فوضى مطلوبة
عندما كانت بريطانيا المستعمِرة تهم بمغادرة الهند. التفت أخر حكامها هناك اللورد (لويس مونتباتن) إلى الزعيم الهندي (غاندي) وقال: quot;إذا رحلنا ستعمّ الفوضى.quot; فأجاب غاندي: quot;إن كان هناك فوضى فهي ستكون فوضى خاصة بنا.quot;
سلاح الفوضى طالما كان السلاح الذي أخاف به الغرب بقية العالم. في العصر الحديث يفترض من جميع القوى أن تقبل بالرؤية الغربية لتشكيل العالم، ومن لا يقبل بها يكون مصيره النفي والفوضى..! الفوضى هي سلاح غربي مضاعف التأثير، فمن جهة هي تضعف إمكانية وجود أي قوة غير مرغوب بها. ومن جهة أخرى نجد القوة الغربية ممثلة في أميركا لا تستطيع أن تسيطر على عدة أماكن في وقت واحد؛ لذا قد تجعل بعضها في خانة الانتظار (الفوضوي) حتى تنظر في أمرها.
مثال ذلك ما حدث في أفغانستان والصومال. فالوضع الأهلي الفوضوي في أفغانستان بعد طرد السوفييت ولد الحاجة إلى حكومة قوية للبلد. لكن مجيء طالبان كحكومة من خارج نطاق (الرؤية الغربية) جعلها تشكو العزلة، وعدم الاعتراف الدولي، إضافة إلى ضعفها السياسي ونقص الخبرة الدبلوماسية لديها. هذا ترسيم للفوضى وشدّ لأوتارها من الخارج العالمي، قاد إلى جلبة ومتوالية داخلية فوضوية، جعلت أفغانستان لا تعرف بمرور الوقت إلّا مزيداً من التأزم. وأصبحت هذه الدولة تعيش أزمة حادة وحالة (تنافر) مع الدول العربية والإسلامية، عوضاً عن الغرب. وكل هذا يحدث قبل قدوم العام 2001.
نفس الأمر مع الصومال، البلد الذي عاش من غير حكومة منذ العام 1990، نتيجة رغبة خارجية لعزله، قادته إلى مزيد من الفوضوية والشتات. وحالة (التنافر) في نموذج الصومال كانت في الداخل، في أزمات متتابعة من التكفير والتخوين والحروب المستمرة بين الجماعات. مما جعل حكومته الناشئة -والمنقسمة بدورها- لا تسيطر على غير (مقديشو).
النظام الغربي ممثلاً في أميركا يريد إدارة العالم ولو (افتراضياً)، فهو يعلم صعوبة تحقيق ذلك على أرض الواقع. لذا هو يقوم بالتركيز على أماكن وتهميش أخرى بحسب ما يريد. هذا السلوك من (التهميش والتحكم) أضر بأماكن متعددة من العالم، فنتج عنه ولادة تشكلات سياسية جديدة في العالم من خارج إطار الرؤية الغربية.
مشهد سياسي جديد
انشغل المشهد السياسي الأسبوع الماضي بأمر الاتفاق (الإيراني التركي البرازيلي) لتبادل الوقود النووي. وهي خطوة يرى البعض أنها تحايل واضح من إيران على أميركا والعقوبات التي أوشكت على التحقق. بينما يرى آخرون أن البرازيل وتركيا لم تقدمان على ذلك إلا بعد موافقة أميركية مبطنة. وعلى العموم سواء كان هذا الفعل السياسي قد أتى من داخل الرؤية الغربية أو من خارجها، فهو قد جلّى صورة واضحة لحضور دبلوماسي عالمي من قبل هاتين الدولتين. البرازيل وتركيا يقدمان هنا مثالاً واضحاً لطموحات التحرر السياسي في العالم، الذي قَدم عبر النمو الاقتصادي والأسواق الناشئة. يُذكر أنه قبل عشرين عاماً فقط كانت البرازيل وتركيا في عداد الدول النامية، بتضخم كبير، ودين متصاعد، وقطاع خاص ضعيف، وإدارة سياسية غير ناجحة.. ولكن كل هذا انقلب عبر فترة بسيطة..! لقد تناقلت وسائل الإعلام صورة رؤساء هذه البلدان وهم في ما يشبه احتفال سياسي عالمي بمعزل عن الدول السياسية الكبرى.
وكما أن أزمة قناة السويس عام 1956 أخبرت العالم أن بريطانيا لم تعد القوة العظمى في العالم؛ تتبدى اليوم أمثلة متعددة تخبر أن أميركا لم تعد حجر الزاوية التي يحتاجها أي تحرك مستقبلي. لقد قامت روسيا بتوفير الدعم الذي قام بإغلاق قواعد أميركية في قيرغيزيا وأوزبكستان، وهاجمت جورجيا. وأمرضت الصين الولايات المتحدة بالدين، والهند خاضت تحدي مباشر مع أميركا في محادثات الدوحة التجارية... ناهيك عن التحدي المستمر من قبل كوريا الشمالية وإيران ودول من أميركا اللاتينية. لقد سلبت إدارة جورج بوش الشرعية السياسية لأميركا في العالم، والأزمة الاقتصادية الأخيرة سلبت شرعيتها الاقتصادية أيضاً.
عالم ما بعد أميركا
هذه القوميات الناشئة على وجه الخارطة السياسية العالمية، مارست التجمّع والتقاوي في سبيل رأس المال والنمو الاقتصادي، قبل أن تظهر سياسياً. وهذا يقودنا إلى نقطة أن تحلحل القبضة الاقتصادية للغرب يقود إلى تخفيف قبضته السياسية..! التأزم الاقتصادي ساهم في تواضع الغرب، ومشاركته السياسية للعالم. لقد وضعت الدول الغربية شروطاً مجحفة تجاه الدول الآسيوية حين أصيبت هذه الأخيرة بأزمتها الاقتصادية في التسعينات، وهي شروط لم تضعها الدول الغربية تجاه نفسها في وقت أزمتها الاقتصادية الأخيرة..! بل سارعت للحصول على التعاون من البقية، وأعلنت مراراً أن زمن الأزمة يحتاج إلى تضافر عالمي. وأميركا قبل الأزمة أو بعدها، ليست بالقادرة على التخلي عن (خدمات) الهند، و(بضائع) الصين، و(موارد) الخليج... أن أميركا (أوباما) ليست هي أميركا (ريجان) التي أرادت أن تبسط يدها فوق كل شيء. ومنذ بداية فترته الرئاسية أعلن أوباما أن أميركا تنتقل من الرغبة في (السيطرة) إلى الرغبة في (المشاركة). لابد أن نعرف، أيضاً، أن هذا التغير السياسي لا يعني أن أميركا ضعفت، بل يعني أن الآخرين يقوون أيضاً، كما يقول المفكر الفرنسي جان بورديار في كتابه (أميركا).
في كتابه (عالم ما بعد أميركا) يراهن المحلل الاستراتيجي (فريد زكريا) في استقراءاته الموسعة على أن العالم اليوم يشهد هدوءاً نسبياً مقارنة بالسابق، على الرغم بعض السخونة التي تبدو. ويرجع زكريا هذا الهدوء النسبي إلى أساس بنيوي وهو quot;تفوق الاقتصاد على السياسية في كل مكان في هذه الأرض.quot; فنحن اليوم نعيش في اقتصاد عالمي توسعي. الأسواق الصاعدة اليوم تحوي 75 بالمائة من احتياطيات النقد الدولي، وهذه الأسواق الناشئة مسؤولة عن أكثر من نصف النمو العالمي. كما تتوقع مؤسسة غولدمان ساكس أن خمس دول تمثل هذه الأسواق الصاعدة -الصين، الهند، روسيا، البرازيل، المكسيك- ستمتلك ناتجاً اقتصادياً بحلول 2040 أكبر من ناتج دول مجموعة (السبع الكبرى). وأيضاً، خلال العقدين الأخيرين، دخل نحو ملياري إنسان عالم الأسواق والتجارة، بعد أن كان حكراً على نادٍ صغير مكون من عدد من الدول الغربية...
إذا كانت أميركا كما يقول زكريا تنسحب من الصورة، فإن ذهابها يخلق فراغاً وظلا مخيفاً يمثّل فزاعة لكثير من الدول. هناك دول ذكية استثمرت هذا الوضع وعرفت أن التشارك الاقتصادي يجلب معه ذلك السياسي. أصبح هناك صعود للقوميات الكبيرة في العالم، مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل. وهناك أيضاً صعود تابع لقوميات أصغر منها. والإشكال يتمثل في أن هناك دول لا يمكنها تحقيق نهوض ذاتي، وتترك لوحدها تصارع (الفوضى الدائمة). بقاء هذه الدول في حال فوضى قد لا يضر بالعالم الغربي، ولكنه مؤثر على كامل المنطقة التي تجاورها، كما في حالة الصومال وأفغانستان.
حالة الصـومال
على موقعهما في الانترنت، أجرى الصحفيان ميشل كولن Michel Colon وغريغور لاليو Gregoire Lalieu مقابلة في شهر فبراير الماضي مع الأثيوبي (محمد حسن) الخبير والمحلل الجيوسياسي للحديث عن الأزمة الصومالية. يتحدث حسن كيف أن الصومال ظاهرة أفريقية متميزة..! لقد توافرت للصومال كل الأسباب للنجاح، ولأن تكون قوة كبرى في المنطقة. موقع جغرافي مميز، بترول وخامات معدنية، ثروات بحرية، ولغة واحدة، ودين واحد على امتداد البلاد، مع تنوع ثقافي. لكن ما حدث على أرض الواقع كان العكس..! حروب، ومجاعات، وقطع طرق، وفوضى، وقرصنة وسلب في أرجاء واسعة من البلاد. تكشف تجربة هذا اللقاء الصحفي أن كل هذا قد تم لأن القوى المستعمرة قررت تطبيق (نظرية الفوضى) على الصومال. لقد تم العمل على (بلقنة) الصومال، وحرمانه من وجود حكومة واستقرار لما يزيد عن العشرين عاماً. يخبر حسن أن الصومال تحوز أطول ساحل في أفريقيا عبر امتداد يزيد عن 3300 كلم، وما يزيد عن 70% من منتجات البترول العالمي تمر عبر هذه المنطقة. وبعد أن خسرت أميركا وجودها في الصومال بعد مواجهات بداية التسعينات، لم تكن مستعدة لأن تتواجد هنا دولة قوية تشرف على مساحة واسعة في المحيط الهندي..! لقد دعا نلسون مانديلا حين كان حاكماً لجنوب أفريقيا إلى ما سمّاه بـ(ثورة) في المحيط الهندي، من أجل علاقات اقتصادية أفروآسيوية جديدة. وهذا ما أرعب الغرب. لم تكن أميركا مستعدة لأن ترى المحيط الهندي ملعباً نشطاً تحرثه نمور آسيا، ولاعبو أفريقيا من دونها. مثلما حدث في أزمة الغرب والسودان نتيجة لشراكة الأخيرة النفطية مع الصين. أميركا التي تعتبر أثيوبيا حصنها المتين في أفريقيا، والتي لديها قواعد في كينيا واريتريا، لم تكن لتسمح لقوة ناشئة، وصاحبة ديموقراطية بسيطة بأن تبني نفسها بمعزل عن الرؤية الغربية. لذا دفعت الصومال إلى خيار الفوضى. وما حدث من تدمير للحكومة الناشئة في العام 2006 خير مثال على ذلك.
الحاجة إلى الحـضور
هذا السلوك الحديث من (المد والجزر) السياسي الغربي له تأثيره المهم في العالم اليوم. أميركا على ما يبدو استفادت من دروسها الاقتصادية، وأصبحت تنسحب وتخفف ظلها. وبحسب زكريا، فهي أصبحت تستشعر من نفسها التباعد، وعدم الرغبة في التدخل والضغط المباشر. ومثال ذلك ما يحدث الآن في العراق، فهناك معارك سياسية دائرة من أجل تشكيل حكومة بلد من أهم بلدان المنطقة. أميركا انزوت وكأنها غير موجودة، بينما هناك تدخلات وإملاءات وضغوط إيرانية مباشرة في هذا الحدث..! تعتقد أميركا أوباما أنها تريد المراقبة وترك الأوضاع تُسفر عن نفسها، لأنها تعتقد أنها تستطيع التعامل مع أي وضع جديد. هذه نقطة مهمة لنا في المنطقة، فنحن أقرب من سيتأثر بتعقد الأوضاع في اليمن أو الصومال.. إضافة إلى الحاجة الفعلية لبناء منطقة أقليمية ناجحة، وعملية. وهو الهدف الذي قد لا نتشارك فيه مع القوى الغربية. لابد أن يحذر العرب من عدم فاعلية الحضور سياسي، في وقت تتشكل فيه خارطة سياسية جديدة للعالم. تتحدث النخب الغربية اليوم عن أن التدخل الغربي في المنطقة إنما هو عائد إلى ضعف الدول في هذه المنطقة..!
يلوم بعض المراقبين مصر نتيجة اتفاقية (دول حوض النيل) الأخيرة، والتي قامت بتهميش مصر. ومرد لومهم هو أن مصر نفسها تكون المسؤولة عن هذا الضعف الخارجي لها. لقد أهملت مصر أفريقيا، وتخلت عن دورها الريادي، بينما كانت القارة تشهد حضوراً قويا من دول من قارات آسيا وأوروبا وأميركا. فمصر قد انتقلت -كما يقول (فهمي هويدي)- من دور (لاعب) إلى (متفرج) في ساحة حوض النيل. وفي السعودية، يؤكد الكاتب (سعود كابلي) عبر أكثر من مقال في جريدة (الوطن) السعودية، على ضرورة استثمار السعودية لقوتها الناعمة، ورصيدها الدبلوماسي، الذي توفر لها عبر استخدامها لدبلوماسيتها الهادئة التي حلّت الخلافات في أحيان كثيرة، وعبر توفيرها للدعم الخارجي المستمر. هناك احتياج مؤكد لاستخدام هذا النوع من القوة في هذا التشكل السياسي العالمي الجديد، وفي quot;أن تكون المملكة واعتمادا على قوتها صانعة للإجماع لا مجرد محركة له...quot; كما يقول كابلي.
[email protected]
التعليقات