quot;إنها لشريعة السماء.. غير نفسك تغير التاريخquot;، تعكس هذه المقولة للمفكر الجزائري (مالك بن نبي) وجهاً مهماً من أوجه فكره فكره، فقد كان يميل إلى فرضية التغيير من الداخل، أو تغيير ما بالأنفس، وهو مبدأ شرعي معروف جاء به الوحي. وفرضيات التغيير متعددة، منها ما يتعاكس مع بعضه البعض، فمثلاً فرضية التغيير من الداخل تقابلها مدارس من (علم النفس الكيفي) ترى أن التغيير يتم ويحدث عبر الكيفية التي تفعل بها الأمور، وعبر تغيير الظواهر والأشكال والذي سيقود من ثم إلى تغيير في الداخل.
تبقى فكرة التغيير من الداخل ومن الجوهر، من أقوى الأفكار التي يُراهن عليها في باب التغيير.. لكن الإشكالية التي تبقى بعد أن نؤمن بأهمية هذه الفكرة هي: كيف إّذن نتغير من الداخل؟!.. إن الإنسان لا يتغير لأنه جلس جلسة هادئة مع نفسه وقرر أن يتغير!.. كثيرون فعلوا ذلك ووجدوا أنهم لم يتغيروا كما أرادوا. كذلك المجتمعات لا تتغير لأن جموعاً من أفرادها قد اتفقوا في لحظة ما أنه من الأفضل لهم أن يتغيروا بطريقة معينة.. الأمر أعقد من ذلك. فالتغيير لا يتم عبر النوايا والرغبات، ولا عبر الجهد فقط، بل هو عملية مركبة ومعقدة وتحتاج إلى الكثير من التأمل والمتابعة.
أمر التغيير هذا معضلة. خفّت لدي حدّة هذه المعضلة حين وجدت جملة قالها عالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) في إحدى مقالاته الأكاديمية: quot;كي يغير العالم؛ يحتاج المرء إلى تغيير الطريقة التي يصنع بها العالم. هذه هي الرؤية والممارسة العملية التي يتم عبرها إنتاج وإعادة إنتاج الجماعاتquot;. لن يصعب علينا الاقتناع بأهمية هذه المقولة، حين نؤمن أن الكيانات الاجتماعية أو الثقافية ليست ذات وضعية جامدة static وإنما تتجدد كما هي أنسجة الكائن الحي.. وطبيعتها تبقى محكومة بنوع مواردها ومغذياتها والطريقة التي تصنع أو تنتج بها في كل مرة..
تغيير الداخل يحدث إذن بعد تغيير موارد هذا الداخل.. هكذا تكون المعادلة بسيطة، نوعية الموارد تحكي نوعية المخرجات، كما يحكي البيدر محصوله.

عالم الاجتماع بيير بورديو
المقولة السابقة لبورديو تعكس إحدى مفاهيمه الأساسية التي قدمها إلى علم الاجتماع، وهو مفهوم (إعادة الإنتاج). ويعتبر بيير بورديو (1930-2002)، ومنذ نهاية الستينات قامة من أهم القامات الفرنسية والعالمية في علم الاجتماع، بجانب مواطنيه (دوركهايم) و (ميشيل فوكو). قام بورديو بكتابة أكثر من ثلاثين كتاباً إلى جانب مئات المقالات العلمية. أكثر ما ميز بورديو هو اشتغاله على مفاهيم تجريبية حيوية يأخذها من الشارع ومن الثقافة الحية بين الناس، ويسائل عبرها ويختبر الأذواق الاستهلاكية والثقافية، وأنماط الهيمنة، ومنطق العلاقات في الحقول الاجتماعية. بينما الجانب الآخر من بورديو تمثل في صعوبة لغته العلمية، ومفاهيمه التي قد تكون جديدة وخاصة به في هذا الحقل. وكان بورديو يرى نفسه كباحث تجريبي يزاوج بين النظرية والتطبيق التجريبي، فهو يرى أن (التجريب) أساس البحث العلمي. ومن أهم المفاهيم السوسيولوجية التي قدمها بورديو: رأس المال الثقافي؛ العنف الرمزي؛ نظام الاستعدادات والقيم أو الطبع (الهابيتوس)؛ الحقل أو المجال؛ إعادة الإنتاج..
(إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم) هذا عنوان كتاب لبورديو كتبه بالاشتراك مع جان كلود باسرون (المنظمة العربية للترجمة 2007). في هذا الكتاب يقف بورديو ضد التفسير البنيوي للمجتمع، ويذهب إلى ما بعد التفسير البنيوي للنسق الاجتماعي باعتبار أن هناك عملية إعادة إنتاج ذاتي من قبل النسق لنفسه؛ ففي عملية دائرية يعيد النسق بناء نفسه وينتج كامل أدواره.. ويتركز هذا العمل حول (نسق التعليم) باعتبار أن المؤسسة التعليمية تحتكر التلقين الشرعي، ولديها رتابة عمل هي غاية في التنميط، وفيها quot;يغلب الجهل المعرفة، والتبني السؤال!!quot;، وتنتج فيها خصائص لسانية تميز الأساتذة والمؤسسات عموماً، مثل التقليد والتكرار والرتابة وترسيخ القوالب الجاهزة... ويرى أيضاً أن التأسيس الاجتماعي إنما ينطلق من الحقل المدرسي الذي ينتج التفاوتات والاختلافات الاجتماعية..
دراسات إعادة الإنتاج قد طبقها بورديو على المجتمعات الغربية الرأسمالية، وتطبيق مثل هذه الدراسات لدينا يحتاج بالطبع إلى أبحاث تجريبية تتثبت من صحتها في هذا الواقع. لكن ما نستطيع أن نقف عنده هنا هو مسألة quot;استقلال النسقquot; وبناءه الذاتي لنفسه. فإذا كان quot;نسق التعليمquot; يضمر إعادة إنتاج، فهو إذن ينزع إلى إعادة إنتاج لنفسه بمعزل عن المتغيرات الثقافية التي تطرأ! (ص171). وهنا يمكن القول أن العملية التعليمية تتحول إلى معرقلة ومعيقة، حين تنقطع عن مسايرة التحول الثقافي الذي ينتج من واقع أو قاع سوسيولوجي ينتمي له المجتمع.

الحالة الخليجية
دول الخليج تعيش اليوم حالة تنمية متسارعة تحدث لديها في أكثر من جانب. ولا أحد يستطيع الجزم أن هذه التنمية ستذهب بعيداً في حال لم تأخذ معها أهم عامل في كل هذه التنمية، وهو quot;الإنسانquot; نفسه. كل هذه التنمية والميزانيات والمشاريع لا تعني شيئاً حين تتم إعادة إنتاج الإنسان كما هو فكرياً وثقافياً.
عادة، الكيانات الاجتماعية والثقافية لا يسمح لها أن تتحرك أو تتغير وفقاً لما يفرضه عليها الواقع السوسيولوجي الطبيعي الذي تنتمي إليه، وإنما تمارس الثبات الذي يفرضه عليها من يريد إعادة إنتاج الواقع كما هو!. لقد ولدت لدينا طبقات وقطاعات واسعة تقف ضد التغيير بمفهومه الفكري والاجتماعي. فالنخب التي استفادت من أوضاع سابقة لا تزال تمارس إعادة إنتاج نفس الإطار السابق لأنه يقدم لها نفس المكاسب والامتيازات!، بل وتجد أنها تمارس التخويف والترهيب من أي تغيير ممكن.
هناك مصادر رئيسية، ومغذيات ضخمة يتم عن طريقها إعادة إنتاج ثقافة مجتمع ما، مثل: التعليم، التراث والثقافة التي يربو عليها المجتمع مثل الثقافة الدينية، الوضع الاقتصادي، المؤسسات وسلوك النخب، والإعلام... وتحدث الفجوة ويحدث التباعد حين لا تكون هذه المغذيات صادرة، وبشكل فيه نوع من الشفافية والمباشرة، عن الوسط الطبيعي للمجتمع. فماذا يفعل الناس بإعلام يختفي فيه صوتهم، ويصبح صوتاً للمؤسسات الضخمة سواء حكومية أو تجارية أو غيرها من مراكز القوة.. وماذا يفعلون أيضاً مع تعليم ذا إطار معزول، ومناهج نظرية تكرس التبعية والتقليد والتنميط المتشابه، ولا تدفع إلى التفكير والتفرد والإبداع.. وماذا يكون لهم أيضاً من دين يصبح مجرد موروث سلفي ضخم ومتراكم ويغطي على الدين نفسه!!..
هذه المغذيات تكون سلبية جداً إن صدرت عن طريق الكيانات التي تفرط في إدعاء معرفتها بالعالم، بينما هي كيانات وطبقات لا تعرف إلا نفسها، ولا ترى أبعد من مكاسبها الذاتية، وتعتبر أنها هي الممثل الشرعي الوحيد للمجتمع. وبحسب بورديو فإن النظام التعليمي النظامي وغير النظامي يكون مرتبطاً بمصالح مادية ورمزية لطبقات وقطاعات معينة. أي أن وظيفة التعليم تضمر وظيفة أخرى في داخلها، لذا لابد أن تفحص هذه العملية من الداخل والخارج. ولا ننس أنها عملية واحدة من ضمن عدة عمليات كبرى تصنع المجتمع وتعيد إنتاجه.
عملية إعادة الإنتاج إن تمت بشكل صحيح، فهي في مرحلة من مراحلها لا بد أن تتضمن quot;قطيعة معرفيةquot; مع فترة وإطار أو أنموذج (بارادايم) ذهني سابق. فعملية إعادة الإنتاج المجتمعية الصحيحة يتواكب فيها أكثر من بعد، والبعد الفكري والذهني هو من أهم الأبعاد المعتبرة في عملية التغيير أو التجدد هذه، وعدم خضوعه مثل غيره لمسألة التجدد وإعادة الإنتاج هو دلالة إماتة وقتل لهذا البعد. هناك بارادايم أو نموذج فكري جمعي يسود، ويحل محل الأنموذج السابق، وما كان في السابق مكروها وغير مرغوب، قد يصبح تبعاً للإطار الجديد هو الوضع المفضل والمطلوب. هذه عملية طبيعية، حدثت وتحدث لدى أجيال وأقوام مختلفة عبر التاريخ، ولابد من quot;عدم الانهزامquot; أمامها.. عن طريق quot;فهمهاquot;. يقول (جورج سانتيانا): quot;الأمم التي لا تقرأ تاريخها، معرضة لإعادة إنتاجه.. لغير صالحهاquot;

[email protected]