الثقافة زمن الثورة
قرأت مرة كلاماً لكاتب غربي يسأل فيه quot;أليس ذلك صحيحاً، أن عدم الولاء للكاتب، هو مزية للكاتب مثلما أن الولاء مزية للجندي!..quot; المتأمل في هذه العبارة لا يخفى عليه المعنى الجميل الذي تحتويه. فالكاتب والمفكر والمثقف ليس له أن يوالي الكيانات التي ينتمي إليها في كل مسار تذهب إليه. فلابد من مسافة تحفظ له استقلاله وتمكنه من النقد والرؤية والمراجعة.. مما يصب في النهاية في مصلحة هذه الكيانات نفسها.
هذا هو دور الكاتب الأكبر والأهم؛ أن يساعد هذه الكيانات على رؤية نفسها. الكاتب والمثقف الواعي ليس مثل الجندي الذي يوالي الدرب ويطيع الأوامر، فالكاتب قد يكون لديه قضية مع هذه الأوامر نفسها!. وما يربط الكاتب عادة بمسار ما هو نوعية هذا المسار وصلاحيته.. ومن مهمات الكاتب اختبار المسارات والطرق، فهو إنسان مشغول بالأفكار دوماً، ومنطلقه دائماً يكون الفكرة والمبدأ.
إن استقلالية أهل الفكر والكتابة وغيرهم من النخب لطالما أنقذت وساعدت المجتمعات على رؤية نفسها، ولكن للأسف ضعف لدينا في العالم العربي هذا المعنى التواصلي العميق لمهمة الكاتب. فالكتابة لدينا أصبحت كما يصفها نزار quot;وظيفة أميرية (حكومية) فيها كل طمأنينة الوظيفة، وطاعتها وقدريتها، وانضباطها... وثلاثة أرباع الكتاب العرب quot;موظفون أميريونquot; يكتبون وفي جيوبهم quot;بوليصةquot; تأمين ضد الفقر، والمرض، والشيخوخة والطرد التعسفي.. لذلك فهم عاجزون عن إعلان أي إضراب وعن السير في مظاهرة..quot;.
والوقت الحالي للثورة العربية الشعبية أحدث انقلابات فكرية وثقافية في المجتمع العربي، واستصحب معه الكثير من الجدل حول دور المثقفين والنخب الأخرى في المجتمع.. وخلال هذه الفترة القصيرة تم توزيع الكثير من تهم التجريم والتخوين والعمالة، بدءاً من جدل واضطراب ثقافي تم في مشهد الثورة المصرية، مروراً بالبحرين ومشهد ثقافي واعلامي ساخن ضد كل من لم quot;يتخندقquot; مع الحكومة، وصولاً إلى المشهد السوري الذي يحدث فيه حالياً توزيع كبير للتهم وحملة تخوين واسعة في الداخل والخارج يقودها نظام quot;مضطربquot; يقتل الناس ولا يتوقع أن يجابهه أحد!.


دريد لحام والهجوم على عزمي بشارة
الحالة في سوريا بذلك هي الأعنف في المواجهة الثقافية كما هو حال مواجهتها الأمنية. وقد شن الإعلام الموالي للنظام الرسمي السوري حملة عبر قنواته على كل من ينتقد هذا النظام من أشخاص أو وسائل اعلام. وعبر الانترنت جنّد هذا النظام quot;شبيحة إلكترونيةquot; تهاجم بأسوأ وأرخص الأساليب.. وهجومهم بهذه الطريقة ليس إلّا quot;الصراخ على قدر الألمquot;.
ومن طليعة من تعرضوا لهذا الهجوم المفكر العربي عزمي بشارة، وذلك لخروجه المتكرر على قناة الجزيرة وانتقاده للنظام السوري في ممارساته تجاه المتظاهرين وعدم تبنيه أي إصلاحات. وآخر معالم هذا الهجوم تمثلت في استخدام الرموز المعروفة لمهاجمته. فظهر مؤخراً الممثل السوري المعروف دريد لحام على شاشة أحد القنوات العربية ليمجّد الرئيس بشار الأسد ويهاجم منتقديه، ووصف المفكر بشارة في هجوم حاد عليه بأنه كذاب يلبس لبوس الشيطان، وقال quot;سوريا كانت تعتبره صديقاً وعلى هذا الأساس تعاملت معه، إلّا أنه كان يلبس لبوس شيطانquot;(موقع العربية، 5/5/2011).
وفيما عدا بذاءة الكلام التي تقصر عن أن تسيء لقامة مثل عزمي بشارة ولكنها تسيء لدريد لحام نفسه، نلاحظ هنا الخلط الواسع الذي يخوض فيه دريد لحام، فإذا كان بشارة الذي كتب كتبا في quot;النظرية الديمقراطيةquot; وquot;المجتمع المدنيquot; قد توافق مع سوريا في خط ومشروع سياستها الخارجية في فترة من الفترات، فلماذا يفترض دريد أو غيره أن بشارة سيبقى مرتبطاً بالنظام السوري بعقد (زواج كاثوليكي)، خصوصا في سياسته الداخلية التي تقوم على قتل الشعب وترويعه!.
التوافق ليس quot;عصبية قبليةquot; ود.عزمي بشارة لم يغير مواقفه كما يفعل آخرون ممن يغيرون مواقفهم من التعاون مع quot;شارونquot; وحتى التعاون مع quot;الأسدquot;، ويستقبلهم النظام ويتعاون معهم!. لم يكن موقف بشارة مع النظام السوري لكي يصبح ضده، بل ظل على موقفه المبدئي ضد الاحتلال الأجنبي وضد الإملاء على سوريا خارجيا. ولكنه لم يؤيد يوماً سياسات النظام السوري الداخلية، وفي كتاباته جميعها موقف واضح من الاستبداد ومع الديمقراطية. وفي كتابيه الاخيرين quot;المسألة العربيةquot; و quot;أن تكون عربيا في أيامناquot; تفهم في عدة فصول أن المقصود هو سوريا من دون أن يسميها. لقد وقف بشارة منذ البداية مع الثورتين التونسية والمصرية، فكيف يتخلى عن مطالب الشعب السوري العادلة. إنه موقف مثابر منذ أن رفع شعار quot;دولة المواطنينquot; أو quot;الدولة لجميع مواطنيهاquot; في الداخل، وهو كتب عدة مرات أن هذا موقف مبدئي يشمل الدول العربية أيضا.
وحتى الآن تشير quot;الإحصائياتquot; إلى قتل ما يقارب من 1000إنسان في حملة النظام السوري الإجرامية، ومع ذلك لا يريد هذا النظام ورموزه أن يشاهدوا من ينتقد ويهاجم!.
لقد كان بإمكان أي متابع أن يلاحظ تمرحل ارتفاع الوتيرة النقدية من عزمي بشارة تجاه النظام السوري، وهي وتيرة أتت مترابطة مع وقع الشارع الاحتجاجي نفسه، كما أتت منسجمة مع تشخيص بشارة الفكري للوضع الاجتماعي المتعدد الهويات في المشرق العربي.. وتفضيله quot;العلنيquot; للإصلاح في المشرق العربي عوضاً عن quot;الهزات الكبرىquot; التي قد تُحيي شروخاً تاريخية. ففي البداية انتقد بشارة النظام مبينا مكامن الفساد وانعدام العدالة مذكرا أنه لم يمتدح أبداً هذا النظام في سياسته الداخلية، وأكد على مطالب الشعب السوري وأعلن أن النظام في بداية الاحتجاجات لديه فرصة للإصلاح، وإن لم يستغلها فهذا شأنه وهو من يتحمل تبعات هذا القرار.. لكن الأيام المتتالية بينت أن النظام لا يجيد سوى لغة البطش والحل الأمني.. وهذا ما جعل الشارع المحتج والمراقبين يصعّدون في أمر مجابهة هذا النظام واجرامه، ومن ذلك أحاديث بشارة الأخيرة التي تتحدث بوضوح عن فشل هذا النظام وافلات الأمر منه عبر تبنيه منطق القوة والحل الأمني.
وليست المسألة، في الواقع، أن هناك غراميات من أحد لتقصد حكومة بعينها!. بشارة أو برهان غليون أو هيثم المالح وغيرهم من المثقفين لم يكونوا في السابق يرفعون شعارات إسقاط للنظام ولم يتقصدوا مثل ذلك، بل دفعوا باتجاه الإصلاح، لكن استمرار مثل هذا النظام في التصعيد وفي حملته الدموية هو السبب، واستمراره في طريقته الجنونية هو ما دفع برهان غليون إلى القول بأنه quot;نظام سيسقط. لأن السوريين يراهنون على قدرتهم على التضحيةquot;.
وبالنسبة لنا كأشخاص عاديين لم نكن في السابق نقول مثلاً لأصحابنا في مصر أو اليمن، اذهبوا وأسقطوا الحكومة!. لا.. لم يكن هذا الشيء غراماً شائعا وهوايةً بيننا. لكن حين تم الأمر وبدأ الشعب يقول كلمته فلا بد من quot;موقفquot; إذن. فرأينا كيف أن الكثير من quot;القلوبquot; وقفت مع الشعب المصري حين نزل إلى الشارع ليعبر عن كلمته، كما هي القلوب المساندة لإخواننا في اليمن الآن ضد النظام المراوغ والخوّان. إن quot;موقفquot; الشعب وكلمته ورأيه العام هي المقصد المدني الأهم، والنقطة التي تستفز المثقف والإنسان صاحب الحس على المشاركة والتضامن مع رغبات الشعب المشروعة.


دريد والسقوط
لقد عاد دريد لحام إلى المسرح بعد غياب ما يقارب من ثمانية عشر عاماً عنه. وفي مطلع هذا العام حضرت مسرحيته الجديدة (السقوط). وكانت هذه المسرحية التي حضّر لها دريد جيدا مع كوكبة من النجوم، تدور من أولها إلى آخرها حول الحكام العرب وتمسكهم بالسلطة وقهرهم لشعوبهم!!..
لسنين طويلة كان صاحب quot;كأسك يا وطنquot; يتكلم وينظّر عن الفن الرسالي، وعن دور الفنان في إلهام الشعوب وفي دفعها إلى ما تستحق من حرية وحقوق. ولسنين طويلة كان دريد يجترح العمل الفني بعد الآخر، والتي فتّح بعضها أعين المشاهد العربي على مضامين سياسية واجتماعية، ولكن العديد من النقاد اعتبروا أعماله الفنية quot;تنفيسيةquot; وصالحة لأوقات quot;الفراغquot; لا أكثر، لمعرفتهم بعلاقاته quot;المميزةquot; مع النظام السوري. وقد اتضح اليوم أنهم كانوا على حق.. فاليوم وحين خرج quot;الشعبquot; الفعلي الحقيقي الى الشارع؛ وقف دريد لحام في صف من يطلق النار عليه، وتبين أن quot;السقوطquot; ليس إلّا سقوطاً لدريد بتنكره لمطالب شعبه العادلة!.
إن المعيار الذي يساعدنا على الحكم على إنسان ما هو quot;الإنتاجquot; الذي يقدمه هذا الإنسان. فيُنسب لعيسى عليه السلام قوله quot;من ثمارهم تعرفونهم لا نجني من الشوك العنبquot;.. وأي ثمرة نجنيها اليوم أفضل من ثمرة المفكرين والمثقفين ورجال الدين وغيرهم من أصحاب الحسّ الحي، ممن اصطفوا إلى جانب الشعوب العربية التي قالت كلمتها ونزلت إلى الشارع بحثاً عن حريتها حتى ولو واجهت البطش والرصاص!.
أمر مُرعب أن نشاهد اليوم كل هذا التقتيل والمحاصرة للمدن والناس من قبل النظام السوري وسط صمت رسمي عربي مخجل. ووسط مواقف عاجزة لنخب لا تستطيع التعبير أو لا تستطيع فهم ما يجري أمامها، حيث عقول تكلست ومصالح ترسمت.

سـوريا والحرية
سوريا بلد من quot;أجملquot; البلاد العربية، إنها بلد أول أبجدية، وأقدم عاصمة، ومكان النسيم العليل، والأرض الخصبة التي تنتج طيب النبت والناس... لكنه الجمال الذي تم إفساده!.
لا يوجد بلد عربي وصل إلى درجة مماثلة لسوريا في القمع وإرهاب الدولة. إنها البلد الذي تنطبق عليه بامتيازات مواصفات دولة الرعب والمراقبة مثل تلك التي وصفها جورج أورويل في روايته (1984). إنها بلد تنعدم فيه الحياة الطبيعية الاعتيادية لأن أجهزة الأمن والمخابرات، ذات quot;الكياناتquot; المتعددة، لديها حصانة قصوى لفعل ما تريد في الإنسان وأمنه وكرامته. والآن، على من كتب أن quot;الحرب القذرةquot; في الأرجنتين أواخر السبعينات كانت آخر الحروب المعهودة والواضحة من دولة تجاه شعبها أن يعيد كتابة هذه الجملة، فهناك اليوم حرب قذرة جديدة تجاه شعب.
النظام السوري نظام بوليسي قمعي بامتياز، ومثل أي نظام ديكتاتوري يظهر عادة وكأنه لا يمكن المساس به، ولكن عند اختباره تتزعزع بنيته الكرتونية بسرعة.. وتتجلّى في حال الأزمة حالته الداخلية المتهلهلة، وتبرز الفجوات والطبقات المتصارعة التي سارعت دوماً داخله للبحث عن مصلحتها quot;الخاصةquot;..
ومع كل ذلك هناك من يستثقل على العرب أن يكون لديهم مثقفون وكتّاب ونخب من أصحاب الحس الحي، تقف مع الشعوب وتؤيدها في مطالبها المشروعة!..
لذلك، ألم تلاحظ يا سيد دريد أن حجم الفنانين والكتّاب الذين دافعوا عن نظام مبارك لم يكونوا ليغنوا عنه شيئا!.. إن ما يحدث ليس مرتبط بك ولا بعزمي بشارة ولا بغيركم من الأفراد.. إنه مرتبط بوضع انسداد وتأزم وصل إلى درجة لا تطاق.. أجبرت أبناء البلد في سوريا للخروج بصدور عارية تواجه الرصاص والبطش في سبيل هاتف الحرية. وحين يهتف الشعب من يقف أمامه؟!.
وإذا كنتم ترون أن الأعداد التي خرجت لا تمثل كل الشعب، فأعلموا أن أعداد الشعب الباقية لن تقف طويلاً على الحياد، فهي الآن تصنع قرارها لتصطف مع أبناء الشعب ضد جلّاديه..
وكلهم قلوب تهتف مع نزار: quot;في دمشق... لا أستطيع أن أكون محايداًquot;.

[email protected]