المسلمون في الغرب يعيشون مشكلة مع أنفسهم قبل أن يعيشونها مع الغرب. لا يمكن لأحد أن يستبسط الحديث عن وحدة إسلامية في الغرب!. يتساءل باحث مسلم quot;لماذا (الأمية) في العالم العربي والإسلامي أسوأ تقريباً من أي مكان في العالم؟ لماذا الأنظمة التسلطية شائعة في العالم الإسلامي والعربي؟ ولماذا الفروقات الطبقية هائلة في المجتمعات العربية والإسلامية مع أن العدل والتكافل هما جوهر الإسلام؟ لماذا هذا التفكك والعداء في داخل العالم الإسلامي؟!! لذا قبل الحديث عن صورتنا.. ألا يفترض أن نعمل على جوهرنا؟!!quot;
عبر الأطلسي، انتقلت بعض العلل مع حقائب المهاجرين وأفكارهم. شيء معتاد أن تجد في المساجد الأميركية شجاراً بين أميركي وأفارقة.. أو خلافاً مزمناً بين باكستاني وعرب!.. يمثل الإسلام هويّة تحمل في داخلها هويات متعددة، من إثنيات وجنسيات متعددة، لا يزال لها وجودها الفاعل.. أو مسارات تيارية وطائفية. تحدث عنها (جين سميث) في كتابه (الإسلام والمسلمون في أمريكا، ص258) كصعوبات تقلل من فرص توحد المسلمين، وكمشاكل في العلاقات فيما بينهم من مهاجرين ومواطنين، وهو ما ولد تمييزاً واضحاً، وانفصالاً للروابط بين هياكلهم التنظيمية ومناسباتهم الاجتماعية.
مرد هذه الأزمة لدى المسلمين عائد إلى كونهم، في أغلب قطاعاتهم، لم ينجحوا في إدارة الصراع واحتواء الاختلاف، ولم يحسنوا تبني وإشاعة مسار ديمقراطي لتجمعاتهم. بل نقلوا معهم ثقافاتهم وخلافاتهم ومرجعياتهم التي تشكلت في بيئاتهم السابقة، وأرادوا استخدامها وإشاعتها في نسق الدولة الغربية الحديثة!. اذكر خلافاً حاداً حصل بين مسلمين في مسجد مدينة كنت أدرس فيها، ووصل الخلاف إلى المحكمة. هناك قال لهم القاضي (القاضي الأميركي غير المسلم): quot;عيب عليكم!! يفترض أنكم أخوة.. اذهبوا من هنا، اجلسوا مع بعضكم، وحلوا مشكلتكم بأنفسكم!..quot;
هذا ما جعل التجمعات الإسلامية على كثرة طاقاتها وأماكن تواجدها محدودة الإنتاج، ولم تحظ بتعاون موسع ومشترك فيما بينها -مع عدم إغفال أن هناك منظمات إسلامية كبيرة لها جهودها المميزة في أميركا-. يقول الكاتب الأميركي المسلم (جيفري لانج) في كتابه (حتى الملائكة تسأل، ص298): quot;... مسلمون أميركيون كثيرون يتظلمون من كون مساجدهم، ومراكزهم الإسلامية، ومنظمات تجمعهم، تذكرهم بأنظمة الحكم المطلق في الشرق الأوسط، حيث لا يسمح لأي إنسان أن يشارك في القرار أو يعترض على السلطةquot;.
سيعلم المسلمون، إمّا اليوم أو غداً، أن باب النقد والمراجعة هو الأمثل والأسلم لهم، بدل الانشغال المفرط بتصرفات الآخرين تجاههم. وفي العادة، يصل (الفرد) إلى التبين والنضج والوضوح بطريقة أسرع من (الجماهير والجموع). فالفرد المستقل يتحرر فكرياً ويستطيع النظر والتمييز، بينما الجموع تسيطر عليها النخب والمرجعيات، وتحجب عنها دروب النظر، وفسحة الرؤية. مما يبعد فترة المراجعة، والقدرة على النقد. فالجماهير لا تزال كما قال عنها (لوبون) صاحب (سيكولوجية الجماهير): كيان غير عاقل، لا يجنح إلى من يقنعه بل إلى من يغويه!!..
لذا وتأكيداً على نقطة المراجعة، وعلى سابقة تجربة الفرد على تجربة الجماعة، من المهم أن نتأمل هنا في تجربة أهم شخص في مسألة الوجود الإسلامي في الغرب. المفكر والداعية الإسلامي (طارق رمضان) هو الممثل الأبرز لما يسمّى بالإسلام الأوروبي. ورمضان، المحاضر في جامعة أكسفورد البريطانية، والذي اعتبرته مجلة (التايمز) واحدا من بين أهم مائة شخصية على مستوى العالم، هو اليوم صاحب أوسع تأثير بين الأجيال المسلمة الشابة في أوروبا.
ولد طارق رمضان في سويسرا في العام 1962، وجده من جهة أمه هو الإمام حسن البنا، زعيم ومؤسس حركة الأخوان المسلمين. أكمل رمضان دراسته في الغرب، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة الغربية، بجانب دراساته الإسلامية التي تمت على يد والده سعيد رمضان، القيادي في حركة الأخوان، إضافة إلى دراسته للعلوم الإسلامية في الأزهر. تجربة رمضان التي جعلته خابراً بالغرب، وعارفاً بالشرق، أهلته لأن يكون (رأس الحربة) في التحدي الوجودي للمسلمين في الغرب.. هذا الوجود وترسيمه بسلام وتوافق، كان الهدف الرئيس الذي سيطر على رمضان طوال حياته، وقدّم من أجله جهوده المتواصلة كمتحدث وأكاديمي وكاتب عبر ما يقارب العشرين عاماً.
طارق رمضان، (الأخ الأكبر) كما تسمّيه الأحياء الشعبية في فرنسا، أو (الإرهابي المقبول) كما سمّته صحيفة أوروبية، أو (الأصولي المستتر) كما قال عنه ناقمون، أو (المجدد الإصلاحي) كما يقول آخرون؛ يتعرض لهجوم متواصل، وشخصيته تعتبر من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في العالم. لأنه المتفلسف الإسلامي، والأوروبي الشرقي، والحداثي المتأصل...!!. وهذا ما يفسر كثرة الكتب الغربية التي كتبت للتحدث عنه كظاهرة، وقد كانت أميركا منعته من دخول أراضيها حتى العام الحالي حين قررت إدارة أوباما إلغاء هذا المنع.
كتب رمضان عشرين كتاباً ومئات المقالات في مجال الفكر الإسلامي وعلاقة الإٍسلام مع الغرب. من بينها (أن تكون مسلماً أوروبياً)، (مسلمو الغرب ومستقبل الإسلام)، (الإسلام والغرب وتحدي الحداثة).. والمسار الذي تمرحل من خلاله رمضان يقدم توجهاً واضحاً في مساره تجاه المزيد من النقد والمراجعة. وهو ما يتجلى واضحاً عبر أحد أواخر كتبه (الإصلاح الجذري: الأخلاقيات الإسلامية والتحرر، 2009)، وهو الكتاب الذي يحاول من خلاله رمضان تقديم رؤية إصلاحية للمسلمين تمكنهم من أن يكونوا مسلمين معاصرين من غير أن يتباعدوا عن دينهم.
يخبر (رضوان السيد) أن رمضان، وبعد عشرين سنة من الكتابة والنضال، قد تغير quot;.. من حيث ازدياد معرفته بالإسلاميات الكلاسيكية، وبالإمكانيات القوية التي يملكها الإسلام الأصولي المعاصر بين الشباب، وليس في البلدان الإسلامية وحسب؛ بل وفي بلدان المهجر. .. وكانت تلك المراجعة النقدية أساس اقتناع طارق رمضان أنه لابد من إصلاح إسلامي جذري. إذ ما دمنا نطالب الأوروبيين بمراجعات قوية لوجوه التمييز والخصوصية؛ فالمسلمون في أوروبا لابد أن يجتازوا تلك المراجعة إنما فيما يتعلق بمورثهم الديني الذي تلقوه أو تلقوا وجوه فهمه وعيشه من السلفيين أو من الإخوان أو من بعض الصيغ المعدلةquot;.
هناك أهمية للبعدين الجغرافي والتاريخي في مسألة تشكل المسلمين في الغرب، وأي محاولة لتسطيح وتجاوز هذين البعدين ليست إلا محاولة تزييف، وخلق فجوة بين الوعي والواقع. ورغم المخاطر والصعوبات التي تعترض المسلمين في تشكيل تجربتهم الغربية، إلا أنها تجربة تمثل تحدياً يستحثهم في النهاية على الإنتاج والتوليد الذاتي لهوياتهم!!.. هناك معطيات متجذرة في البيئات الغربية، مثل المجتمع المدني، المساواة والتسامح، القبول بالديمقراطية، حرية العقيدة والتعبير، وغيرها.. ولابد للمسلمين من وقفة مراجعة أمام هذه المعطيات، فليست كل المعطيات الغربية تختلف وتتناقض مع جوهر الشريعة الإسلامية، والتي اختزلها البعض وجعلها محصورة فقط في تطبيق بعض الحدود!!..
خيار المسلمين الأمثل لا يكون في الانعزال، ولا الانصهار أو الاندماج.. بقدر ما هو في التأقلم والمعايشة. لدى المسلمين في الغرب صعوبات وتحديات كبيرة تأتيهم من الخارج (الشرقي أو الغربي). لكن هذه الصعوبات والتحديات ستتضاعف إن لم يكونوا موجودين من أجلها، وإن جلبوا لها عقولاً من الخارج!!.
في مقالته (يجب أن يكون لدى المسلمين إيمان بأميركا)، والتي نشرها طارق رمضان في جريدة (الواشنطن بوست) وترجمت عبر جريدة (الشرق الأوسط)، بتاريخ 13 سبتمبر 2010، يبين رمضان أهمية أن يحترم المسلمون مشاعر الخوف لدى المواطنين العاديين في أميركا، عير تفهمهم للأسباب التي أدت إلى هذا الخوف، مع استمرار مقاومتهم للأحزاب وجماعات الضغط التي تستخدم وتستغل هذه المخاوف.. كما يؤكد أهمية أن يتعلم المسلمون الأميركيون quot;.. المزيد من التجارب التاريخية التي مر بها الأميركيون ذوو الأصول الأفريقية، سواء المسلم منهم أم غير المسلم. فبعد أن كانوا من قبل مستبعدين وفي معاناة داخل الولايات المتحدة، نجد أن لهم حالياً دور في الأنشطة والنقاشات الأميركية المرتبطة بالتعليم أو السياسة أو الثقافة أو الفنون أو العدالة أو الرياضة..quot;
يختم رمضان بالقول quot;.. لقد بدأ نضال المسلمين من أجل الاحترام والعدالة والتفاهم داخل الولايات المتحدة، ولن ينتصر المسلمون في ذلك بالاعتماد على أنفسهم وحسب. ومن حسن الحظ أن الولايات المتحدة بها الكثير من التحالفات الرسمية وغير الرسمية التي لديها نوايا طيبة وتعزز من التعددية ومستعدة إلى دعمها... يجب علينا أن نثق بالقوى الايجابية داخل المجتمع الأميركيquot;.
- آخر تحديث :
التعليقات