* رجلٌ يتنهّدُ في بومباي، وصديقي يسمعهُ في تونس. من قال إن الأنبياء ذهبوا إلى غير رجعة ؟ إن يكن ذلك حقاً فما الذي نفعله هاهنا؟ وما نحنُ؟ مَن نحنْ؟ في الهزيع الأخير من الليل، في الهزيع الأخير.. والمراكبُ ساكنةٌ في البحار، يولد الشعراءُ من نور عذابهم ليُطوّبوا أنبياءً على هذا العالم.
* مَن يصوّبُ معناك؟ على نفحة موسيقى جنائزية على مولد دمعة تهوّمُ على ترابٍ ولا تراب تحت يقطينةٍ ولا يقطينة تجلسُ ذهبوا إلى غاياتهم مالاً وفرْجا يحيون ولا يحيون قطارات كثيرة تُعوِل خلف الأفق حدود ومطارات وأجوبة إلاك تسأل إلاكَ تحملُ من بغاء جوابهم عبءَ السؤال منَ يصوّب معناك؟ في الغسق المترامي في ربيع النهدين وهما مستقبلٌ في دمها المريض، آخر دورة القمر المعشوشب من يصوّب معناك؟
* وكما يقطر الماءُ من خرقةٍ بالية يقطر الآن حزني. خرجتُ من فندقها، متسحّباً كلصّ كسيفاً، مثقل الخطى وكانت المدينة العوراءُ في انتظاري وكان ليل. لم أقطف الزهرة وما بلغتُ اللؤلؤَ المكنون.
* أُفسّحُ أَلمي: نذهبُ معاً في مشوار الحقول فتضربنا الشمسُ.. وإذ نعود، أُكلّمه عن زهرة اليقطين النابتة فيكلمني عن هراطقة دستيوفيسكي! ليس عدلاً أيها السيد! ليس عدلاً أنا أُفسّحك في البراح وأنت تُعيدني لكآبة الكتب! * جسدي وروحي والأذى الأبديُّ بينهما. * أرى، ريثما أُصابُ بالعمى. أسمعُ، ريثما أُصابُ بالصمم. أتكلّمُ، ريثما أُصابُ بالبُكم. أرى، أسمعُ، أتكلّم ولا أنزلُ بوصةً : لا أتأمّلُ ففي الوقت ثمة متسعٌ إلى أن ينزل ليلُ العالَمِ الكبير. وفي ذلك الليل الكبير بجناحيه الحاضنين الكون ثمة في كل ريشةٍ، ما يكفي، لأصير حكيماً، ولو على نحو تقريبيّ. على نحوٍ، تعوضني فيه الحكمةُ عن بعض أو كلّ عماي. * النورُ أنتِ وأنتِ برحاءُ هذا العذاب لمن أشكو لا أحد معي ليلاً غير الطيور والأشجار الطيور والأشجارُ تحلمُ وأنا أخجل من الشكوى أمام الحالمين. * الذين يكتبون بعد الثانية من كل ليل الذين يمشون بين الناس مسكونين بفكرة أن يُقتلوا على حين غرّة الذين ساعةٌ من الموسيقى تكفي لتنزل دموعهم تكفي ليعرفوا أنهم ظلالٌ تمشي على أرض ليست مضمونة هؤلاء أو جامعو الرماد * منذورٌ لأكتئب. كل ما صنعه البشر لا يروق في عينيّ. وحتى ما هو فطري وطبيعي. لديّ ملاحظاتٌ جادّةٌ عليه. منذورٌ لأكتئب. * كفي عن الذهاب والمجيء حمقاءُ حقاً هذا شأن من يكبرون سهواً لا تذهبي ولا تجيئي هذا شأن مَن يشيخون فجأةً لا تذهبي ولا تجيئي هذا شأن من يهرمون على حين غفلة * مشرعٌ على جميع الآفاق. يأسي. أنا لا. أنا قابع في غرفتي. طافي الضوّ، ولابِدٌ تحت السرير. * العالم قُلبَ رأساً على عقب. ليس من التفلسف. ليس من التأمل. ليس من التحديق في السقف، ثم الكتابة. ابحثوا عن الأسباب الحقيقية، بعيداً عن هذه المناطق. وإذا فعلتم، فنتمنى لكم، جرأة أن تقولوا الحقيقة، دون أن يطرف لكم قلمٌ، أو يُخرّف في حلقكم لسان. * مصيرنا واحد أيتها النخلة في إبهام الوجود مُتصالبانِ نحن أمام طاغوت الليل المُغير * يروق لله أن يعبث بمصائر البشر يروق للبشر أن يضيّقوا على أنفسهم تروق للحياة أن تأكلهم كماكنة يحدث لي أن أغضب دائماً من قوانين اللعبة يحدث لي أن أبكي قليلاً بعضَ الأوقات * أقدار فرّقتهما، ومدنٌ نأت بهما. ماذا يفعل عاشقانِ ليهزما شرطَهما الموضوعيّ؟ هي لم تسأل، ولا هو. فالعشق أجلُّ من السؤال، وأخطر من لعبة اللغة. أنا الذي أراهما وأتعذّب أنا الذي خبرَ هشاشة القلب البشري أعلى حجابهما الحاجز أعرف كيف يحسّان وكيف يعبّران عن كل هذا بِبُكمٍ حارق. أنا الذي أسألُ يا ألله.
* يدي توجعني أجل. الكتابةُ مرضٌ الكتابةُ قضيبٌ خاثر. يدي توجعني فلا أقدر على تحريكها، حتى لكي تحمل ندف الذكريات.
* أيها الجسد يا مُجمّعُ لذّاتٍ وخيبات هل آنت اللحظة؟ هل آن أن يهبط وعلٌ عن ظهر الجبل؟ ألحظةُ الغروب الكئيب بشفقها وبرودة ما يأتي بعدها هيَ؟ أيها الجسد كم كنت طيباً كم كنت مطواعاً والآن يا وحيدي إنها لحظة الغروب تدخل إلى بيتنا معاً أنت وأنا
فلا رادّ لها ولا أنيس سوى التذرع بالقول [وهو قولٌ حقيقيٌّ، تقريباً] أننا أنا وأنت يا ولدي أخذنا نصيبنا من الخبز والموسيقى نصيبنا من النساء والكتب نصيبنا من الجَوَلان. ولم يبق لنا سوى تأمّل لحظة الغروب هذه وهي تنزل الآن، ناعمةً برتقاليةً قليلاً وسوى بعض النبيذ القليل للمساء القليل. قبل ما تأتي، بملمسها المشعّر، يدٌ ما، لا يهمّ أيدُ ملاكٍ أم شيطان فتُنزل الستارة وتُغلقُ الشباك.
* وما الذي أخذوه بعد كل شيء؟ البروفيسور والوزير والحوذيُّ وناكح النهدين كلهم، كلهم ذهبوا إلى عتماتهم.
* أناديكِ نادِني أنتِ أيضاً. لو فعلتِ، أبداً لن تكون أُذني صماء. نادِني في جبّ هذا الليل. الكلّ نائم سواي الكل لا ينتظر شيئاً ذهبوا إلى أسرّتهم، حتى الأشجار. وحدي على الشاشة المفتوحة وحدي في عراء الكلمة الرقمية وحدي، كما رسولٌ. نادِني. سألقف صوتك، بُحتَهُ، ستنزل برداً على جحيم قلبي جحيم هذا الانتظار : شاعرٌ أمام شاشةٍ 3 صباحاً في الخمسين من رماده ينتظر إشارةً رجفةً في تيار الهواء ثُم صوتكِ صوتك، الأوحد، الطري، المتحشرج، المعدني نوعاً، الذي أخضرٌ هو، خضرة غابة التيه. نادِني نادني نادني. نادني نادِني وقسماً، سأقطع نحوك بحرين، وسماواتٍ، ونساءً وسأقطع قلبي.
* زرنيخ وزنزلخت زرنيخ لمن يوتوبياهم خلفهم وزنزلخت ليأكلوا ثلاث مرات في اليوم أما لماذا الزرنيخ والزنزلخت دون سواهما فلأن وقعْهما ملأ كل فمي أحرف سيئة غريبة كصرصور في الفم تليق بهؤلاء السيئين الغريبين
* أعطني الصابونَ واعطني الموسيقى لا تعطني واحدةً وتبخل بالثانية لكي أغتسل من كل أدراني [ما فوق الجلد وما تحت الجلد] أحتاج كلتيهما لكي أذهب إلى فراشي ناضراً وخفيفاً كغيم الخريف أحتاج كلتيهما لكي أعامل الناس بأقصى الذوق أحتاج كلتيهما ولكي أموت حين أموت راضياً مرضياً أحتاج كلتيهما أمي علّمتني حبَّ النظافة آن كنتُ طفلا والموسيقيون آن اكتهلتُ علّموني الباقي
* بكرةً وأصيلا أصيلاً وبُكرةً ولا شيء بينهما لا هدفاً ولا غاية زهور الحديقة تنمو من تلقاء نفسها القطةُ تتمطّى من تلقاء نفسها وأنا أذوي من تلقاء نفسي أيضاً هكذا أحيا هكذا تحيا حديقتي وقطتي نتدبّرُ أمورنا دون تدخّلاتٍ من نورٍ أو عتمة
* عادوا من المقبرة بنعشٍ فارغ وأنا بعين الطفل ما زلتُ أسأل : لمَ لم يعد معهم؟ هل تأخّر لموضوعٍ ما؟ هل راق له أن يشرب كأساً من الشاي الثقيل هناك؟ هل أخّره أحد أصدقائه الثقيلين أيضاً؟ لمَ لم يعُد؟ الحادية عشرة مساءً أقصى ما هو مسموحٌ لنا بالسهر فلمَ لم يعد؟ ولمَ هذا البكاء المكتوم في عيون العمّات؟
* ذي عتماتك لا أمهاتٌ ولا يُشبهن. في المُلمّات، تقسو كأنما أخو برابرةٍ. كيف لي أخدع ذاتي وأبدأ المديح؟ لا سرداً ولا قافيةً ما العلاقة! لأمدحنّكَ يا سيدي، أحتاج دفءَ العش أعلى الشجرة أحتاجهُ بين فخذين أنثويين. سيدي! هو ذا وصفك: [ليلٌ آخر موصلٌ إلى تيهٍ أخر] فلا تطمعن بسذاجتي، ولا تأملن في كرم شعراء طيبين.
* آثار خطواتكِ إمّحت عن خشب الحانة. إمّحت عن أسفلت الشارع الموازي. إمّحت عن بلاطات المدينة كلها. لتبقى ها هنا : على رخام قلبي. كلا لن أقول خطوات الملكة. بل أقول خطوات الفراشة التي من لحم : بطقمها الأحمر، وسنواتها العشرين، وابتسامتها الوجيزة. التي من حلم. كأنك مضيفة الله شخصياً، نزلتِ من سويته الخاص، لتشعلي عطش المفتونين بقوامك : قوامك الذي، في طقمه الأحمر، كان كلّي السطوةِ وكامل البهاء.
* يا صبية حيث تلتفتين، على غير قصدٍ، رجاءً : خففي من سحرك! في الجانب الآخر، ثمة متذوّقٌ للجمال.
* كل إيماءة منها تعصر قلبي كأنه ليمونة في يد جِلف. أربعون عاماً اكتسبتُ خلالها حصاناتٍ كثيرةً حصانة ضد المال وأخرى ضد القبح حصانة ضد العائلة ومثلها ضد التاريخ إلا هذه : حصانتي ضد الإيماءات.
* بحواسّكَ الخمس وبمداخل جسدك الثمانية جاهدتَ طويلاً وعميقاً لكنك لم تحظ بالجوهري. آلافُ الليالي ومثلها أرتالٌ من النهارات صنعتْ من حياتك كُتباً نصبتْ شباكاً بين سطورها لكنها لم تعطكَ الجوهري. وها أنت ذا في لحظة الغروب القانية لحظة الحقيقة تتهيأ لقولٍ لا يألفهُ عادةً متنطّعو بني جلدتك : إنّ الرحلة توشك على الانتهاء وإنكَ لتعود منها حقيقةً بيدين فارغتين.
التعليقات