مزحة ثقيلة
كان في تلك الساعة المتأخرة من الليل، كما الغريق في بحر هائج. الكآبة كانت قد مدّت بجذورها في كل مسام من مسامات جسده الواهن. ففي هذا اليوم من كل إسبوع عليه أن يعمل في المساء، ويبقى يقضاً طوال ساعات الليل البطيئة الحركة جداً.
جاء صوتها عبر ذبذبات الهاتف الخلوي، يحمل بين ثناياه مسحة عتاب. كانت العصبية تشوب كلماتها، عندما رفعت نبرات صوتها، معاتبة إيّاه على عدم رده على مكالماتها، ومن ثم تجاهلها كلياً. لم يكن قد سمع شيئاً، وكيف يرد إن لم يكن قد رنّ هاتفه. أصرت على أنه تجاهلها عن قصد، مضيفة على ذلك بأنها إتصلت ثلاث مرات، وليس مرّة واحدة، وما من رد. أقسم على أنه لم يسمع أو، على الأقل، لم ينتبه لذلك. وأما هي فلم تشأ أن تلين، ولو حتى، قليلاً، متهمة إياه بالتحدث، ربما، مع أخريات، وبأنها، في نهاية الأمر، لم تعد تتحمل كل ذلك. أعاد عليها القول بعدم سماعه صوت الهاتف وهو يرن. لكنها أصرت على كلامها وتركته وحيداً، غارقاً في كآبته، في مزحتها الثقيلة، وفي خضم ذلك الظلام الدامس، من الليلة الكئيبة، متمنية له نوماً عميقاً وأحلاماً سعيدة.

رعب
حملقت في عينيها الطفوليتين، ورغبة جامحة تكتسحها لسبر أغوارهما، وفي الوقت ذاته، تحسّ كما لو كان الخوف مزروعاً في جوفهما. لم ترغب في أن تتدارك الأمر، فسألتها إن كانت على ما يرام، فردت عليها بالإيجاب. لكنها لم تطمئن لجوابها. وكان عليها أن تعيد سؤالها كرّة أخرى، ولكن هذه المرّة لم تخف الصغيرة هواجسها، قائلة بأنها تخشاها، وليس ثمة ما يدعو الى الإطمئنان من ناحيتها وبأنها، مذ ولدت، تبدو كما الكابوس المرعب، والجاثم على صدرها على مدار الساعة. وأما هي، ففي لحظة خاطفة، راحت تسترجع ظلام حياتها التي كانت قد إتشحت، في زمن ما، بلون الموت القاتم. حينها، سكتت ولم توجّه للطفلة كلمة تنم عن عتاب أو لوم على ما قالته.

المقص
كلما إستغرق في عملية البحث عن متنفس ما، قدّام جهاز الحاسوب، في محاولة منه لوضع حدّ لعملية المخاض التي يخضع لها بين حين وآخر، تكون هي واقفة له بالمرصاد، في كل مرّة تراه منسجماً مع أفكاره، لتفتعل معه حواراً طارئاً، تحشره في حديث عقيم، لا معنىً له. وكل ذلك بسبب الغيرة التي تثور في داخلها، ومن ثم تنفجر، كما البركان الهائج والمدمّر لكل ما حواليه. وأما هو، فيمكث ساكتاً لوهلة قصيرة، لا يتفوه بكلمة. ومن ثم يترك، بعد ذلك، كل شئ جانباً.
هذه المرّة لم يشأ أن يسكت. ففي اللحظة التي كان قد غاب عن عالمه المحيط به، غارقاً في بحر من الكلمات، والصور، والخيالات الجميلة، مرّ صوتها، المطعّم بكلمات الحب المصطنعة، عبر أذنيه، ليخترق، فيما بعد، شريط أفكاره، وليقطعها إربا إربا،
كما المقص وهو يمزق أوصال القماش. غير أن هذه المرّة لم تكن كمثيلاتها السابقات، وكان أن إنتفض بوجهها كوحش كاسر، مكشراً عن إسنان لم يصدف أن رأته، من قبل، في تلك الصورة. وإنزوى جانباً، تاركاً إياها تتخبط في بحر من الحيرة، المشوبة بهلع عميق.

سيدني ndash; استراليا / 2010
[email protected]