لا أتذكّر كيف اكتشفت الفيلسوف الألماني ثيودور ادورنو. لكن أعرف متى: في نهار من نهارات منتصف سبعينات القرن الماضي، في مقهى باريسية صغيرة، وأنا أتصفح كتابا حول الهولوكوست، جاء فيه اعتراض ضد ما صرح في كتابه quot;الجدل النفيويquot;: quot;بعد أوشفيتز كتابة الشعر فعل بربريquot;. هل كنت متعاطفا مع أي شيء يقوله ادورنو عندما قرأت هذا التصريح؟ هذا أمر لا أستطيع إيضاحه... لكن جملته هذه صعقتني، ليس بالمعنى السياسي اليهودي، ولا بمعنى الشعراء الصغار بأنه يجب التوقف عن كتابة الشعر، وإنما بالمعنى الكهربائي فعلا: الشعر كمبدأ اللغة الأعلى؛ وبالتالي فلا يمكن الكتابة، بعد إبادة بهذا الحجم، بنفس الوجدانية الغنائية الجمالية البريئة. ذلك أن الجريمة تركت بصماتها على اللغة الشعرية نفسها، ومزقت هُوية الشعر التقليدية. وأصبح الشاعر يعيش حيث الموت. وهكذا صار ادورنو، بسبب جملته هذه، دليلي الثقافي إلى اليوم. وليس غريبا أن أكون أول من كتب، بالعربية، مقالا عن مدرسته المسماة بمدرسة فرانكفورت، ونشر، بحلقتين، في الأسبوعية الباريسية quot;النهار العربي والدوليquot; عام 1978. لادورنو طريقة كتابية جد دقيقة: اختراق الموضوع بحدس نقدي يتجاوز بُعدي الأمر إلى ما وراء الثنائية مميطا اللثام عن حقيقة المعارض: quot;البربرية السائدة ليس من المستبعد أن تُجابه ببرية مماثلةquot;... وها هو يصرح مرعوبا، عندما سمع طلاب ايار 68 بأنهم يعملون على تحقيق أفكاره،: quot;لم أتصور، أبدا، أن أفكاري ستتحقق بقنابل المولوتوف... لم أصف أية طريقة عمل، فأنا لست سوى منظرquot;. وهذا الاحتواء الطلابي لأفكار ادورنو يكشف عن العلاقة ذاتها بين النص والتأويل. ومن الجائز أن يكون التأويل، أحيانا، بمثابة تذكّر للمعنى الحقيقي للنص، غير انه يبقى أسير التاريخية التي ساعدت على إنتاج هذا النص.

الكلام عنه يحتاج الى مقال طويل، لكن الآن، هنا محاولة صغيرة من خلال جملته الخطيرة: quot;في التحليل النفسي، فقط المبالغات هي صحيحةquot;. ورغم أننا نعيش في ردهة عالم يتحكم به طغاة مجانين، لكنني لست بالمحلل النفسي لأفسر جملته تفسيرا نفسيا، فأقول أن المحلل النفسي لا يضع إصبعه على الجرح النرجسي إلا بلغة مبالغ في تشخيصاتها... بحيث ما إن يسمعها المريض، حتى يشعر بصدمة فيرفض تصديقها. ومريضنا اليوم هو سوريا وخلوها من أي احتجاج.

أي كائن له ذرّة عقل، سيستغرب من هذا الصمت المشكوك فيه للشعب السوري بعدم الاحتجاج، خصوصا أن النظام السوري معروف ببطشه ودمويته التي تتجاوز حتى quot;الزنقة الزنقةquot;... ويكفي أنه لا يوجد سوري لا يشير إلى جرائم هذا النظام، في أي حديث معه، بل هو كسوري يتوسل أن يبيّن لك بأنه يعيش في ظل حكم قاتل.هناك من يقول أنالشعب السوري جبان؟ لا أعتقد، هذه إهانة عنصرية لا مكان لها هنا.

في كل مجتمع ثمّ صمام أمان وصمام انفجار. صمام أمان الوضع السوري: نشر الخوف تكيّفا حرباويا على نحو يخلق إنسانا ذاكرته تمحو فيه آليا، كل ما يغتاض النظام منه، بل يميت الذاكرة دون أية مجابهة معها ودون أن تصفي هي حساباتها مع النظام. أما صمام الانفجار فهو الأقلية المضطهِدة فعلا: الأكراد. فأخبار هؤلاء كانت دائما تشير إلى أنهم على حافة الاحتجاج، وأنهم البركان الوحيد الذي يخشى النظام السوري من انفجاره (1).

ومع ذلك، فإن الأكراد لم يحرّكوا، حتى الان، ساكنا، مع أن احتجاجات مصر وتونس أتاحت لهم الفرصة في وضح نهار الفيسبوك، ولأيام عديدة! لا بد أن يكون هناك مانع، برغي قوي وضعه السوريون لضبط آلة نظامهم الصارم.

النظام السوري له عسكر فاسد، رجال أمنشوهوا صورة الإنسان السوري. بربرية هذا النظام مجمّلة بصفته العدو (الوهمي) لإسرائيل، وإسرائيل لا وجود لها من دون عدو وهمي! ولا تستغرب أن يجيبك الإسرائيلي إذا سألته: quot;أي مكان آمن في إسرائيل؟quot;
- : quot;الحدود السورية الإسرائيليةquot;!

في نظام كهذا، أية معارضة يحتضنها من بلد آخر تصبح رهينة. وللمخابرات السورية المتتبعة لكل شاردة وواردة سجل عنها، بل حتى لهذه المخابرات صور تدين هذه المعارضة عندما لا تلبي الأوامر!

والآن لنسأل على نحو مبالغ: هل من الممكن تصور لجوء بشار الى شخصيات كردية عراقية بارزة يتصور ان لها تأثيرا على أكراد سوريا، مطالبا إياهم بأن يردعوا الأكراد من القيام بأي تحرك أو احتجاج غير مرغوب ضد النظام السوري... وطبعا كعادته، لا يطلب إلا مع تهديد وابتزاز مبطنين؟

إنه مجرد تصور (وهمي قدر وهمية عداء بشّار لنتنياهو) من باب quot;في التحليل النفسي فقط المبالغات هي صحيحةquot;، عل التفكير به يدلنا على السبب وراء عدم تحرك الشعب السوري إزاء نظام... حتى أسوأ النعوت تستنكف أن تُطلق عليه.

1- رغم كل الاحتياطات التي اتخذها إزاء أي تحرك، يبقى النظام السوري قلقا من أي تململ في صفوف أكراد سوريا... وإلى حد يضطر معه أحيانا إلى فبركة أخبار، كهذا الخبر الذي نشرته وكالة quot;ساناquot; السورية قبل أمس، مفاده: أن quot;أحدى الجهات المختصة في سوريا ضبطت سيارة عراقية يقودها شخص عراقي الجنسية محملة بالأسلحة والمتفجرات، كانت في طريقها إلى سوريا، وانه تم توقيف السائق العراقي quot;أ. ع.quot; الذي يقود سيارة نوع quot;مان برّادquot; عراقية تحمل اللوحة quot;52154 سليمانيةquot; تعود ملكيتها للعراقي quot;ن. د.quot;، أثناء دخوله الأراضي السورية عبر مركز التنف الحدودي، قادمة من العراقquot;. من صياغته، يبدو أن هذا الخبر مفبركا، غايته إيصال رسالة موجهة الى أكراد سوريا... فأية جهة يا ترى ذات نفوذ في بغداد تجرؤ على إرسال أسلحة إلى سوريا....
والرسالة الثانية التي يحذر فيها النظام السوري أكراد سوريا، اتضحت بموقفه الناشز من قرار quot;فرض منطقة حضر جوي على ليبياquot;!