كتب فولتير مرة في رسائله quot;في بورصة لندن يجتمع ممثلون من جميع الأمم، فيهم اليهودي والمسيحي والمسلم، وجميعهم يتبادلون الصفقات ويتعاملون كأنهم من ديانة واحدة، ولا يطلقون صفة الكافر إلا على ذلك الذي يفلس!quot;.. وبالفعل، في عالمنا المتمدن، كان هناك العديد من المصالح التي قربت الأديان وجمعتها جنبا إلى جنب في الشركة والمصنع والملعب.. وأيضاً كان الدين عرضة للاستخدام المصلحي، ولطالما تأججت صراعات الأديان تبعا لأبعاد سياسية واقتصادية خارجة عنها.
تخلق المصالح السياسية والاقتصادية تنافرا شديدا بين الأديان، أكثر مما تخلقه هذه الأخيرة لنفسها. قضية مسجد (غروند زيرو) إحدى القضايا التي أفتُعلت وتمت المبالغة والنفخ فيها لأسباب سياسية. فالمسجد الذي يقع على بعد تقاطعين عن أنقاض مبنى التجارة العالمية، ولا يطل عليها مباشرة، والذي لم يستشعره كثيرون كقضية في البداية، أصبح القضية الحيوية التي أُشغِلت بها الأقوام!.
السياسيون الذين رفعوا أسهم الكراهية الدينية، عبر أحاديث حرصهم على الوطن، واستدعائهم للحديث العاطفي عن ضحايا تفجيرات سبتمبر وكرامة البلد والأمة الخ... قد ارتفعت أسهم شعبيتهم، كما انخفضت شعبية عمدة مدينة نيويورك (مايكل بلومبيرج) إلى أقل من 50% حين وقف إلى جانب حق المسلمين في بناء المسجد، فهو كما علق أحدهم quot;لم يقف في صف الرأي العامquot;. الأغلبية صوتوا ضد بناء المسجد، مع أنه في بدايات هذه القضية، ما يقارب من ثلثي الأميركان صوتوا بعدم معارضتهم لبناء مركز إٍسلامي في هذا المكان. لكن بعد فترة، وعبر النفخ والتأجيج الإعلامي للقضية، القادم من البعد السياسي، تغيرت الصورة، وتحول رأي الأغلبية إلى معارضة لبناء المسجد..
تزايد هذه العاطفة المعادية للمسلمين عبر الدعاية الإعلامية، يساهم في تنامي نسق بارز يفترض من المسلمين الذين يعيشون هناك أن يكونوا فقط مسلمين في أميركا، لا أميركيين مسلمين. أي استعمالهم فقط عبر البعد الاقتصادي، كموظفين أو يد عاملة أو طلاب... ويتم، مع ذلك، تحجيم وتقليل حقوق المواطنة لديهم مقارنة بغيرهم!. مع أن أعظم ما تستطيع أميركا المفاخرة به، هو حس التنوع والسعي الدائم للمساواة والحقوق. يرى (جيمس زغبي)، رئيس المعهد العربي الأميركي، أن لأميركا تركيبة quot;فسيفسائيةquot; يجتمع فيها المختلفون تحت ظل قيم وطنية مشتركة، ولم يكن لها أن تكون بوتقة انصهار ينبغي أن يذوب فيها المتغايرون. وإذا كنا قد شهدنا نموذج (أوباما) الذي يصف نفسه في كتابه بأنه quot;أميركي بدماء أفريقيةquot;، فما الذي يمنع أحدهم من أن يكون أميركي بدماء مسلمة!!.
موقف الإمام (فيصل رؤوف) ومن معه في عدم نقل مكان المركز الإسلامي هو موقف مهم. فلو تم النقل والتغيير لكان في ذلك إثبات وتوطين رمزي وفكري لعلاقة المسلمين في أميركا بتفجيرات سبتمبر، وسيضمر ذلك أيضاً أن الصراع هو بين دين ودين، وليس بين تطرف واعتدال من كل جانب. لذا، حدوث تقليل في حجم الحقوق والمواطنة للمسلمين في أميركا، وبروز تعامل (خاص) معهم، تبعا لمثل هذا النوع من الدعاوي، لن يكون إلا وجهاً حديثاً ومعدلاً من أوجه القهر السياسي الاقتصادي.
أحد فلاسفة العصر الحديث كتب مرة عن الفرق بين (التسامح) و (اللامبالاة)، وكيف أن الفروق بينهما دقيقة. وبالفعل، قطاعات كبيرة من بعض الشعوب تعتقد أنها متسامحة، بينما هي في الحقيقة لا مبالية!.. الشعب الأميركي شعب فُطر على البراغماتية، وأعتاد الفرد هناك أن يكون مسؤولا عمّا يتماس معه بشكل عملي ومباشر. لذا هناك نسبة منخفضة من قبلهم للاهتمام بالدين، سواء دينهم أو دين آخر.. لكن، هذه النسبة الكبرى اللامبالية -إن جاز لنا القول- قد يتم سحبها من دائرة الحياد واللامبالاة إلى دائرة الضد والعداء، وهنا تتبين خطورة الأبواق السياسية والأيدلوجية التي تلعب على حبل العواطف والصراعات. هذا السحب لهم يتم عبر إدراج مباشر للبعد الاقتصادي في القضية، فتجد مثلاً من يردد للأميركيين أن من أهم أسباب (أزمتهم الاقتصادية) هو الاستنزاف الذي أحدثته لهم الحروب في البلاد الإسلامية، لذا العالم الإسلامي والثقافة الإسلامية مصدر إشكال لديهم، وينبغي فرض العداء تجاهها!. وعلى جهة مقابلة،من الشائع أن تجد العامل المسلم المقيم باستمرار في أميركا، ممن يحمل جنسيتها أو ولد فيها، يردد أن أميركا ليست بلده، وأنه هنا من أجل الاستفادة الاقتصادية، ولا يوجد لديه من ثم أي استعداد للتفاعل والالتحام الاجتماعي المسؤول تجاه هذا البلد!.
ما يحدث اليوم هو نفض لغبار قرون من القطيعة والحدة والعلاقات الغير متوازنة بين أميركا والعالم الإسلامي. بعد أحداث سبتمبر تسارعت الوتيرة الجدلية لهذه العلاقة، وأصبحنا نقترب سريعا من الحصول على اتجاه واضح لإجابة سؤال هذا الموضوع (مسلمون في أميركا، أم أميركيون مسلمون؟)..
أمّا قبل أحداث سبتمبر، فقد كانت هناك بالفعل إصلاحات وخطوات تصحيحية للعلاقة، مع أنها كانت تتم ببطء. ففي بداية التسعينات تم إنشاء (مركز التفاهم الإسلامي المسيحي) في جامعة جورج تاون، وبعده بسنوات ظهرت (جمعية دراسات الشرق الأوسط)، وهي جمعية مهمة يحضر اجتماعها السنوي الآلاف من المهتمين. وفي أواخر التسعينات، تمت عملية تصحيح كبيرة لصورة العرب والمسلمين وثقافتهم ودينهم في المناهج الدراسية الأميركية (ابتدائي وثانوي)، تبعا لدراسة أجراها عالم الاجتماع إياد القزاز من جامعة كاليفورنيا. وقبل أشهر فقط من أحداث سبتمبر تم افتتاح أول (متحف) أميركي مخصص للثقافة الإسلامية في جاكسون في الميسيسيبي.
لقد دخل الإسلام أميركا مع (العبد) لا (المستعمر). فالمسلم الذي كان يتم اكتشافه بين ركاب سفن كولومبوس والسفن التي اكتشفت العالم الجديد كان يتعرض للقتل. ولكن بين العبيد الأفارقة العشرة ملايين الذين جلبوا إلى أميركا؛ يقدر المؤرخون أن نسبة المسلمين كانت بين 15 إلى 30 بالمائة. انقطعت علاقة هؤلاء الأفارقة بقارتهم التي تبعد أربعة آلاف، وبمرور الزمن تحولت ذرياتهم إلى المسيحية بعد أن تم (استيعابهم) في النسق الاجتماعي السائد، وإخضاعهم لآلية القهر السياسي الاقتصادي.
هناك اليوم أفراد ومجموعات سياسية تعمل على إعادة إنتاج حديثة لأساليب هذا القهر وهذا الاستيعاب، عبر استخدام للمسلمين في البعد الاقتصادي والسياسي، مع تحجيم وتقليل لحظوظهم في المواطنة، وفي ممارساتهم الثقافية. وهذا هو الأمر الذي لا يليق.. لا بأميركا كبلد رائع، ولا بالمسلمين كقوم رائعين..

[email protected]