في بدايات العام 2006، كانت موجة الابتعاث الجديدة للطلبة السعوديين في بداياتها. في تلك الأيام، حضرت خطبة جمعة في إحدى المساجد شرق مدينة الرياض، وكان الخطيب قد تحدث فيها عن موضوع ذهاب الطلاب إلى الخارج. أذكر أنه استشهد بحادثة يقول فيها أن الإمبراطور الياباني قام بإحراق علني لمجموعة من الطلاب اليابانيين الذين عادوا من الغرب، بعد أن قضوا أيامهم هناك في اللهو، وفشلوا في دراستهم ولم ينجزوا ما ابتعثوا لأجله..
وعلى ما في هذه القصة من رعب، إلا أن أسلوب الخطيب المخيف كان مرعباً أكثر منها، مع أن الأمر لم يكن محتاجاً إلى كل هذا التشنج. فخدمة الوطن أو الأمّة هي بالفعل هدف نبيل، لكن أيضاً هي خدمة طبيعية وفطرية، لا تحتاج إلى التهديد والقسر، والأمم التي طبقت القسر والترهيب على مواطنيها، لم تكن إلا دول شوفينية فاشلة.. فكما قيل quot;الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرا، ولا تعلن عن نفسهاquot;.

الهجمة على الابتعاث
منذ تلك الفترة، توالت موجات الابتعاث الدراسي إلى الخارج للطلبة السعوديين، وتوالت معها أيضاً موجات مصاقبة من الجدل والهجوم على فكرة الابتعاث. ودارت مؤخراً موجة جديدة من الجدل على الساحة السعودية حول الابتعاث؛ اشترك فيها هذه المرة بعض المثقفين والكتاب، منهم من ركز على ملامح لتجارب فاشلة، وآخرين تساءلوا وشككوا في التغيير الذي قد تحمله هذه الأعداد الكبيرة من المبتعثين.. والشهر الماضي، كتب وزير الإعلام السعودي عبدالعزيز خوجة مقالة في إيلاف، وجهها إلى الطلبة السعوديين حول العالم، أشار لهم فيها أن تجربة الابتعاث تجربة حياتية متكاملة، وأكد لهم أنهم شريحة غالية، وأنه يتفهم quot;تماماً مشاعر الألم التي شعر بها بعضكم بعد الانتقادات التي وُجّهت لبرنامج الابتعاث من طرف بعض الأقلام الصحافية وبعض المثقفين والمختصين..quot;
الهجمة على الابتعاث لم تكن تتخذ شكل هجوم تنظيري فقط، في أحيان أخرى اتخذت لنفسها شكل الإشاعة التي تروج حول الابتعاث ونتائجه. ونعرف من علم النفس الاجتماعي أن الوسط النفسي الشعبي الذي يتلقف الإشاعات ويروج لها هو وسط غير محايد. فمن يُخبر الشائعة لا يميل إلى أن يكون فرداً محايداً بل يريد أن يثبت صحة وأهمية ما نقل، وما مالت نفسه إلى تصديقه. وهذا الميل النفسي للوقوف ضد الظاهرة، والرغبة في إثبات فشلها هو أخطر ما قد ينتج عن الهجمة على الابتعاث، حين تتوسع دوائر النفور النفسي، ويحتقن المجتمع، ويتم تقسيمه مع كل تجربة، فيصبح المناخ الاجتماعي حينها هادماً للثقة، وطارداً للاحتواء والتنوع.
ومع تجربة الابتعاث حدث لدينا أمر يتكرر عادة. وهو أن هناك واقع تنظيري، وواقع فعلي.. وغالباً ما يُستلب الناس، ويذهبون بعيداً في أحاديثهم وانطباعاتهم تبعاً للواقع التنظيري، فيصنعون من خلاله الأخاديد والسدود والموانع.. وعبر ذلك تتم عملية تجاهل للواقع الفعلي وما ينجزه على أرض الواقع. تغرق التجربة، ويغرق الواقع الفعلي المُشَاهد حين تلتهمه عملية تنظير مفرطة لديها كثافة في التشاؤم وفي التوجس، وفي رسم النتائج والتفريع عليها إلى ما لانهاية. والتغلب العملي على النتاج التنظيري، وتغليب ما هو مشاهد على ما هو مطبوع، هو السبيل الأمثل لإنجاح مثل هذه التجارب في المجتمع.
لذا، وعبر كونها محسوسة ومشاهدة، استطاعت تجربة الابتعاث حفر نسق مرئي لها في المجتمع، ومفردة quot;ابتعاثquot; أصبحت مفردة مألوفة في التداول الشعبي.. رغم التوجس والنقد التنظيري الكثيف لها. ومن كان يعارض الابتعاث بالأمس أصبح يستملحه، ويستلطفه، ويستشعر مزاياه عبر رؤية شيء من نتائجه. ومن حرمه بالأمس لأنه quot;دراسة مختلطةquot; أصبح يبحث عن مقاعد لأبنائه فيه، بعد أن شاهد أمثلة واضحة أمامه لمن ذهب وعاد وقد نجح فيه بكل اقتدار ومسؤولية.

أكثر من ابتعاث
في منتصف العام 2008، قدمت النائبة الجمهورية الأميركية (سو ميرك) خطة إلى الكونغرس الأميركي تطلب فيها منع دخول الطلبة السعوديين إلى أميركا في حال لم تنفّذ بعض الإجراءات التي طلبت فرضها على السعودية. هذا الطلب من قبلها كان مجرد طلب عابث، لم ينظر فيه لأنه صدر من quot;شخصية متطرفة، تحاول أن تلبي رغبة المتطرفين في المجتمع الأميركيquot; كما جاء في تعليق مجلس العلاقات الأميركية (كير) على خطتها في حينه.
يقف التطرف (الداخلي أو الخارجي لا فرق) ضد تجربة طبيعية، مثل دراسة الطلاب، ويعتبرها غنيمة من غنائم الصراع!!. لأن التطرف عدو للأشياء الطبيعية، وعدو للتفاعل البشري المتنوع. الوسط البشري الطبيعي هو وسط منتج، تتنوع فيه التجارب.. لكن المتطرف يقف على الأطراف، وعلى الحدود القصية في عمق أيدلوجيته، ويريد منع أي عملية تعيد إنتاج الحياة وظروفها بعيداً عن منطقته التي يقف عليها.
النائبة المتطرفة يسؤوها كما يسوء أي متطرف أن تشاهد أعداداً كبيرة من السعوديين، طلاباً وطالبات، ومن قلب العالم الإسلامي، يعيشون حياة طبيعية في أميركا، مليئة بالنماء والانجاز، فيحققون الشهادات العلمية تباعاً، ويتفاعلون مع جميع أنواع البشر هناك.. كثيراً ما استفاد الكيان المتطرف في الغرب من نوع العزلة التي حدثت طويلاً للمسلمين والعرب مع الغرب. واليوم أكثر ما يؤلم الكيان المتطرف في الغرب، ويهدد وجوده، هو أن تتفتت هذه الصورة المتطرفة التي أراد رسمها عن الآخر، وأن يتم تجاهل كل تلك الأدبيات التي أراد تنميطها عنه.
لقد أتت موجة البعثات السعودية الجديدة إلى دول مختلفة من العالم في فترة مهمة وحساسة. فبعد تفجيرات 11 سبتمبر انتشرت وتسيدت في العالم الأدبيات الصراعية التي تقسّم العالم إلى فسطاطين، وبلا أي مبالغة تلك الأدبيات والأفكار التي راجت مع بداية هذا العقد كان من الممكن لها أن تحدث انشقاقا عالميا نهائياً وحاسماً.. لكن خطوات أخرى مقابلة ساهمت في التصدي لهذا الأمر، أحدها كانت خطوة الابتعاث، التي أتت بأمر من قائد إصلاحي شجاع، هو الملك عبدالله بن عبدالعزيز. أتت خطوة الابتعاث في مثل هذا الوقت لتمارس تهذيب وتخفيف حدّة هذا الصراع والتنافر، فمثلت خطوة للاندماج مع العالم، ونقل لعلاقتنا مع الغرب إلى منطقة طبيعية منتجة. لذا فبجانب نتاجه العلمي، كان للابتعاث نتاجه الاجتماعي والثقافي.
وأن يتفاعل العالم ليس سياسياً واقتصادياً فقط، بل واجتماعياً أيضاً فهذا مما يسوء متطرفي الداخل والخارج. لطالما كان السفر قتّالا للتعصب والانغلاق وضيق الأفق. وقد كان ولا زال خبرة حياتية لا تقل إفادة عن خبرة التعلم. جزء كبير من مشاكل العالم يقع خلف الانطباعات المغلوطة، والأفكار الغير مجربة، كما قال سارتر quot;من ضمن الأخطاء الكبرى التي تقع فيها الشعوب وأفرادها، أن تضع معلوماتها عن الشعوب الأخرى في قوالب من حديد، وتظل هذه المعلومات جامدة تعوق التفاهم والتعايشquot;.
أخبرني ذات مرة طالب الهندسة الصديق البرازيلي دانيال كيف أنه استاء جدا حين قدم إلى أميركا للدراسة، واكتشف أفكار الأميركيين عنهم، يقول quot;يرسمون عنّا صورة أننا كسالى ولا هم لنا إلا اللهو واللعب.. هل تصدق لقد كنت أعمل خياطاً منذ كان عمري 13 عاماً!!.quot; وهذا مثال بسيط لانطباعات غير محققة، قد نكون نحن العرب أكثر من يتأثر بها. وذات مرة قرر طلاب مادة (الإثنيات والأعراق) أن يتكاشفوا حول تلك الأفكار التي كانوا يتلقونها منذ الصغر عن غيرهم (الآخر). كنّا طلاباً من خلفيات متنوعة (أفريقية، وأفريقية أميركية، وعربية، ولاتينية، وغربية بيضاء..)، وتضمنت تلك المكاشفة بعض المفاجآت الصادمة، فلم يكن أحد يتوقع أن يسمع ما سمع من تفاصيل.. كلنا كبشر نظن أننا نعرف ما يقوله الآخر عنا، لكن في بعض الأحيان تفوتنا تفاصيل كثيرة لا يتم التصريح بها، (بالمناسبة لم يكن بيننا أحد آسيوي، لذا الجزء الأكبر من جُنحة التعليقات والردح كان من نصيب العرق الأصفر!.)

سؤال التغيير
الوقوف والتوجس من الابتعاث هو، بطريقة أو بأخرى، وقوف ضد التغيير. سؤال التغيير من أكثر الأسئلة جدلية في أذهان الناس. كثيرون لا يرون التغيير ويفضلون المحافظة على الأوضاع والمكتسبات السابقة، وغيرهم يرون أنه سنّة الحياة، والدرب الأفضل للمضي فيها. يتشكك البعض اليوم في أن الابتعاث سيجلب لنا طبقة ونوعية جديدة متحمسة إلى التغيير، مع أنه أمر طبيعي.. أن يكون للابتعاث نتاجه الاجتماعي والفكري والثقافي.. والدولة التي رعت هذا الابتعاث لم تكن لتقدم على مثل هذه الخطوة لو لم تكن مستعدة للتغيير..
الابتعاث بهذه الطريقة يكون مميزاً وجميلاً حين نتقبل أنه قد يكون عامل مساعد على نقلة تغييرية تتواكب مع ما استجد على أرض الواقع من ظروف وتحديات. فعادة، التغيير الذي يبقى ويتعمم هو ذلك الذي يرتبط بالواقع واحتياجاته الفعلية، فكم تحتاج حركة الحياة إلى تجديد لبوسها.
الذهنية التقليدية تريد إعادة إنتاج الواقع عبر نسخة ذهنية موجودة لديها سلفاً، ولذلك تعادي أي قراءة تغييرية. ومثال ذلك، تعاطيها مع التاريخ، فمع أن التاريخ ثري ومتنوع الصور، إلا أن هذه الذهنية تقبل له صورة واحدة وتعممها وتسقط ما عداها. وكما تفعل ذلك مع الماضي فهي أيضاً تريد فعل ذلك مع المستقبل. وبما أن التغيير يمثل تهديداً لهذه الذهنية وامتيازاتها، فهي تعمل دوما على تجريمه، ومن ذلك مثلاً، إلصاق تهمة quot;التغريبquot; به. ومع أن التغريب والأمركة علّة قد تقع، وهي مشكلة تتصارع معها كثير من الشعوب، إلّا أنه لا يمكن التساهل في تعميم هذا الوصف وإطلاقه على أي تغيير يجد. فتتبع منجزات الحضارة المعاصرة والاستفادة من نتاجها المادي والفكري، هو أمر لا يقصده أهل العقول، عادة، لأنه تغريب أو تقمص، وإنما لأن هذه المنجزات قد أثبتت بالفعل أنها عملية وناجحة..
في السابق كنت أتغنّى بما قاله (إقبال) quot;... التقطت الحبة وأفلتّ من شبكة الصيادquot;؛ قالها حين أراد أن يعبر عن نجاحه في اقتناص الشهادة العلمية من الغرب، وعدم تأثره بما لديهم، وهناك الكثير اليوم ممن يتغنون بتحصيل الشهادات فقط!. لكن فيما بعد اكتشفت أن المسألة أكبر من quot;نحنquot; وquot;همquot;، وأبعد من هذه الثنائيات الضدية. العديد من المفاهيم العملية والنشطة موجودة اليوم في عروق ومفاصل هذه الحضارة الحديثة، ومن يريد أن يصم آذانه، ويغلق عقله، عما يجول في جديد الحياة، فهو إنسان قد مارس تحجيم وحرمان نفسه بنفسه. قد يفقد الطالب عشرين عاماً من عمره قبل أن يكتشف أنه قد خسر الكثير حين لم يثر نفسه، وينفتح على التجارب في حياته كما يجب. من يركز على الأدبيات الضدية، ويبالغ في التحوط لأفكاره، غالباً ما تتركه الحياة حيث هو.. فيخسر بذلك الكثير الذي كان يمكن أن يضيفه لنفسه.

شيء من دراسة وسـفر
الحديث هنا هو عن الابتعاث بشكل عام، سواء إلى أميركا أو الصين أو إلى مناطق أخرى.. فهو تجربة ثرية قد تضيف الكثير، ومن الطبيعي أن يكون له نتاج اجتماعي وفكري وثقافي واسع.. وهو في ذلك مثل عامل التقنية، يساعد على إطلاق وتأجيج ما هو كامن. الدراسة في الخارج ونتاجها، لا تخدم فكراً أو طريقة معينة، فكما أنها أنتجت (طه حسين) الذي احتضن الحرية كما هي في الغرب، فهي أيضاً قد أنجبت (سيد قطب) الذي عاد من أميركا مُشدِّداً على أًصوليته.. وبين هذين الاثنين، يوجد صف طويل من نفوس مختلفة، متنوعة الأفكار والمشارب، وقادرة بالتأكيد على صقل وإفادة نفسها من مزية الدراسة والسفر، واقتناص فوائدهما إلى أبعد مدى..
لا أجد كلاماً أختم به أجمل مما قاله الأديب الراحل (ميخائيل نعيمة) في إحدى رسائله لأخيه (نسيب) الذي سافر إلى الخارج للدراسة، وقد ذكرها نعيمة في سيرته التي سمّاها (سبعون):
quot;... وبـعد فإنك لأول مرّة في حياتك تراكَ غريباً بين أغراب. غير أنه لا ينقضي من غربتك شهر حتى تبدأ تشعر وتدرك أن الناس في كل أقطار العالم هُم هم. فقد تتنوع اللغات والمذاهب، وتتعدد الأزياء والمشارب. وتبقى مع ذلك القلوب البشريّة قلوباً، والعقول عقولاً، والنفوس نفوساً. وستلقى حيث أنت قلوباً سليمة، وعقولاً نيّرة، ونفوساً طيبة. اللهمّ إذا أنت حافظت على سلامة قلبك، ونور عقلك، وطيبة نفسك. لأن السليم يجذب السليم، والأجرب الأجرب، فما أخطأ من قال أن الطيور على أشكالها تقع...quot;

[email protected]