في أواخر العام 2006 حضرت ندوة لمجموعة شبابية ناشطة من طلاب جامعة واشنطن- سياتل. وكانت هذه المجموعة تحشد الجهد من أجل معارضة الحرب الأميركية على العراق، ففي تلك الفترة كانت جهود معارضة الحرب قد وصلت إلى الذروة. كان عنوان هذه الندوة quot;المظاهرة التي أخرجتنا من حرب فيتنامquot;.. وتحدث فيها أحد المحاضرين عن الفرق بين فاعلية quot;المظاهرةquot; أثناء الحرب السابقة مقارنة بالقدرة الحالية لها. ومن ذلك، أن المظاهرات ضد حرب فيتنام في السابق اكتسبت قوة حين شارك فيها الجنود الذين عادوا من الحرب، بينما حالياً يصعب أن يشارك الجنود، فالتجنيد quot;الإجباريquot; في أميركا قد توقف منذ العام 1973، والآن الجندية تقوم على التطوع والاختيار، فالجيش الأميركي يقدم مزايا لمن يشارك فيه مثل القروض والمسكن والاقامة وغيرها.. وهذا ما يجعل الأمر معقداً أمام quot;الاحتجاجquot;، فأنت عندما تذهب بقدميك وباختيارك إلى مؤسسة، من الصعب عليك أن تعارض سياستها!.
هذه النقطة من المحاضر، تصلح كمدخل لفهم قضيتنا هنا، وهي صعوبة مواجهة quot;المؤسساتquot; من قبل quot;الفردquot;. المؤسسات على تنوعها، تتغوّل وتتطور عقليتها بسرعة فائقة، ولديها موارد متعددة تمكنها من خلق حكايتها الخاصة، التي لا يملك الفرد إلا أن يكون جزءاً منها. المؤسسات في العصر الرأسمالي تُفقد الفرد القدرة على تقديم حضور مضاد، يرتكز على أهميته كإنسان، وعلى خططه الذاتية، لا خطط المؤسسة وفائدة الطبقات النخبوية في داخلها. المؤسسات عبر هذه القدرة تتمتع بسلوك مخاتل، ومن الصعب الإمساك بدليل ضدها، أو أن تظهر مخطئة.. وفي عالم المؤسسات القوية، يتم اسكات وتهميش الأصوات المغايرة، من نقابات، أو مثقفين، أو صحافة مستقلّة ناقدة.. بل هي سطوة امتدت أيضاً، في أحيان كثيرة، للسيطرة على العالم الأكاديمي.
أذكر حكاية أخرى توضح هذا الجانب.. ذكر الراحل عبدالوهاب المسيري في سيرته quot;رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار، ص166quot; أنه حين كان موجوداً في أميركا في السبعينات، كان هناك أستاذاً يسارياً في الجامعة التي كان يعمل فيها، وكان هذا الأستاذ معارضاً لحرب فيتنام. يخبر المسيري أن الجامعة لم ترتح لوجوده، وفي نفس الوقت لم تستطع أن تطرده مباشرة بسبب أفكاره. لكن مجلس الولاية قام بتقليص ميزانية الجامعة، ثم تم تسريب رسالة إلى أعضاء هيئة التدريس أن هذا النقص في الميزانية هو بسبب وجود هذا الأستاذ اليساري بينهم، ومن هنا بدأ التضييق على هذا الأستاذ من العاملين في الجامعة، مما اضطره في نهاية الأمر إلى الاستقالة..
هكذا، مع استمرار النمط الرأس مالي للحياة، نمى السلوك المؤسسي، وأصبح لدى الشركات دوماً خياراتها المتعددة، واستطاعت الغاء خيارات الفرد، وحبسه في مساحة معينة من اختياراتها فقط..

* * *
تكمن خطورة هيمنة المؤسسات في كونها هيمنة خفيّة ذات قوة وسلطة لا ترى. وكما قال الدوس هسكلي، صاحب رواية quot;عالم جديد شجاعquot;، فإن الخطورة الكبرى في الزمن الحديث تأتي من quot;العدو المبتسمquot;، أي العدو الذي يلبس لنا لبوس الصديق، فتسقط أمامه كل قدرات المناعة والاحتراس. وهو أمر حدث مع كثير من المؤسسات والحكومات، التي كان الأساس فيها أنها تخدم الإنسان، ووضعت من أجله.. لكن ما تبين وظهر كان غير ذلك، فالمؤسسات لا تختلف عن البشر، وهي إن تحررت من الرقابة والنقد، فستسلك سلوكاً نفعياً بالتأكيد.
لم تعد طريقة الهيمنة طريقة مباشرة، يمكن ملاحظتها والوقوف ضدها كما في السابق!. مفهوم القوة بالأمس كان يعني أن (أ) يجبر(ب) على فعل ما يريد. أمّا اليوم فهي أن (أ) يجعل (ب) يعتقد ما يريد منه أن يعتقد، لذا الأخير يفعل ما يريد الأول بطريقة ذاتية وعن طريق قناعة داخلية، لا ضغط خارجي. لذا التحرر من هذا النوع من الهيمنة يكمن في تحرير القناعات. وهذا هو المفهوم الحديث للهيمنة، كما تحدث عنه quot;غرامشيquot; وطوّره غيره من بعده.
هذا النوع من الهيمنة هو ما ولّد تفوق المؤسسات، التي تعيد تشكيل نفسها بطرق أكثر ذكاء، ونسخت وعي الأفراد، وأبدلتهم وعياً يناسب quot;مقاصدهاquot;. على سبيل المثال، يذكر صاحب إحدى الكتب في نقد الاستهلاك، أنه بسبب خلق هذ quot;الوعي الجديدquot; أصبح المستهلك يتسوّق بقلبه، لا بعقله كما في السابق، ولذا التسوّق لم يعد يغطي فقط احتياجات فعلية، بل ووجدانية أيضاً.. كل هذا يحدث والأفراد يعانون الشقاء في حياتهم لأنهم لا يملكون ما يكفي لملاحقة ما تريده هذه الشركات منهم، وما تقدمه لهم!.
سلوك المؤسسات صعّب الحياة على الأفراد، والوضع صار إلى انساق مجتمعية ومؤسسية لايملك الفرد حيالها قدرة ولا ممانعة، بل يرضخ لها مجبراً، وإن عاكس ذلك فهو بالتأكيد، سيصبح الخارج والغير مقبول. صورة الإنسان وقيمته أًصبحت تقاس بما يقدمه لهذه العملية الاستهلاكية والإنتاجية. ومن يعارض مثل هذه الأنساق وأنماط الحياة التي ترسّخت، يبدو اليوم quot;لاعقلانياًquot;، وخارجاً عن العرف والنظام السائد في المجتمع الذي يبدو -في شكله- مساعداً للجميع. هكذا بدت أشكال الشباب في وال ستريت تجلب الرثاء، لأنهم بلا خطة وصوت واضح، أو quot;لغرابةquot; أشكالهم التي قد لا تدلل على معرفة منهم لما يريدون. وهناك تحرج من قبل إعلاميين ومثقفين لمساندة مطالبهم، فمن يخرج على quot;النمط السائدquot; من المثقفين، قد يوصف بأنه غير واقعي، وديماغوجي ومضلَّل وشعبوي!.. كما فعلوا مع المفكر quot;هوارد زنquot; حين ساند احتجاجات مختلفة في أميركا، وما حدث مع علام الاجتماع quot;بيير بورديوquot; حين شارك العمّال والعاطلين اضراباتهم واحتجاجاتهم في فرنسا ضد quot;سياساتquot; العولمة.
بعض المثقفين قد يلوم مثل هؤلاء على مشاركتهم في النضال، والوقوف مع الفرد ضد المؤسسات في عالم رأس المال.. لأنهم يرون أن الفرد قد ذهب إلى هذه الشركات باختياره، فهو موجود في عالم حر!. وهذا عدم فهم لهذه العملية المعقدة، فلو ذهبوا إلى مستوى أعمق، لوجدوا أن التنظيم والبناء كلّه يصب في صالح المؤسسات وخياراتها، أي أنه بناء من أساسه غير صالح، واختيار الفرد ورضوخه في النهاية ليس إلا آخر خطوات الهيمنة.
هذه الهيمنة المستمرة والمتجددة جعلت أشكال المعارضة ضد رأس المال ضعيفة، ولا تحظى بانتشار وشعبية. ونقص الشعبية لدى هذه التحركات هو ما منعها من تحقيق الضغط السياسي وكسب تغيير حقيقي.

* * *
التجاهل والتسطيح للاحتجاجات في عالم رأس المال قد حدث كثيراً قبل هذه المرة، لكن اليوم يبدو الأمر مختلفاً. فكثرة الطرق على نفس الموضوع قد تولّد في النهاية نتيجتها على أرض الواقع، واحتجاجات وال ستريت لها ارهاصاتها، وقد سُبقت باحتجاجات مختلفة في أميركا والعالم الغربي منذ التسعينات.
لقد شهد الغرب احتجاجات مستمرة ضد سياسات العولمة وكبريات الشركات ومصانع العمالة الرخيصة.. بدأت هذه الاحتجاجات في فرنسا منتصف التسعينات، وتصعّدت بشكل كبير في أميركا، وخصوصاً مظاهرات مدينة سياتل الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1999 التي مثلت نقطة تحول في التاريخ الاحتجاجي، ونقلته لأن يكون هو نفسه احتجاج ذا طابع quot;عولميquot;، انتقل بعدها إلى عدة مدن عالمية أخرى، كما عقدت منتديات عالمية مضادّة حاولت أن تستكمل بدورها طريقاً تنظيمياً جديداً، لأن أسلوب الاحتجاجات القديم لم يعد يجدي في مجابهة quot;تغوّل المؤسساتquot;..
ذات مرة كتب أحد نقّاد الرأسمالية أن الإعلام الأميركي quot;لايسمع شراً ولا يرى شراً ولا يخبرعن شرquot;، في إشارة إلى تغاضيه عن سلوك الممارسات والأقوياء، لأنه تابع لهم عادة. لكن اليوم، فرضت احتجاجات وال ستريت نفسها على الإعلام وعلى المسؤولين السياسيين، وعلى البرامج الانتخابية في البلد. انتقلت احتجاجات وال ستريت إلى مئات المدن الأميركية في داخل أميركا وخارجها، وبالإضافة لمسارها الاحتجاجي السابق، فإن موجة التظاهرات حول العالم كالربيع العربي، والأزمة الاقتصادية العالمية، ودور الشبكات الاجتماعية الفاعل، كلها أثمرت زخماً داعماً لا يمكن تجاهله هذه المرة.
المحتجون في وال ستريت صمّموا على توجيه ضربتهم واحتجاجهم تجاه الشركات والمؤسسات المالية الكبرى في أميركا، فأكبر خمسمائة شركة في أميركا لديها فائض مالي يقدّر بـ 4 تريليون دولار أميركي، في وضع تعاني الحكومة الأميركية فيه من ضغط الديون.. صوت هؤلاء المحتجين تتزايد شعبيته يوماً بعد يوم، وكبريات النقابات والمنظمات العمالية قد أنضمت إليهم قبل فترة وجيزة.. وهو الأمر الذي يصفه أحد المحللين بأنه سيساعد هؤلاء المحتجين على التنظيم، وتحديد أجندة ورسالة واضحة، لأن هذه النقابات عريقة في مجال التنظيم ولديها الكفاءات والخبرة.
وهناك من انتقد هؤلاء الشباب لأنهم توجهوا إلى المكان الخطأ، فالشركات ليست المسؤولة عن الخطط الاقتصادية الفاشلة، وإنما quot;البيت الأبيضquot;، فـ 70% من الدين الأميركي تتحمله الحكومة وخططها، لا سياسات وال ستريت. وفي العموم، سواء كان الأمر أن الشركات هي الملوم الأول لجشعها وسياساتها الرأسمالية البحتة، أم أن الحكومة هي الملومة، فمن الواضح أن الطريق للمحتجين يبقى واحداً في الحالتين. وهو التأثير على صانع القرار السياسي، لتغيير النظام القائم، وسلك طريق جديد، يتم القصد من خلاله إلى ديمقراطية أًصدق، وعدالة اجتماعية أكبر.

[email protected]