وصلتني رسالة الكترونية بعنوان (لماذا نكره هتلر؟). يرى من كتبها أن quot;صورة هتلرquot; مشوهة في العالم لأنه عادى اليهود.. بينما هو في الحقيقة قد امتدح العرب، وأثنى على الإسلام، وأكرم الجنود المسلمين. وتعرض الرسالة أيضاً صوراً للجنود المسلمين في جيش هتلر، إضافة إلى صورة للحج أمين الحسيني (مفتي القدس) وهو مجتمع بـهتلر.
وبعد استخدام لمحرك البحث عبر الانترنت، تجد أن موضوع (لماذا نكره هتـلر؟) هو موضوع منتشر في المواقع العربية في كل مكان. هذا الانتشار الكبير للموضوع يجعلنا نقف وقفة تساؤل.. عن مدى انتشار هكذا أمزجة فاسدة في مجتمعاتنا؟!!. أليس المزاج الذي يحتفي بهتـلر، صاحب الحروب والعقيدة العنصرية، هو نفس المزاج الذي يهلل لتفجير quot;كنيسةquot; في اندونيسيا، أو quot;معبد قاديـانيquot; في باكستان!!..
قد يعتقد بعض المسلمين أن هتلر قد مال إليهم لأنه عدو لليهود، أو لأنه استخدم عبارات من quot;القرآن الكريمquot; في خطاباته البليغة.. ولكن هتلر في هذا السلوك لم يكن بدعاً بين القادة، وسمّ منهم من شئت!. هتلر نفسه قد قال في كتابه (كفاحي): quot;يجب أن نعمل لا في المجالات السرية وإنما في طريق القوة الساحقة للجماهير. وليس بواسطة الخنجر أو المسدس تستطيع الحركة أن تنتصر، ولكن يتحقق هذا عبر غزو الشارعquot;. ولم يكن هتلر -بالطبع- قاصداً لخدمة الإنسان أو إلى الشارع.. وإنما أراد استخدامهما من أجل عقيدته العنصرية. ولو كانت الأمور قد استتبت له في روسيا، لكان أول ما فعله هتلر هو التوجه إلى العرب ومنطقتهم الإستراتيجية.
متفهم ومبرر جدا موقف بعض العرب مع ألمانيا ضد الحلفاء في فترة الحرب. لكن ما لا يفهم اليوم هو أن تجد من يتعاطف مع جثة فكرة، وأطلال رجــل.. بعد كل هذا الخسران والنكارة التي تبينت عن ألمانيا النازية وأفعالها. أقرب ملاحظة هنا تقول أن التشفي من اليهود وبغضهم هو ما يدفع إلى ذلك.. وهنا يجب أن نتنبه إلى نقطة مهمة وهي أن جزء كبير من معركتنا اليوم يتمثل في أن لا ننسحب إلى مناطق لا عقلانية، وأن لا نخلق ردود أفعال غير مبررة.. ومن ذلك أن لا نراهن على حصان أعرج، من خيال الرجال وجثث الأفكار.. إن حكاية هتلر والمسلمين هي إحدى الحكايات السخيفة والمفتعلة، وهي إحدى الروافد الأسطورية لكيان اسرائيل. ولا بد من تجريد العدو الصهيوني من حكاياته التي وظفها للابتزاز وللكسب السياسي والمادي.
هتلر والمفتـي
ذات مرة شاهدت برنامجاً عبر إحدى القنوات الأميركية الرخيصة؛ كان المتحدثون فيه ثلاثة غربيين وشخص عربي، وقد قدموا فيه هجوما طويلاً على الإسلام وعلى السعودية. وطوال فترة البرنامج كانت تعرض وتتكرر في الخلفية صور للجنود المسلمين في الجيش النازي، وصورة الحاج الحسيني مع هتلر، وكل ذلك كان من أجل الفرضية البائسة التي قام عليها البرنامج، والتي تقول أن: المسلمين لهم علاقة وثيقة بالنازية، وأنهم مثلهم يريدون إفناء اليهود، ومن ثم غير المسلمين!!.
يخبر الباحثون أن صورة هتلر مع مفتي القدس هي صورة عادية ولا يوجد أي أدلة واضحة تترافق معها.. ولكن آلة الدعاية والبروباغندا الإسرائيلية لا زالت تعمل على كسب الكثير من ورائها. ومن ذلك أن وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان قام باستخدام هذه الصورة وتوزيعها في الغرب ليبرر بها الاستيطان الاسرائيلي المستمر. وصدر في أميركا قبل فترة غير بعيدة كتاب (مفتي هتلر) في إشارة إلى الحسيني، وهو كتاب يصب في نفس المسار، ربط النازية بالإسلام. لقد عملت الحركة الصهيونية على توريط العرب في مسألة الإبادة النازية. واستخدمت صورة المفتي بصورة دعائية شعارية، بلا أدلة توضح ارتكابه إساءة تجاه اليهود، ودليل ذلك أن الحركة الصهيونية لم تنجح حين حاولت تقديم الحسيني بهذه التهمة إلى محكمة (نورمبرغ) الدولية في العالم 1945.
الحاج الحسيني كان أحد القيادات الوطنية الفلسطينية التي عملت منذ الثلاثينات على التفاهم مع القوى الكبرى في العالم من أجل إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وهذا سبب وجيه لاجتماعه مع هتلر في العام 1941. فألمانيا قبل الحرب كانت إحدى تلك القوى التي عملت على تهجير اليهود إلى هناك. نعم، كانت هناك علاقة وثيقة بين النازية والحركة الصهيونية، وقد كان بينهم ما سمّـي بالـ(هافارا)، وهو اتفاق اقتصادي بين ألمانيا النازية والمنظمات الصهيونية يتضمن تنفيذ تهجير يهود ألمانيا إلى فلسطين، وقد تم توقيع هذا الاتفاق في العام 1933 بعد وصول هتلر إلى السلطة، كما جاء في دراسة (العلاقة الصهيونية النازية 1933-1941) للباحثة حياة عطية الحويك من جامعة السوربون.
والحاج الحسيني الذي نفاه البريطانيون من فلسطين في العام 1937 لديه موقف مبرر -مثل غيره- للدعم والميل إلى قوات المحور، ألمانيا وايطاليا، ففي تلك الفترة كانت بريطانيا وفرنسا تحتلان معظم اجزاء العالم العربي. ولكن هذا الميل بعيد جدا عن أي اشتراك وتدخل للعرب مع الجريمة النازية. بل تذكر المصادر أن عدد الجنود من أًصول عربية في قوات المحور كان فقط 6300 جندي.. فأين هو هذا الرقم لمن يلعبون بالصور مقارنة بـ9000 جندي عربي قاتلوا في صفوف بريطانيا، و250 ألف جندي مغربي قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي!!..
الكيان الإسرائيلي كيان تتقهقر صورته دوما بسبب إجرامه.. لذا يحاول التعويض والتغطية على نفسه عبر النفخ والمبالغة في استعادة ذاكرة المحرقة والحكايات المرتبطة بها. موضوعنا هنا يتعلق بأحد فروع هذه الحكاية، وهو جزء حسّاس لأنه يتقاطع مع العرب. في الوجدان العربي قد يبدو هذا الربط عبثياً ولا قيمة له ولمناقشته، ولكن الأمر ليس كذلك في العالم الغربي، خصوصا أن الهجمات الدعائية الغربية ضد العرب والمسلمين بعد تفجيرات سبتمبر قد أعادت استخدام وإبراز هذا الأمر. يذكر جيلبرت أشقر صاحب كتاب (العرب والمحرقة، 2009) أن الحكاية هي استخدام صورة المفتي من أجل إشراك الفلسطينيين في المسؤولية عن الإبادة النازية، وتسويق فكرة أن اليهود كانوا يجابهون خطر الإبادة في فلسطين في الأربعينات، ومن ثم تبرير تحويل وطنهم إلى وطن لليهود، ويصبح الاحتلال بذلك كأنه دفاع شرعي عن النفس!!..
يوضح جيلبرت أشقر أن ربط المفتي بالنازية كان أحد الثوابت الدعائية للكيان الاسرائيلي بعد تواجده في فلسطين. ونتج عن ذلك الكثير من الكتب والمقالات والنشرات التي تجسد هذا العداء في شخص الحسيني، وتجعله هدفاً للثأر العام، حتى بدا الأمر وكأن الحسيني هو أحد جلادي النازية الرئيسيين!!. ففي متحف المحرقة (ياد فاشيم) يوجد جدار مخصص لمفتي القدس الحسيني يوحي تصميمه بالترابط بين العرب وبين مشروع الإبادة النازية. كما أن الجزء المكتوب عن المفتي في (موسوعة المحرقة) هو جزء أطول بكثير من الأجزاء التي كتبت عن غوبلز وهيملر وهايدريخ وايخمان.. وتتجاوزه قليلاً المساحة المخصصة لهتلر!!.
عبادة الشـخصية
لم تكن النازية غنية بأدبيات وفلسفات تغذي الإنسان وتستحق التمدد والانتشار. النازيون لم يكن لديهم فلسفة عميقة كالـ(شيوعية) مثلاً.. ولكن كان لديهم quot;عبادة الشخصيةquot;. وعن طريق الإتباع الأعمى لشخص القائد والثقة به، كان الألماني يقع تحت الهيمنة، ويرغب في الهيمنة على غيره.. عبادة الشخصية هي أحد أهم ملامح quot;الجموع المتأزمةquot;، فهي أداة سحب للفرد، وأحد أدوات استخدامه. فاستثنائية quot;الشخصquot; توحي باستثنائية الحلول وسرعة الفرج. وتجسيم الأمل في ذات شخص أو ذات نخبة هو -اجتماعياً- أمر ظاهره النجاح، وباطنه المرض..
عبادة الشخصية هي صناعة رائجة في المنطقة العربية. المساحة العربية لازالت مساحة خصبة لممارسات تدوس على الفرد، وتستخدمه ولا تخدمه. ووعـي، في بعض أجزاءه، كان لديه استعداد للاحتفاء بهتلر وصدام، لأنهم استخدموا القرآن، وتلاعبوا بالألفاظ ببلاغة، هو وعي يستحق المتابعة والتشريح المستديم.. فما زال لدينا كثير من اللاعبين الذين يستخدمون بلاغة الألفاظ وغيرها من أدوات المسرح. قال لي أحدهم مرة أن تلك الدول التي تعلق صور زعماء أو شعارات بكثرة في الشوارع، هي دول ينبغي الخوف منها، فلا كرامة للفرد العادي فيها. وهذا انتباه مهم، فبقدر ما ينسحب النظام أو الناس إلى بعد تقديس شخصية ما، أو ذهاب تقطعه في تعظيم نخبة (أي نخبة)، بقدر ما تذهب الأمور في اتجاه معاكس لتقدير الإنسان-الفرد، والاهتمام بالجهود التي تخدمه. التماهي مع الجموع يستلب ذاتية الإنسان وفرادته.. وليست بجماعة حقّة، تلك التي تجعل quot;قيمةquot; الفرد تكمن في كونه مجرد جزء من كيان، لا فرداً مستقلاً بذاته..
العالم العربي أو المسلم أكثر من نصفه شباب. هذه الأعداد الهائلة منهم لابد من تطعيمها وإمدادها اليوم بالمفاهيم المناسبة لها.. مفاهيم الوعي، والمناعة الفكرية، والبحث الدائب والناضج عن الحرية والحقوق. فبدونها لا يوجد لأحد حماية من شعارات تدوسه، أو ظل جماعة تسرق أرضه وسماه. إن خبرة المواطنين الإنجليز quot;السياسيةquot; هي التي جعلتهم بمنأى عن الشعارات والثورات، وعن عبادة الشخصية، وهذا ما جعلهم يتفوقون على الجميع مع إطلالة العصر الحديث. وعي السياسة هو وعي غائب عند العرب، ووعي لا يمتلكونه.. والمطلوب quot;اختراق معرفي للسياسة قبل إعادة امتلاكهاquot;.
التعليقات