في العدد الثالث من مجلة quot;فراديسquot; (1992)، أعددت ملفا حول الطغاة في التاريخ، انطوى على أقوال في الطغيان لكتاب كبار كجورج سوم الذي قال: quot;كم الطغاة محظوظون... لأنّ نصف البشر لا يفكّرون والنصف الآخر لا يشعرونquot;، وسيوران الذي قال: quot;الطغاة يتأخر، دائما، اغتيالهم... وهذا هو عذرهم الكبيرquot;. كما انطوى الملف على سيَر أعنف الطغاة في التاريخ، ومن بينهم هؤلاء الأربعة، وقد تم الاعتماد على كتب التاريخ المتعلقة بالطغيان والطغاة لكتابة سيَرِهم بسرد سريع ومكثف. مادة quot;محمد تغلق شاهquot; اقتبست كاملةً من كتابquot;رحلات ابن بطوطةquot;.
كاليغولا: الافتخار بالطغيان حيث القوانينبيادق في لعبةمفتوحة
انفجر كاليغولا مرةً ضاحكاً دون أن يفهم القناصلُ وأعضاءُ مجلس الشيوخ من حوله سبباً لنوبة الضحك هذه. فلما استفهمه شيخان قريبان من مجلسه واجفَيْن، أجابهما: quot;الأمر بسيط، أضحك لفكرة وهي أنني بإيماءة واحدة من رأسي أستطيع أن أرى رأسيكما يتدحرجان أمامي على الفورquot;.
شُغلُ الطغاة الشاغل هو نشر الرعب والموت بين رعاياهم. لكن أحدا لم يفعل ذلك بفخر واعتزاز كما فعل كاليغولا الذي أعلن: quot;إن حمل البؤس إلى الرعية ودمارها يشكلان القاعدة الذهبية لسياستناquot;. القتل هو القانون عند كاليغولا. بمبدأ quot;الموت سنّة الحياةquot; أراد كاليغولا لا أن يقلب نظام البشرية فحسب بل ونظام الآلهة أيضا. كان يكره جوبيتير ويردُّ على رعده في السماء برعد أرضي يحدثه آليا قرقعةً ودويا يطغي صوته على رعد جوبيتير. لم يكتف بوصفه ظل الله على الأرض بل أراد أن يكون الله وظله في آن. أمر بنزع رؤوس تماثيل الآلهة في كل مكان من ساحات روما واستبدالها بتمثال لرأس كاليغولا. أنكر وجود الخير والشر وأراد أن يجعل الليل نهارا والبحر برا. لم يعجبه أسلافه
الطغيان على الإنسان ليس طغياناً، إنّه تمردٌ لأنّ الإنسان كائن ملوكي شيشرون |
الأباطرة فمحا أسماء بعضهم من شجرة الأباطرة الذين حكموا روما.
كان بموجب قرارات يتخذها، يعلن إحياء أشخاص ماتوا منذ زمن وينعي أشخاصا أحياء يستمعون إلى تلاوة القرار. مرة ألغى قانونا يعرف باسم quot;قانون صاحب الجلالةquot; مفاده معاقبة من يمس شخص الإمبراطور بالموت. لكنه قَـتلَ بعد ذلك آلاف الأشخاص باسم القانون quot;الملغيquot;. كان يُلغي الضرائب ثم يعيدها في اليوم التالي بموجب قانون النصوص على نحو مبهم لا يتيح للمعنيين بدفع الضريبة فهمه بحيث يصبحون واقعين في قبضة العذاب دفعوا أم لم يدفعوا. ذات مرة، طالب بزيادة الضرائب والهبات والهدايا عندما وُلِدَت له ابنة بحجة أن quot;أعباءه تضاعفتquot;، فإلى quot;أعبائه كإمبراطورquot; أضيفت الآن أعباؤه quot;كرب أسرةquot;.
على أنه لم يكن ليكترث للقضايا المالية لكنه كان دقيقا في حسابات كيفية موت ضحاياه فثمة قائمة لمن يموتون بالسيف وأخرى بالخنجر. كان يعبث بنظام القيم الذي يقوم عليه المجتمع. بينما هو حاضر في احتفال ديني خاص بالأضاحي أمسك بمطرقة هوى بها على رأس الكاهن الذي يقدّم الأضحية وخرج. لا يهزّ في هذه الحادثة اجرامه بل قدرته على قلب الأدوار بحيث يصبح الجلاد ضحية. منح مرة شقيقاته quot;حقوق الشرف الإمبراطوريquot; ثم عمد إلى سجنهن ونفيهن بعد أن اغتصبهن وتزوّج إحداهن دورسيلا التي قتلها بعد ذلك بالرغم من انه كان يحبها حبا جما.
لم يُنبِتْ جنونه الدموي إلا أمنية واحدة ملأت رأسه وجسدت كل أمانيه، فقد كان دائما يتمنى: quot;لو أن هذا الشعب الروماني برأس واحد لأقطعها بضربة سيف واحدةquot;.
لم يكن كاليغولا طاغية فحسب، بل كان وحشا يريد أن يفترس العالم.
فالاريس: التعذيب كمخدر للإحساس بالنشوة
أما الإمبراطور الروماني فالاريس، فكان لا يستمتع بشيء قدر استمتاعه بصرخات الضحايا عندما تعذّب أمامه. لكن هذا الطاغية سرعان ما بدأ يفقد حماسه الأول بعد أن أصبح التعذيب يصيبه بالسأم. لذلك أوصى أمهر صنّاعه بأن يسكبوا له ثورا من النحاس، مزيّنا بالجواهر الثمينة ليبهر العيون، توضع فيه الضحية بينما تشتعل تحته نار خفيفة. ولئلا يفسد عليه نشوته شيءٌ، أوصى صنّاع بلاطه بأن يجعلوا للثور هيئة يصعد منها الدخان على شكل غيوم عاطرة من البخور. هكذا كانت صرخات الألم التي تمزّق حناجر الضحايا تشنّف أذني الامبراطور فالاريس كأنها الموسيقى، ورائحة اللحم المحترق تبعث به وبحاشيته إلى عوالم ساجية من النشوة. وبعد ذلك، بعد انتهاء الوليمة، كان فالاريس يفتح الثور النحاسي بنفسه ليلتقط من جوفه عظام الضحية التي تلمع كالجواهر، ويوصي صاغته بأن يصنعوا منها القلائد لنساء العصر...
محمد تغلق شاه: البحث عن العزلة المطلقة
أعظم ما كان يُنقم على السلطان محمد تغلق شاههو إجلاؤه لأهل مدينة دهلي عنها. وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق فيها شتمه وسبّه. ويكتبون عليها quot;وحق رأس خوند عالم ما يقرؤها غيرهquot;. ويرمونها بالمشور ليلا. فإذا فضّها السلطان وجد فيها شتمه وسبّه. فعزم على تخريب دهلي، واشترى من أهلها جميعا دورهم ومنازلهم ودفع لهم ثمنها، وأمرهم بالانتقال عنها إلى دولة آباد التي كان يحلم، دون جدوى، بأن يتخذها عاصمة ملكه. فأبوا ذلك. فنادى مناديه ألا يبقى احد بعد ثلاث. فانتقل معظمهم واختفى بعضهم في الدور. فأمر جنوده بالبحث عمن بقي فيها، فوجدوا في أزقتها رجلين، أحدهما مُقعَد والآخر أعمى فأتوا بهما إلى السلطان فأمرهم أن يُرمى المُقعد بالمنجنيق، وأن يُجر الأعمى من دهلي إلى دولة حيدر آباد مسيرة أربعين يوما، فتمزق في الطريق ووصل منه رِجله. ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعا، وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها. فصعد السلطان ليلة إلى سطح قصره، فنظر إلى دهلي وليس فيها نار ولا دخان ولا سراج، فقال: quot;الآن طاب قلبي وهدأ خاطريquot;!
نمرود: الطغيان الطامع وعقابه المخيف
في ليلة من ليالي نشوة الانتصار على الأعداء، رأى كنعان بن كوش بن حام بن نوح مناما مخيفا يصرعه فيه رجل قائلا له: quot;إني شؤم على أهلي. مسكني الظلمة، وإني خارج من خلفك ndash; هذه الظلمة- إلى ضوء الدنياquot;. انتبه كنعان مرعوبا إلى حد استدعاء المنجمين لعلّ تفسيرا يسكّن من روعه. اخبروه بأن مولودا آت سيكون على يديه هلاكك وزوال ملكك. وهو الآن في بطن أمه، ثم انصرفوا عنه إلى حال سبيلهم. ولما آن على سلخاء الراعية الحملُ في تلك الأيام، قال لها: quot;يا سلخاء هذا الذي في بطنك ليس بآدميquot;. وأراد كنعان أن يدوس على بطنها ليقتل ذلك الطفل. وإذا بهاتف يقول له اردع عما عزمت، فما لك سبيل عليه، فترادع كنعان عن ذلك. وما إن انقضت أيام، حتى وضعت سلخاء ولدا ذكرا أعبس، خرجت حيّة رقيقة من حجرها ودخلت في أنفه. ففزعت سلخاء إلى كنعان مخبرةً إيّاه بما حدث. فقال لها دعيني أقتله، فقالت له: يا مولاي لا يطيب على قلبي قتله لأنه ولدي على كل حال. فقال لها: احمليه، إذن، إلى بعض المواضع البريّة. اطرحيه هناك حتى يموت. فطاوعته على ذلك وحملته ليلا الى خارج البلاد. أتت به إلى جانب نهر بعيد عن المسالك، فوضعته ومضت عنه. فجاءت نمرة تريدالماء لتشرب فوقفت عليه، فأرضعته. فألف الطفلُ تلك النمرة حتى كان بحيث إذا هي أبطأت عنه، اشتد بكاؤه فطارت إليه وهكذا صار لها ذلك عادة إلى أن اتفق في يوم ما أن مرّت امرأة تريد الماء، فرأت النمرة وهي ترضع الطفل، ارتدت مدهوشة إلى القرية وأخبرت الناس بما رأت. فخرج الناس غير مصدقين واتوا المكان وإذا بهم أمام الأمر الواقع. أخذ أحدهم الطفل وسمّاه نمرود باسم تلك النمرة التي أرضعته. وما زال ينمو طفلا شريرا حتى بلغ سبع سنين فزاد شرّه فشكوا منه الى أبيه فلم يقدر على منعه من الأذى، فوصل إلى حاكم القرية خبره، فقرر نفيه من القرية. وسرعان ما بات قاطع طريق، يسرق أموال الناس. أرسل كنعان إليه قائدا بعد قائد، ونمرود يكسرهم فتسامت به أهل الشقاوة، فأتوا إليه من كل جانب حتى صار زعيم جيش هائل العدد يمخر كأنه أسطول التاريخ عباب الأرض صوب مدينة quot;كوثرياquot;. فكانت الحرب الطاحنة، قتل نمرود كنعانَ وورث ملكه دون أن يعلم أنه أبوه. واختص سلخاء الراعية لنفسه وضاجعها جاهلا أنها أمه. وأجاعه العسكر فأخذ يعيث شرا وفسادا ويغزو العالم تدميرا وفتكا. وقتل كل ما ظفر به وملك ملكه واحتوى على حزانته. وهكذا ملك نمرود مشارق الأرض ومغاربها.
وذات ليلة، حلم بقصر ليس له مثيل في التاريخ. فأمر وزيره آزر، والد النبي إبراهيم، فأكمل هذا قصرا وجعل حصاه من المعدن وأجرى الى القصر الأنهار وغرس من حوله الأشجار وجعل فيه أربعة أنهر؛ نهر ماء ونهر لبن ونهر عسل ونهر حمر، وجعل فيه أشجارا من سائر الألوان وجعل عليها طيورا مكورة مجوفة، إذا هبت الريح عليها دخل في الأجراس المثبتة في أجوافها، ويخرج من ادبارها فتتحرك الأدراس، فيخيل للناظر أنها تنطق بسائر اللغات المختلفة. على أن نمرود طاغية لم يكفه حكم الأرض وقهر سكانها تحت سياط نزواته الشريرة، قرر احتلال السماء والتدخل بشؤون الملائكة والشياطين. أخذ أربعة أفراخ من أفراح النسور، فرباهن باللحم والخمر حتى اذا كبرن وغلظن واستعجلن، قرنهن بتابوت، وقعد في ذلك التابوت ثم رفع رِجلا من لحم لهن، فطرن به حتى إذا ذهبن في السماء، أشرف ينظر الى الأرض، فرأى الجبال تدب كدبيب النمل، ثم رفع لهن اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنه فلْكة في ماء، ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة. فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته ndash; إذ لم تكن السماء سوى أمداء بلا نهاية ndash; ففزع فألقى اللحم فاتبعته منقضات، فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعن حفيفهن فزعت الجبالُ، فتدحرج به التابوت إلى الأرض. فولى هاربا إلى قصره. أغلق الأبواب وأرخى الستور. وبينما كان يفكّر بالثقب الأسود الذي تراءى له في عمق السماء، تخللت بعوضةٌ الستور والأبواب، قعدت على جبهته ولدغته، فمسكها بيده وهم أن يقتلها فطارت وقعدت هذه المرة على شفتيه فأراد أن يمسكها فدخلت إلى أحد منخريه صاعدةً رأسه، متوغلة في مخّه، تخمش فيه حتى حرمته لذيذَ النوم. راح يضرب برأسه الأرض. وأرحم الناس به هو من يخلع من رجله المداس ويدقّ به على أم ناصيته. ودام على ذلك الحال ليال وأياما، حتى رقّ جلده وانتفخ رأسه ومات.
quot; ينبغي على الطاغية إذن أن يميّز بنظرة ثاقبة كلّ الذين يتصفون بالشجاعة والشهامة والتبصّر والغنى. وهو، شاء أم أبى، مضطرٌ إلى محاربتهم جميعا وإلى أن ينصب لهم الشركَ؛ إلى أن يطهّر منهم الدولة. افلاطون |
التعليقات