساس عميق بالمصلحة يتمحور حوله كل شيء. ولذلك الأميركيون والاسرائيليون حاولوا في دراساتهم وأبحاثهم فهم طبيعة التفاوض الإيراني، والبحث في المتجذر الثقافي والدهاء السياسي الإيراني، ومما وجدت في هذه الأبحاث: عبادة البطل وتقدير الرئيس القوي، وهذا ما يجعل خامنئي يحاول المحافظة على وهج الخميني كمقاتل للعدو الغربي. والشعور بالتفرد والأهمية في المنطقة، فإيران كيان له وحدته القومية والثقافية والسياسية لأكثر من 2500 عام. وأيضاً، التسوية والتفاوض لديهم دلالة ضعف، ومن يقدم تنازلات سيلحقه العار. ويُعرف عنهم الصبر والانتظار و بقية مهارات لعبتهم القومية quot;الشطرنجquot;. كما يوجد لديهم مفهوم التقية أو quot;الكتمانquot; الذي يخبر غير الحقيقة عن قناعة لا يجدها تتعارض مع الضمير والمُثل. وتعتبر quot;البصلةquot; ترميزاً مناسبا للطريقة الإيرانية، حيث أن الجوهر مغطّى بالأغشية الكثيرة التي تستغرق الوقت والجهد وتصعّب من الوصول إليه، ومعرفة كنهه. ومع ذلك، الإيرانيون لديهم استعداد للتفاوض والتنازل لكن حين يوضعوا على محك اختبار حقيقي!. يكتب quot;ديفيد أغنوطيوسquot; في الواشنطن بوست هذا الأسبوع أن إيران تغير من موقفها، لكن ليس بثمن بسيط. ويدلل على ذلك عبر مواقف مختلفة لإيران في التاريخ الحديث. كان أولها إيقاف الخميني للحرب مع العراق، بعد اسبوع من اسقاط طائرة إيرانية من قبل القوات الأميركية في الخليج، مما تم تفسيره في إيران أنه استعراض أميركي للقوة. والموقف الثاني تمثل في إيقاف إيران لبرنامجها النووي عام 2003، وفتحها لقنوات تواصل مع الأوربيين بعد تخوفها من دخول أميركا السهل للعراق. والثالث كان تهديدا أميركيا صريحا يطلب إيقاف هجمات على quot;المنطقة الخضراءquot; في العراق من قبل قوات محسوبة على إيران، وهو ما تم. والرابع، بعد التصعيد الأخير، تمثل في تخفيف لهجتهم تجاه مضيق هرمز، واعلانهم عن انفتاح قنوات للتفاوض مع الأميركيين.
وما يهمنا بالفعل هنا في منطقة الخليج، باعتبارنا أكبر المتأثرين بسلوك إيران، هو إدراك أهمية تبدل الخطاب الإيراني وإمكانيات استثماره. فلا مشكلة في أن يكون لإيران خطاب تفاوضي مصلحي كبقية الدول، لا خطاب تبشيري ومراوغ تتضرر منه الدول المجاورة. ولا يخفى أن ما حدث في الربيع العربي من خسائر لإيران، عبر تزعزع الحليف السوري، وتحطم صورة quot;حزب اللهquot; في لبنان، وعجز دورها المنشود في البحرين، وجمود العراق الذي تغلغلت فيه وانعزاله في مشاكل سياسية لا تنتهي.. قد حتّمت على إيران أن تعيد النظر في موقفها الذي تهدف له في المنطقة. وهذه تأثيرات عربية، هي أعمق على إيران من تهديدات الغرب وضغوطه.. وفقط، تبحث عن محاورين عرب أذكياء.
[email protected]