1848، 2010 ربيع أوربا وربيع العالم العربي
الانتفاضات الكبرى التي ما تزال تهز العالم العربي فريدة من نوعها. وإذا بحثنا عن نظائر لها فلا نجدها في تاريخ المنطقة، بل في تاريخ أوربا، وتحديدا مسلسل الثورات التي هزت أوربا في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتحديدا في عامي 1849 - 1848 وسميت quot;ربيع الشعوبquot; أو quot;ربيع الثوراتquot;، والتي بدأت شرارتها من باريس. ففي 22 شباط/فبراير 1848 كانت الجماهير الساخطة على نظام الملك لويس فيليب، وهو نظام كان قد نخرته الفضائح الكبرى وأضعفه الفساد وسوء استخدام السلطة، على موعد لإقامة تظاهرة عامة عقب لقاء احتجاجي جمهوري آخر في باريس، أو ما كان الفرنسيون يسمونها ولائم أو مآدب (BANQUETS)، وهي سلسلة لقاءات عامة منظمة شرعت قوى المعارضة، بمختلف توجهاتها وفصائلها الجمهورية و اليسارية والليبرالية، على عقدها منذ شهر تموز من عام 1847، كمحاولات منهم للتحايل والالتفاف على القوانين الحكومية السائدة وقتذاك والقاضية بمنع التظاهرات العامة. وعندما عرفت الحكومة الرجعية التي كانت برئاسة فرانسوا غيزو GUIZOT بأمر اللقاء والتظاهر فأنها أصدرت، وقد شعرت بالذعر، أمرا لشرطة باريس لمنع قيام ذاك اللقاء. فأشعل المنع غضب الجماهير. وبالضد من أوامر الحكومة، فأن المتظاهرين نزلوا إلى الشوارع، وراحوا يهتفون بسقوط حكومة غيزو. وبحلول مساء ذاك اليوم كان المتظاهرون الغاضبون قد نجحوا في إطاحة الكثير من المتاريس المقامة لمنع التظاهرات في باريس، خصوصا في المناطق العمالية الفقيرة. وعندما بزغت شمس اليوم التالي كانت باريس تزدحم بالمتظاهرين الغاضبين الذين أزداد عددهم، وهم يواصلون ترديد شعاراتهم ، مما أضطر الملك إلى إقالة حكومة غيزو وتشكيل حكومة أخرى. لكن هذه الخطوة الترقيعية لم تنفع شيئا، بل شجعت المتظاهرين وزادتهم إصرارا على مواصلة التظاهر، ورأوا فيها دليلا على أحقية وشرعية مطالبهم، فرفعوا من سقف مطالبهم، وبدأوا يرددون مطلبا رئيسيا: نريد إسقاط النظام. وفي اليوم التالي، أي 24 شباط كانت باريس قد تحولت إلى غابة من البشر الغاضبين الذين شرعوا في تهديم آخر ما تبقى من الحواجز، أو المتاريس المقامة، ونفذوا عمليات نهب، ثم اتجهوا نحو قصر الملك وطوقوه. وعندما أدرك الملك لويس فيليب أن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة، وتفاديا لاستفزاز المتظاهرين فأنه لم يأمر بإطلاق النار، واكتفى بالتنازل عن العرش لحفيده، فيليب أيغاليتيه، وتسلل خلسة من القصر بصحبة زوجته ماري-أميلي، وهربا (مثلما زين العابدين وزوجته، ليس نحو مصر، بالطبع)، وإنما إلى انكلترا. لكن قوى المعارضة أقامت حكومة مؤقتة ألغت الملكية، وأقامت نظاما جمهوريا، سمي فيما بعد الجمهورية الفرنسية الثانية.
وحالما ذاع نبأ الهروب ونجاح الثورة الفرنسية حتى انتقلت عدواها إلى بقية البلدان الأوربية، فانتعشت من جديد أمال الشعوب الأوربية الأخرى المحبطة، وبدأ مسلسل الانتفاضات والثورات في مناطق مختلفة في أوربا: ايطاليا، ألمانيا، النمسا، هنغاريا، بريطانيا، وبلدان أخرى، بل حتى إلى بلدان بعيدة جغرافيا، كأوكرانيا، مثلا.
تجارب الشعوب لا تستنسخ ولا تستورد لكنها لا تمحى
التشابه بين ما حدث في فرنسا ومن ثم أوربا في ذاك الوقت، وما يحدث هذه الأيام في العالم العربي، يكمن في نقاط عديدة منها، طريقة العدوى السريعة التي انتقلت فيها الانتفاضات من بلد إلى أخر، ورفض المتظاهرين في الحالتين الأوربية والعربية لأنصاف الحلول، والمطالبة بتغييرات ليبرالية ديمقراطية عميقة، والاحتجاج ضد تردي الأوضاع المعاشية والفساد الإداري والفضائح المالية واستئثار فئات اجتماعية قليلة بالثروات العامة، وتحكم سلالات عائلية بمصائر الملايين والمطالبة بالحريات العامة، وتعديل النظام الانتخابي. ومثلما أن باريس هي المكان الذي انطلقت منه شرارة الثورات الأوربية في شباط 1848، فأن تونس هي المكان الذي اشتعلت فيه نيران الأحداث الجارية في العالم العرب. ومثلما لم تنجح إقالة حكومة غيزو GUIZOT من قبل لويس فيليب، ملك فرنسا في إخماد نار التظاهرات الباريسية، فأن الإجراءات الترقيعية التي أقدم على تنفيذها الرئيسان التونسي والمصري، والآن الرئيس اليمني، في تهدئة غضب الثائرين، لم تكبح جماح المتظاهرين . ومثلما أن تخلي ملك فرنسا، لويس فيليب أورليان عن العرش بعد يوم من بداية الأحداث، وهروبه المفاجئ إلى انكلترا، كان نقطة اللاعودة، وبدء الحريق الذي وصل لهيبه، خلال فترة قصيرة جدا، إلى أوربا كلها، فأن هروب الرئيس التونسي المفاجئ إلى السعودية، أثر استمرار التظاهرات الاحتجاجية في البلاد، بمثابة نقطة اللاعودة، وبدء الانتصار الحاسم، ليس في تونس وحدها وإنما في بلدان عربية كثيرة، بعد أن استعادت ثقتها بنفسها.
بالطبع، أن مطالب الثائرين وأهدافهم وقتذاك لم تكن واحدة في جميع الدول الأوربية، إنما اختلفت من بلد إلى آخر، فقد كان بعضها يركز على تحقيق العدالة الاجتماعية، والبعض الآخر على تحقيق أهداف قومية توحيدية، وأخرى لرفض السيطرة الأجنبية، ورابعة على تحقيق المزيد من الإصلاحات الدستورية وإشاعة الديمقراطية. وهذا ما نجد شبها له في انتفاضات العالم العربي. فمطالب المتظاهرين في البحرين، مثلا، تختلف عنها في تونس، ومطالب اليمنيين غيرها في مصر، ومطالب الأردنيين والمغاربة غيرها في ليبيا، ومطالب الفلسطينيين غير مطالب السوريين، ومطالب العراقيين غيرها في جميع هذه البلدان.
لكننا نريد التركيز على نقطتين مشتركتين بين ما حدث في أوربا آنذاك وبين ما يحدث في العالم العربي حاليا. الأولى انهيار حاجز الخوف، فالذي شجع شعوب أوربا على مواصلة الانتفاضات وتحقيق الانتصارات المتتالية، كما يرى مؤرخو هذه الأحداث، هو، أن الشعوب الأوربية كانت مصرة على استعادة كرامتها، وأنها ما عادت تهاب الخوف، وأنها أدركت فجأة أن الأنظمة القائمة لم تعد تثير الرعب، بقدر ما تثير الاحتقار والازدراء. وكان الشاعر الفونس لامرتين (1790-1869) على حق عندما وصف تلك الانتفاضات بأنها (ثورة الاستهانة بالخوف Reacute;volution du meacute;pris ). وهذا أمر أنجزته تماما الانتفاضات السلمية الجارية الآن في العالم العربي. النقطة الثانية المشتركة هي مواقف قوى الثورة المضادة. ففي معظم بلدان أوربا نجحت قوى الثورة المضادة في استعادة زمام الأمور، بفضل تبدل ولاءات الجيوش، بدءا من فرنسا التي بدأت فيها الأمور تتغير بعد مرور أربعة أشهر على نجاح الثورة، عندما تغير موقف الحرس الوطني، من مؤيد للثوار في بداية الثورة، إلى أداة قمع ضدهم، ومرورا بدول أوربا الأخرى. أما في العالم العربي، فما يزال موقف المؤسسة العسكرية المصرية غير حاسم ويثير الريبة والقلق، أيضا، وما يزال الجيش الليبي يقاتل ضد الثائرين، وما يزال الجيش اليمني على ولاءه للرئيس، رغم تمرد بعض من قياداته.
في مصر وليس في غيرها يتقرر مستقبل الثورات العربية
مستقبل ومصير الثورات الديمقراطية المستمرة في العالم العربي لا يتقرر في تونس، رغم أنها الفنار الذي اهتدت بنور ثورته البلدان العربية، ولا يتقرر في ليبيا حيث يواصل التحالف الغربي ضرباته، فتدخل التحالف أساء بشكل بالغ لقضية الديمقراطية، وزاد الأوضاع في ليبيا تعقيدا، ومستقبل الثورات لا يتحقق في اليمن، ولا في البحرين، بالرغم من شرعية مطالب المتظاهرين في البلدين. مصير الثورات الجارية في العالم العربي يتقرر في مصر وحدها. مصر أكبر بلد عربي، ليس ديموغرافيا فحسب، وليس عسكريا فقط، وإنما سياسيا وثقافيا وأدبيا وعلميا وفنيا وتعليميا. مصر قلب العالم العربي. العالم العربي الحديث صاغته مصر. مصر هي مكان الإسلام السياسي بكل مدارسه، والمد القومي العروبوي، يساره ويمينه، والاشتراكية العربية والتأميم، وحركات الضباط الأحرار التي غيرت العالم العربي، سلبا وإيجابا، ومقر الثورة الجزائرية، وحركة عدم الانحياز، ومقر الجامعة العربية، واللجوء السياسي، ونجوم الغناء الذين سهرت أجيال من العرب على إيقاع أغنياتهم، والفنانون الذين أبكوا وأضحكوا ملايين العرب، ومجلات المقتطف والهلال والرسالة والكاتب والطليعة، مكان الأزهر ودار الأوبرا، المكان الذي أنجب الأضداد: العقاد وطه حسين وسلامة موسى وسيد قطب ونوال السعداوي والظواهري وشهدي عطية الشافعي وخالد الاسلامبولي وعبد الناصر والسادات. مصر قلب العالم العربي، يمرض إذا مرضت ويتعافى إذا استردت عافيتها. إذا تراجعت وانتكست ثورة ميدان التحرير، ستتراجع كل الثورات الأخرى، وإذا واصلت تقدمها و حققت أهدافها في إقامة نظام ديمقراطي، يكفل الحريات العامة والخاصة، ويحقق العدالة الاجتماعية، سيتعزز نجاح الثورات الأخرى.
ماذا حل بشرعية ميدان التحرير؟
أصبح واضحا تماما أن ما من جهة في مصر تستطيع الإدعاء بأنها وراء ثورة ميدان التحرير، لا المؤسسة العسكرية، ولا الأحزاب، ولا الأزهر، ولا أي شخصية عامة. شباب مصروا هم الذين بادروا، وهم الذين رابطوا، وأوامرهم وحدها كانت التي تطاع. ميدان التحرير أصبح، في آن واحد، مقر البرلمان، ومجلس الشورى، وأهل الحل والعقد، ومجلس الحكماء. ميدان التحرير هو الشرعية والشرعية هي ميدان التحرير، يمنحها لمن يستحقها، وينزعها عن من لا يستحقها. مبارك قال، أنا أحد أبطال العبور، أفنيت عمري في خدمة بلدي، ولهذا أنا باق، لكن ميدان التحرير قال له، كثر خيرك، أرحل، فرحل. أحمد شفيق قال أنا باق، لكن ميدان التحرير قال أنت من بقايا العهد القديم، أرحل، فرحل. ميدان التحرير تحول، بفضل شباب مصر ومعهم الغالبية العظمى من الشعب، إلى مكان يؤمه كل من يريد الحصول على الشرعية له، أفراد وأحزاب. عصام شريف قبل أن يذهب إلى مقره الرسمي ليصبح رئيسا للوزراء، ذهب إلى ميدان التحرير، ليحصل على الموافقة. قادة المؤسسة العسكرية تواجدوا في ميدان التحرير، ليس تأييدا لمطالب الثوار، وإنما للحصول على شهادة حسن سلوك من المتظاهرين. عمرو موسى والبرادعي، الطامحان لرئاسة مصر الجديدة، حضرا لميدان التحرير، بدون أربطة عنق، مجاراة لمزاج المتظاهرين وللحصول على تأشيرة دخول مستقبلية للقصر الرئاسي. الأخوان المسلمون، أكبر قوة سياسية منظمة في البلد، لم يستعرضوا قوتهم الذاتية، إنما أختبأوا وسط جماهير ميدان التحرير سعيا، أولا، لانتزاع ثقة ومحبة واحترام المتواجدين هناك. الجماعات السلفية لم تظهر في الأيام الأولى، لكنها بدأت تتواجد لاحقا في ميدان التحرير لإسماع صوتها. أتباع الشيخ عمر عبد الرحمن رفعوا صوره واتجهوا إلى ميدان التحرير، وليس لأي مكان آخر، لأن المطالبة بإطلاق سراحه من الميدان ستكون مغلفة بالشرعية. الأزهر أرسل عددا من صغار شيوخه إلى ميدان التحرير. عبود الزمر توجه، حال إطلاق سراحه، بالشكر لميدان التحرير. حتى وزيرة خارجية أعظم قوة في العالم، كلينتون، ذهبت هناك لتحصل على رضا شبيبة ميدان التحرير. ماذا حل الآن بتلك الشرعية؟
انتصرنا في غزوة الصناديق واللي مش عاجبه يروح أميركا
في يوم الأحد 20/03/2011 ألقى رجل دين مصري خطبة في أحد المساجد وصف فيها الاستفتاء على التعديلات الدستورية بأنه quot;غزوة الصناديقquot; مؤكدا ما اسماه quot;انتصار الدينquot;فيها، وقال quot;الدين هيدخل في كل حاجة، مش دي الديمقراطية بتاعتكم، الشعب قال نعم للدين، واللي يقول البلد ما نعرفش نعيش فيه أنت حر، ألف سلامة، عندهم تأشيرات كندا وأميركا. وقال للمصلين من أنصاره quot;ماتخافوش خلاص البلد بلدنا.quot; (نقلا عن صحيفة المصري اليوم في عددها الصادر في 23/03/2011).
هذا ليس كلام رجل داهمه الخرف، ولا هو مزحة ثقيلة، ولا جعجعة فارغة. رجل الدين قال بصوت عال ما تقوله وتفكر به وتريد تطبيقه في مصر قوى مختلفة علمانية ودينية، مدنية وعسكرية، من أنصار النظام السابق، ومن معارضين سابقين له. بقاء مبارك طليقا حتى الآن دون محاكمة، والحرائق التي تشهدها القاهرة الآن، واستعجال الاستفتاء على الدستور، والزيارات المكوكية من الخارج إلى مصر، يراد منها كلها محاصرة استحقاقات (الديمقراطية بتاعكم). والمتحمسون لتنفيذ ثورة مضادة في مصر لإجهاض التحول الديمقراطي ليسوا وحدهم في ميدان المعركة، إنما لهم حلفاء داخل العالم العربي وفي المنطقة، يقفون بانتظار ساعة الصفر للزج بكل ما يملكون من خبر وتجارب ودهاء وإمكانيات مالية وعسكرية وإعلامية. إن الثورة المصرية الوليدة، كما الثورة المضادة يتحدد نجاح وفشل كل منهما، كما كان الوضع في أوربا 1848، وفقا لتفوق كل منهما، في العدد، والقوة المسلحة، والتنظيم. ومثلما كشفت الأحداث فأن عدد الثائرين كان تمثله غالبية الشعب المصري، وأن أجساد المتظاهرين العارية قادرة، شرط أن تكون موحدة، على إبطال مفعول القوة المسلحة، وإيجاد قوة بديلة، لا يمكن قهرها. الخطر يكمن في عنصري التنظيم والخبرة، ومعهما المكر والخداع والدهاء والحيلة، من جهة، والسذاجة الثورية، من جهة أخرى. التنظيم والخبرة هما أمضى سلاح. وهذا سلاح لا تملكه إلا قوى الثورة المضادة، بينما لا تملك قوى الثورة سوى الطهرانية، بل السذاجة الثورية. وإلا، أما كان بإمكان قوى ثورة يناير أن تزلزل الأرض تحت أقدام الذين رفعوا ونفذوا مطلب إجراء تعديلات دستورية، انتظارا لأن يسترد الشعب المصري أنفاسه، ويؤسس أحزابه، ومنظماته المدنية، ويلغي جميع حالات الطوارئ. تنفيذ إجراء التعديلات الدستورية هو أول إجراء (شرعي) لنزع شرعية ميدان التحرير. فهل ستقبل قوى الثورة، وكيف ستسترد شرعيتها؟
التعليقات