سيذهب القذافي إلى حيث ألقت. أما كلمات من كتبوا عنه، قاصاً ومفكّراً استثنائياً، فستبقى لتلاحق كاتبيها بالعار إلى الأبد. مئات من مثقفي السلطان كتبوا عن الطاغية وقبضوا، لكنّ الطاغية كان أذكى منهم، فجمع المكتوب بين أغلفة ونشره على الملأ. تُرى بماذا يشعر الآن هؤلاء البؤساء؟ وكيف لهم أن يخفوا عارهم، بعد انكشاف المستور؟ أظنّ أنهم يراهنون في القادم من السنوات على ضعف وميوعة ذاكرتنا كقرّاء. لكن هيهات.

لقد تعلّمنا الدرس!
ذات يوم، في الثمانينات على ما أذكر، جاء غالي شكري في زيارة لليبيا، وفي حديث شفوي مع quot;الأخ قائد الثورةquot; أطرى الكتاب الأخضر بحميّة وحماس، فما كان من quot;الأخ القائدquot;، إلاّ أن زنقه: هل أنت مستعد لقول ما قلت على التلفزيون مباشرة؟ ولم يحر شكري جواباً غير نعم. وهكذا سمع الكثيرون منا تقريظ غالي شكري للكتاب الأخضر في بث حي ومباشر. قيل يومها من بعض العارفين ببواطن الأمور، إنّ العقيد نقدَ شكري 25 ألف دولار كاش قبل أن يغادر مبنى التلفزيون. عاد بعدها شكري إلى باريس راضياً مرضياً، معوّلاً على ضعف وميوعة ذاكرتنا، تحت ذريعة أنه حديث تلفزي quot;غير مكتوبquot; وسرعان ما سيُنسى. تلك كانت أخلاق غالي شكري، لكنه بالطبع لم يكن فريد عصره، فثمة جحافل من المثقفين العرب تتمتع بالأخلاق ذاتها : من صحفيين ورجال إعلام وأدباء وشعراء ومفكرين. ليس أولهم إبراهيم الكوني (الذي قيل لي في لوديف 2005، من أحد الشعراء الليبيين، إنه حين يزور ليبيا، يُعامل ك في آي بي VIP، من المطار حتى انتهاء زيارته ومغادرته المطار)، ولا آخرهم أحمد إبراهيم الفقيه، وكوليت خوري وسواهم. فالدكتاتور، بطول المدة، يصنع مثقفين على شاكلته. هو الوجه وهم القفا. فإذا ذهب انقلبوا عليه. وحاولوا تزييف الوقائع والحقائق، دون أن يحاولوا الاعتراف بخطاياهم وطلب الصفح والغفران. ذلك أنهم، مثلهم مثل سيدهم، يفتقدون لثقافة الاعتراف بالخطأ ومحاسبة النفس، أو ثقافة الاعتزال والكفّ عن البثّ، تكفيراً عن هذه الخطايا أو جزاءً لما اقترفوه من جريمة تزييف الوعي العام.
الآن يحاول الكوني ركوب الموجة، فيما الفقيه سبقه وركبها، أما الديناصورة كوليت خوري، فأفضل حالاً [ التزمت الصمت حتى كتابة هذه السطور]!
حاجة مسخرة بالطبع. أقرب إلى الهزل الماسخ منها لأي توصيف آخر. لكنه هزل دفع ثمنه أبرياء كثر بعدّ وعدد شعوب، فكان الإسم الثاني للمأساة. شعوب استيقظت فجأة، لتعرف مقدار ما كانت تحياه من فوات تاريخي واستنقاع وجودي وانمساخ بشري. مقدار ما خُدعت به ليس من قادتها المحليين الأسوأ من الاستعمار، بل ممن كانت تعتبرهم مثقفيها ورُسُل ضميرها والمعبرين عن آلامها وآمالها.
إنه الحال ذاته في كل بلد عربي على حدة. ويا كم تتشابه بلداننا. حتى في فلسطين الجريحة والمحتلة (فلسطين التي ما زالت تحت بسطار الاحتلال) ثمة مثقفون فقدوا برقع الحياء، وصاروا يتبارون ليس في مديح عبقرية الطاغية فحسب، بل في مديح عبقرية ابنته الوحيدة، وهي بعد لم تزل طفلة! روائي معروف فعلها أمام روائي يحسده quot;على النعمةquot;، فجاء الأخير ليحكي لنا مهازل الروائي الوزير!
طبعاً، ففي ثقافة مجتمعية وسياسية مثل هذه، لن نتوقع أن يخرج أمثال آينشتاين، وإنما فقط هذه الأشباه والمسوخ.
جابر عصفور، على سبيل المثال لا الحصر، قال في تبريره لقبول منصب وزير الثقافة في حينه [إنه لا يستطيع ردّ طلب للرئيس، ولا يستطيع عصيان أوامره] ليش؟ ألأنه إله يعني؟ يا أخي ثمة كثر يعصون حتى أوامر الإله!

إننا نطلب من هؤلاء وأمثالهم، أن يتواروا عن المشهد فقط لا غير. أن يحترموا عقولنا البسيطة فيكفّوا عن تصدير الأذى والسوء إليها. فيكفي ما خدعونا به من كلام منمق عن التنوير والثورية إلخ.
أن يتواروا عن المشهد لا أكثر، فلا يعاودوا الكتابة وتقريع آذاننا بالموال ذاته : بالبضاعة الكاسدة ذاتها.
فما داموا جبناء وانتهازيين كقادتهم، وغير قادرين على الاعتراف بالخطأ، فأقلّه أن يسكتوا ولا يعاودوا البثّ والكتابة.
ذلك أننا تعلّمنا الدرس.
تعلمنا الدرس.
ولا يُلدغ قارئ، بعد هذه التوسنامي، من جحرٍ مرتين.