الإنسان هو أكبر عقبة أمام نفسه. قد يعيق الإنسان نفسه ذاتيا عبر quot;منطقه وتفكيره الداخليquot; أكثر من أي عقبات أخرى تضعها أمامه الظروف أو الناس. يمكن للفرد أن يتحدى الواقع والناس لكن لا يمكنه أن يتحدى منطقه الداخلي إن كان معطِلاً ومعيقاً له، فهو في النهاية ليس إلا طاقة تعمل عبر هذا الفكر الداخلي.
وعلى نفس مستوى الفرد، كثير من المجتمعات تتعطل وتكون مشلولة وشبه ميتة بسبب منطقها الفكري الذي تقدمه لها quot;الايدلوجياتquot; السائدة لديها. ومجتمعاتنا العربية لم تتعطل فقط عبر عقبات quot;موضوعيةquot; واجهتها، بل أيضاً عبر quot;منطق تنظيري وفكريquot; فاشل ساد في العالم العربي. لقد تأسست الايدلوجيات في العالم العربي على مسارات تنظيرية ملأت السمع والبصر، وخطفت المشهد الفكري والاجتماعي العربي، ومنعته من رؤية العقبات الواقعية أمامه والتحرك تجاهها!.
والنقد هنا ليس للايدلوجيا نفسها، فهي في النهاية نسق فكري ومُعطى طبيعي يحق لمن أراد أن يراه ويسلكه، لكن ما يحدث هو أنه، وفي أحيان كثيرة، تتجه الايديولوجيا إلى حقل جدل واجتهاد تنظيري لا يكون له تأُثير واقعي وعملي، وتنحرف بذلك عن مسارها نتيجة تصعيد quot;نفسيquot; أوquot;تحزبيquot; فتتداخل فيها المقاصد مع البحث عن الحظوظ والعقلية الصراعية فينتج لنا في النهاية شيئا مشوها لا يمت للفكر والحياة إلا بصلة عداوة، كما يقول الفيلسوف جورج سانتيانا quot;التعصب هو مضاعفة جهدك بعد أن تكون نسيت مبتغاكquot;.
* * *
عندما راجت فكرة quot;موت الأيدلوجياquot; في الغرب، لم يكن ذلك فقط بسبب أن وهج الأفكار قد خف، أو أن معسكراً قد تغلب على آخر، بل كان يعود إلى قوة تأسيس وفاعلية للمفاهيم الإنسانية الأساسية هناك، أي أن الإنسان أصبح أكثر قرباً من واقعه، ومفاهيم أساسية لديه مثل الحرية والحقوق والديمقراطية أصبحت مفاهيم فاعلة وراسخة ولا يساوَم عليها، ومن هنا لم يكن هناك احتياج كبير لتنظير أيدلوجي. فالايدلوجيا في النهاية ليست إلا وسيلة لتحقيق هذه المقاصد.
وقبل بضع سنوات طلب أحد أساتذة جامعة (دوك) الأميركية من طلابه أن يكتبوا مقالاً عن فلسفتهم السياسية في الحياة، واكتشف أن توجهات الطلاب السياسية لم تكن تتوزع بين quot;يمينquot; أو quot;يسارquot;، بل بين مقاربة quot;مثاليةquot; أوquot;واقعيةquot;، ووجد لديهم نوع من التشكك في النظرة المثالية للعالم، مع تواضع واقعي من غير مثالية في النظرة للمستقبل، ورأى الأستاذ أن الفشل الأميركي في العراق كان أحد الأسباب التي دفعت لتسيد مثل هذه النظرة الواقعية المتواضعة لدى الشباب.
وأن يكون الإنسان واقعياً أو أن يعيد اكتشاف هذا الواقع هي مسألة ليست بسيطة على الإطلاق!. إنها كاكتشاف لا تقل ثورية عن quot;النسبيةquot; عند آنشتاين، أو quot;العقل الباطنquot; عند فرويد. المفاهيم الواقعية والبسيطة مثل الحرية والحقوق والحياة الكريمة وغيرها هي بسيطة وقريبة ولكن قد يكون هناك محيطات من التنظير quot;الفارغquot; بين الفرد وبينها. قال شاعر غربي ذات مرة quot;كلٌ منّا يولد أرسطياً أو أفلاطونياًquot;، وكان يقصد بذلك أن بعضنا لديه نظرة quot;مثاليةquot; للحياة, وبعض آخر لديهم نظرة quot;تجريبية وواقعيةquot;.
وهذا تنوع طبيعي بين الناس. ولكن الإشكال يبرز حين يُفترض أن يكون كل أحد مثالياً!. فبعض المجتمعات لديها أيدلوجيا مثالية سائدة ونسق فكري جمعي معين يكون ضاغطاً على الأفراد ويطلب منهم تبني هذه المثالية التنظيرية، مثل مجتمعاتنا العربية quot;الأبويةquot; التي تفرض على المجتمع أن يكون تنظيرياً لزوماً، وذلك عبر ترويج وترسيخ أدبيات النخب المهيمنة في هذه المجتمعات، فهي تريد أن تُخضِع، ولذا تفرض كمّاً هائلاً من هذه الأدبيات.
من هنا احتاجت بعض المجتمعات العربية إلى quot;ثورةquot; كي تلتصق بهذه المفاهيم الإنسانية العامة وتقترب منها، فالنسق السائد سابقاً لم يكن يتيح مساحة لذلك. فالثورة الحقيقية هي ثورة الأفكار، وهي الوحيدة القادرة على تغيير العالم، ونحن نلاحظ بوضوح كيف أن الثورة الشبابية العربية في تونس ومصر قد رفعت شعار المفاهيم الإنسانية العامة من حقوق وديمقراطية وحرية والتصقت بها مباشرة، في تمايز واضح عن أي شعارات أيدلوجية.
* * *
قبل أقل من شهر من انطلاق شرارة ثورة تونس، صدر في أميركا كتاب quot;الثورة القادمة: صراع من أجل الحرية في الشرق الأوسطquot; quot;The Coming Revolution: The Struggle for Freedom in the Middle Eastquot; لوليد فارس. ورغم الأخطاء المتعددة التي تضمنها الكتاب بسبب quot;الأميركانية الزائدةquot; التي ينطلق منها الكاتب، إلّا أن اللافت فيه ليس فقط الحديث عن ثورات quot;ديمقراطيةquot; قريبة في الشرق الأوسط، بل أيضاً تركيز الكاتب على أن هذه الثورات تأتي من قوى ديمقراطية جديدة موجودة ومؤهلة فعلا لإحداث تغيير في المنطقة، من إصلاحيين، وكتاب، وحركات نسوية، وحقوقيون ونشطاء مجتمع مدني، بالإضافة إلى حركات شبابية وطلابية.
يرى الكاتب أن الغرب قد غفل عن هذه quot;القوىquot; التي ستنجز الثورة القادمة في الشرق الأوسط، حيث تجتمع هذه القوى quot;المتنوعةquot; على أهداف عامة ومشتركة، وتحفر طريقها الجديد، بينما كان المشهد العام في المنطقة مستلباً عبر صراع مزمن بين قوى سلطات شمولية في المنطقة، وقوى تيارات أيدلوجية برزت على الساحة منذ عقود، وكلا القوتين تشتركان في معاداة الديمقراطية والتعددية في المنطقة. هذا ما يؤكده الكاتب حين يعلن أنه بينما تكون أجندة هذه الفرق quot;المعادية للديمقراطيةquot; واضحة ومفهومه لدى الغرب، فإن طريقة ومسار من يدعمون الديمقراطية من القوى الجديدة هي مهمشة وغير مفهومة من قبل النخب الغربية (ص326).
والأمر هنا يستحق وقفة تأمل!. فلماذا يكون المشهد الاجتماعي والسياسي مشغولاً بصراع قوى متطرفة في كثير من الأحيان، وهي في أغلب الأحوال لا تمثل سوى 5% من المجتمع، بينما يتم نسيان أو تجاهل مسار وإرادة حركة الطاقات الطبيعية الأكبر في المجتمع مثل طاقة الشباب!.
* * *
في كتابه الذي تمت ترجمته إلى العربية تحت عنوان quot;بؤس الايديولوجياquot;، كانت الفرضية التي طرحها الفيلسوف quot;كارل بوبرquot; هي أن مسار التاريخ الإنساني يتأثر بقوة بنمو المعرفة الإنسانية، ولذلك لا نستطيع أن نتنبأ ولا نتمثل المستقبل لأننا لا نعرف حين يحضر هذا المستقبل عند أي صفحة ستكون معرفتنا موجودة. وبطريقة أخرى، حين نتأمل الوضع والمتغيرات علينا التخفف من الذهنية التاريخية التنظيرية والالتفات أكثر إلى الواقع المشاهد، ولكن الذي يحدث عادة هو أن الناس لديهم تجارب سابقة وتنظير واسع يمارسون المقايسة والمقارنة عبره، ولذا لا يزالون مصدومين من ما يحدث أمامهم في الواقع كل مرة، فهم لا ينتظرون أن يحدث إلا ما رسموه في أذهانهم. ولنا أن نتخيل اليوم أي مستوى معرفي quot;قافزquot; قد تحصلنا عليه بسبب الانترنت والتقنية الحديثة!. إنه مستوى عالي يصعب جداً أن نلاحق تأثيره ونتائجه.
وهناك مغنم كبير حين تُخلي الايدلوجيا مكانها لما هو طبيعي وواقعي من صفات إنسانية عامة يشترك فيها كل الناس. فحين تخف وطأة الايدلوجيا سيقل التمايز الحاد بين الناس الذي يتأتى من تمايز ايدلوجي أو طائفي أو قبلي أو غيره من حدود؛ زرعها الناس كحدود quot;تنظيريةquot; بينهم وهي تفرق أكثر مما تجمع.
في ثورتي مصر وتونس كان الكل يلاحظ مسألة التشديد على أن هذه ثورات غير مؤدلجة، ولا تلتزم أي خط معين سوى ما تناضل من أجله من مفاهيم إنسانية مشتركة من حقوق وحرية وديموقراطية، وهذا ما جعلها بالتأكيد ثورات فاعلة وتحظى بالتأييد الواسع. ونجاحها سيعقب أيضاً quot;ارتداداquot; مجتمعياً إلى هذا الخط، وسنشاهد لغة شعبية في المجتمعات العربية تؤكد على هذه الحقوق بوعي وتتخلص من زوائد التنظير والايدلوجيا التي أتعبتها، وجعلت صوتها الطبيعي ومطالبها كمجتمعات لا تكاد تظهر.
لقد وصل الوضع العربي قبل ثورة تونس إلى مرحلة انسداد، وكان العقد الأخير أيدلوجياً بامتياز، فالمشهد كان مشغولا بالعديد من مشاهد الصراع والاستقطاب، والتي وصلت إلى الذروة، تحديداً، قبل الثورة بأيام مع تقسيم السودان، وتصريحات غربية توحي بالتدخل لحماية quot;الأقلياتquot; في المنطقة نتيجة تفجيرات العراق ومصر، ما جعل هواجس التقسيم والتفتت نتيجة الصراعات الداخلية أو التدخل تتزايد وتهدد كل أحد.. وفرق كبير نجده الآن بين مجتمع كان يعيش هواجس التقسيم، وآخر يعيش المطامح التي زرعتها الثورة الشعبية التي نجحت في مصر وتونس..
إن كلمة موت الايدلوجيا ليست بالأمر البسيط، ولكن لنتذكر أن ما يحدث لدى العرب اليوم وإعادة تشكل الأفكار لديهم ليست أيضاً بالأمر البسيط.
التعليقات