مؤخراً، دار جدل في السعودية حول مفهوم quot;التنويرquot;. ازدحمت التعليقات والردود الرافضة لهذا المفهوم، بين منكر له، وساخط عليه، ومتبرئ منه... وقبل جدل مفهوم التنوير، كان هناك جدل سابق حول مفاهيم أخرى، ومصحوباً برفض واسع لها، مثل مفهوم quot;المجتمع المدنيquot;. الذي هوجم هو أيضاً عبر المقال، والمشاركة الإعلامية، والأطروحة الأكاديمية... التي قُدّم المفهوم quot;المدنيquot; عبرها على أنه مضاد quot;للدينيquot;، على الرغم من ارتباطهما الوثيق منذ بدايات الإسلام الأولى.
الجدل حول المفاهيم وحول تعرّفها ومحتوياتها أمر طبيعي. ما يستفز المتابع هو الإصرار المستمر في أطروحات الإسلاميين على تسميم المفهوم ومصادرته.. عبر رفض مطلق له، يأتي من خلال وصمه بمحددات وملامح بالغة في السوء والسلبية. فعلى ما يبدو، بعض الإسلاميين لديه عصا مثل عصا الملك (ميداس). لكن الفرق أن عصا ميداس -حسب الأسطورة- كانت تحول كل شيء تلمسه إلى ذهب، بينما عصا الإسلامي تجعل من كل مفهوم تحاول مقاربته مفهوماً من معدن رخيص وبلا أي قيمة.
حفلة التشويه هذه تستمر تجاه مفاهيم فكرية مركزية ومتعدّدة. فمفاهيم مثل: الحرية، التحديث، التنوير، العقلانية، المدنية، وغيرها... لم تعد صورتها تتولد شعبياً إلا عبر كونها نماذج كريهة، ومستفزة. والأمر يحتاج فقط إلى بعضٍ من مزاج رديء، وبعض من قدرة لغوية وثقافية كي يقوم أحدهم بقلب أي مفهوم وتحويله من مفهوم حيوي لا غنى عنه للتنظير الاجتماعي، والتداول الفكري إلى مفهوم استفزازي لا يتم ذكره إلّا بهدف السب والتنقّص.

لا لوضع محدِّد quot;دينيquot; لهذه المفاهيم.. لا يمكن تطبيق quot;ثباتquot; المفاهيم الدينية على المفاهيم الأخرى. فالدين quot;ثابتquot;، وهذه المفاهيم quot;متغيرةquot;. فمفردة مثل quot;تجديدquot; لا تحمل اليوم نفس فحواها حين استخدمت في أزمان سابقة.
اليوم مفهوم التنوير يتعرض للتنقص والاستهتار والتسخيف..! أعظم حجة يملكها أعداءه تجاهه تكمن في اعتباره مفهوماً quot;غربياًquot;. والحقيقة أن كل مفهوم حيوي اليوم يمكن توديعه وتبكيته انطلاقاً من هذه النظرة..! التنوير والتجديد والتحديث والعقلانية وحقوق الإنسان وغيرها هي مفاهيم استخدمت في الغرب على نطاق واسع. فهل يسوّغ هذا تركها!؟ وهل لنا أن نتخلى عنها كمفاهيم إنسانية، تستطيع أن تحوزها كل بيئة وثقافة، باعتبار أن هناك من يظن أنها مستخدمة quot;حصرياًquot; للغرب..!! من يتمنعون ضد هذه المفاهيم بهذه الطريقة؛ يوجدون حضوراً quot;للغربيquot; في ذواتهم أكثر من وجودهم هم أنفسهم..! من يتمنّع ضد مفهوم التنوير أو غيره لا يقوم فقط بنسف هذا المفهوم بل بنسف قدرتنا نحن على التوليد والإنتاج، وعلى استلهام التراث والامتداد معه.. فهذه مفردات مركزية لا تخلو من إيحاءات إيجابية يُفترض الإفادة منها لمن يقدر ويريد، لا أن تتم مقاربتها فقط على وجه سلبي.
لفظة quot;النورquot; ومشتقاتها، على سبيل المثال، لطالما استخدمت في تراثنا بطريقة غير quot;مأزومةquot;. فأشهر الرسائل الإسلامية التي أطلقت في النصف الأول للقرن العشرين كان اسمها quot;رسائل النورquot;. والإمام محمد رشيد رضا قام بتسمية تفسيره للقرآن الكريم، ومجلته الإسلامية بـ quot;المنارquot;، وهو الموضع الذي ينطلق منه النور. والطاهر بن عاشور اختار لتفسيره اسم quot;التحرير والتنويرquot;. هذا عدا عن البُعد المقدّس لدينا كمسلمين لمفردة النور ومشتقاتها، من حيث ورودها في الوحي في أكثر من موضع.. فهل يا ترى نتخلى عن المفاهيم وعن استخدامها لمجرد أن أحدهم مرتاب دوماً من الغرب، ومهجوس بهم، ومحدّق فيما لديهم أكثر مما هو عارف ومدرك لذاته واحتياجاته الثقافية..!.
الحديث هنا يتركز حول الإسلاميين باعتبار أنهم هم من تملّك الثقافة المهيمنة في مجتمعاتنا في العقود الأخيرة. كانت هذه الثقافة هي صاحبة الحقوق في إعطاء المعاني السائدة، وفي مفهمة المفاهيم، وتلوينها باللون الذي تريد.. التغلغل الشعبي لهذه الثقافة اجتماعياً، والقبول والاعتماد لما يقوله رجل الدين، جعل التعبير والمفهمة والتحديد الذي يقدمه سائداً وحاكماً..! هذا quot;النسفquot; تجاه المفاهيم قد مارسته ثقافة الإسلاميين سابقاً تجاه مفاهيم مثل quot;القوميةquot;، وquot;الوطنيةquot;.. ولا يزال روّادها وشبابها الجدد يمارسونه تجاه كل مفهوم يحاول استزراع نفسه في التربة الثقافية لدينا..

بين الإنسان وبين اللغة، تكمن أعظم quot;جدليةquot; قد مرت على الإنسان.. فالإنسان -كما قيل- يظن أنه يستخدم اللغة بينما هي من يستخدمه..! والمفاهيم هي من الركائز المحورية في اللغة. كل مفهوم حيوي يمثل انطلاقة، ومسار متكامل تتأسس عليه اللغة والفكر. وأي خفوت وضعف في تناول المفاهيم ينسحب على اللغة وعلى الفكر أيضاً. والصورة المصاحبة للمفهوم، هي اللون الذي تصدر عنه اللغة المحيطة به، وهي الحاكم على الفكر الذي يدور في مداره..
ومن عملوا على تفكيك المفاهيم من المفكرين المتأخرين، قد اكتشفوا كنوزاً وافرة بالنسبة للفهم. والتفكيك -برغم ما فيه من إماتة للحيوية- إلا أنه يقدم تعددية في الفهم وتنويع وإثراء له، ويمثل طريقة معينة في الفهم لديها قابلية مستمرة للتجدد. الإشكال الحقيقي يكمن في تعطيل المفاهيم وتشويهها. في حالة المفاهيم الحيوية، لابد لنا من التنبّه للمفهوم، وتشمّم روحه وفطريته. معها، ليس لنا أن نسلّم وننقاد لشرح شارح يخمد المفهوم، ويسحب منه أي فاعلية. أو لتأصيل مؤصل يقوم بتجميد المفهوم ويحبسه في دهليز صغير من الألفاظ التي تتحكم بنا وبفهمنا للمفهوم.
نحن في الأساس نشكو من ضعف في اللغة quot;المفهوميةquot;، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك تشويه متعمد وتنفير مقصود منها.!. على سبيل المثال، يُذكر أن كتاب (لسان العرب)، الذي لا يزال أضخم وأشهر قاموس عربي متداول، والذي يحتوي على أكثر من ثمانين ألف مادة لغوية، يخلو من المفاهيم quot;النظريةquot; و quot;الفكريةquot; التي قد استخدمت في زمانه ndash;أي القرن السابع والثامن الهجري-..! لدينا إذن -مع المفاهيم- فقر في توليدها، وجمود في معرفتها.. ولأن الإنسان عدو لما يجهل، ولأن السواد الأعظم ليس لديه استعداد لبذل الجهد المعرفي والإدراكي لتقصي هذه المفاهيم واستيعابها، كان الطريق سهلاً لمن أراد أن يرتكب النفي والإبادة تجاه هذه المفاهيم.
والتشويه وإفساد الشيء في العموم لا يحتاج إلى quot;بطلquot;. التخريب والإفساد قد يقوم به أي أحد.. كل ما يحتاجه الأمر هو أفق لا quot;يريد أن يتسعquot;، وبعض من quot;نشاط زائدquot; كما لدى الأولاد الأشقياء. لذا أن يقوم أحدهم بانتقاص مفهوم، واقتناص ما يريد من دلالات quot;متحيزةquot; ضده هو أمر عادي ومستهلك وبسيط. ما يحتاج إلى جهد، وإلى تنبّه، هو تمرير هذه المفاهيم، وخلق فرص لاحتوائها وجعلها قابلة للتداول والإفادة.

أزمة المفاهيم اليوم لا تكمن فقط في تعطيل هذه المفاهيم وتجمديها من قبل من يتمصلحون بمعاداتها. بل أيضاً في برودة النشاط الفكري والثقافي تجاهها. عبر أحد أعدادها الأخيرة، تنقل جريدة (لوموند ديبلوماتيك) عن المفكر نعوم تشومسكي ملاحظته عن نزوع الكثير من مثقفي اليسار إلى سلوك التدمير الذاتي. من حيث تأثر كثير منهم بأفكار quot;ما بعد الحداثةquot;.. فهذا التأُثر والمسار الجديد لهم يدفعهم إلى تمثّل فكرة أنه quot;لا وجود فعلي للوقائعquot;.. ومن ثم لا يوجد احتياج quot;جدّيquot; للمجابهة. فأصبحت هناك quot;قلة حماسةquot; من قبل المثقفين تجاه مفاهيم مثل quot;الموضوعيةquot; و quot;الحقيقةquot;..!
نستشف من تعليق تشومسكي وجود خفوت في عالم المثقفين في أمر الفعل والمشاركة الثقافية. وأي تناول ساخن ونشط من قبل المثقف لقضية ما، قد يُرتاب منه، وقد يوصم بأنه دوغما أو ديماغوجية..! مع أن الغرب نفسه لم يصل إلى ما وصل إليه اليوم إلا عبر مشاركات ثقافية متوقدة.. تمت في أزمان سابقة؛ ألهبتها طموحات فولتير و روسو، ونضاليات سارتر وراسـل..! الحس الفكري النضالي والطموح يتمركز عادة حول مفاهيم محورية. والتقليل من هذا الحس يساهم في تكريس ماهو سائد.. وهو انتصار جديد لثقافة السلطة والامتيازات، وترسيخ لها. وبذلك تخلو الساحة للثقافة التقليدية كي تحتكر المفاهيم، وتعيد إنتاجها وفق ما تريد..

* * *

أعرف أني هنا قد وقفت عند سطوح المفردات، وظواهر هذه المفاهيم، وذلك عائد إلى أن كثيرا ممن مارس تجريم المفاهيم والتثريب عليها قد توقف عند شكلها وأراد رفضها كـquot;اسمquot; قبل رفضها كـquot;فحوىquot;. بمعنى محاولة جعلها quot;ماركةquot; رديئة مسمّمة لا يفترض الاقتراب منها.
في عمق هذه المفاهيم يوجد جدل ونقاش واسع حول دلالاتها.. فالمفهوم الواحد قد ينطوي على مسار مزدوج، وعلى تناقضات وتباينات في داخله تحرج بعضها البعض.. وهذا في الحقيقة لا يمثل مشكلة.. المشكلة تكمن في الرغبة في نسف المفاهيم وتجريمها ابتداءا.. وفي محاولة جعلها غير مؤهلة للاستعمال والتداول...
الهجمة على المفاهيم ليست قاصدة إلى المفاهيم ذاتها، بل قاصدة إلى quot;تعطّلquot; الفكر. وهي قتل للفكر نفسه. فهناك من يفيد من تعطل الفكر عن حيويته، وعن توليده لأنساق جديدة في عالمنا الفكري والاجتماعي..

[email protected]