طريف يوسف آغا: قد يسألني البعض عن الهدف من هذه الأمسيات الشعرية التي أقيمها دوريا؟ كشاعر فانني أرى وبكثير من الألم أن هناك خصاما قد بات مستحكما بين الشعر المعاصر وبين عامة الناس. وهدفي من هذه الأمسيات هو تحقيق المصالحة بين الطرفين. فالشعر المعاصر وبسبب تعقيدات وصعوبة وهموم الحياة غرق في التعقيد وفي صعوبة المعاني والصور كما غرق في الرمزية والغموض. وكما أن الكآبة واليأس والتشائم باتت من أكثر صفات وأمراض العصر، فيبدو أنها أيضا انتقلت بالعدوى إلى الناتج الأدبي عموما والشعري خصوصا. فصار الشعراء اليوم يتبارون بقصائدهم في أي منها أكثر غموضا وصعوبة ورمزية دون أن ينتبهوا إلى أنهم بذلك ينأون بأنفسهم ويصعدون إلى برج عاج يبعدهم عن عامة الناس ويجعلهم أدباءً بلا جماهير. وإن واجهت أحدهم بهذه الحقيقة كان تبريره أن عامة الناس هي التي غرقت في هموم الحياة المعاصرة من جهة وفي الجهل الثقافي من جهة ثانية، فلم تعد هذه العامة بقادرة على تذوق أعمالهم، وبالتالي فإن هذه الأعمال ماعادت للعامة بل موجهة حصريا للطبقة المثقفة، العالية الثقافة من القراء والأدباء والنقاد. من جهتي ليست لدي مشكلة مع التجديد، ولا أعتقد أن لدى الناس مشكلة معه أيضا، ولكن إن كان التجديد سيكرس الغموض والصعوبة، والتضحية بالجمال والرونق، وإن كان الأدب سيخاطب العقل فقط ويتجاهل الروح والقلب، فلا شك أن عامة الناس ستنفض من حوله غير آسفة. وإذا لم يكن الشاعر بقادر على الأتيان بموضوع جديد فيأتي بموضوع سبق وتناوله غيره مع الحفاظ على سهولة المعاني وجمال الصور وروعة الموسيقا، فأين الخطل في هذا أن يطرق موضوعا قد طرق فيما سبق مضفيا عليه من طابعه واسلوبه وروحه وبصماته. هذا عنترة العبسي كتب في الفروسية والفخر، فلم يمنع ذلك شعراء أتوا من بعده مثل المتنبي وأبو تمام وأبو فراس وغيرهم ممن تناول نفس الموضوع وأبداع فيه باسلوبه وطابعه- ربما يأتى بما هو أجمل مما أتى به سابقه في نفس الموضوع.
إذا ً فكما تناول المواضيع المطروقة سابقا ً ليس بالضرورة فشلا ً أو عجزا ً، فإن تناول المواضيع الجديدة ليس دائما نجاحا ً أو بالضرورة إبداعا ً.
ولايسعني في هذا السياق إلا أن أستحضر من ذاكرتي واحدة من أروع لوحات مسرح الشوك السوري الذي ظهر في بداية السبعينات وقدمته مجموعة من نجوم الكوميديا وعلى رأسهم دريد لحام ونهاد قلعي ورفيق سبيعي وكانوا يصرخون على خشبة المسرح ببيت شعري:

الرياح أكلت أختي... وظلام الليل مضئ

فمن الواضح أن هذه اللوحة تنتقد النوع من الفن أو الأدب الذي يحاول أن يأتي بالجديد بأي ثمن ولاتعرف عامة الناس كيف تتعامل معه: هل تبكي أم تضحك؟ هل تبقى أم تذهب؟ هل تصغي أم تنام؟ هل تغضب لإضاعة وقتها أم تبتلع خيبة أملها وتلتزم الصمت وتتظاهر بالاستمتاع؟
وكلما تذكرت هذا النوع من الأدب، أستعيد النوع الآخر، وهو الذي يطرق القديم ولكن بإبداع، فنجد فيه ما لانجده في غيره. وإذا عدنا تحديدا إلى عالم الشعر، سنتساءل هل هناك أعمق مما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في الرثاء:

سلامٌ من صَبا بَرَدى أرق ُّ ودمع ٌ لا يكفكفُ يا دِمَشق ُ

هل هناك أقوى مما قاله أبو القاسم الشابي في استثارة الهمم والدعوة إلى التحرر:

إذا الشعب ُ يوما ً أراد َ الحياة فلا بد َ أن ْ يستجيب َ القدر

ولا بد َ لليل ِ أن ْ ينجلي ولا بد َ للقيد ِ أن ْ ينكسر ْ

وهل هناك أروع مما قاله نزار قباني في شعر المقاومة:

أصبح عندي الآن بندقية... إلى فلسطين َ خذوني معكم ْ

إلى ربى حزينة ٍ كوجه ِ المجدلية... إلى القباب ِ الخضر ِ والحجارة ِ النبية

يكفي أدباء النوع الأول أن الناس وبعد أن ابتعدت عنهم أصبحت أعمالهم مادة للسخرية أو التساؤل، ويكفي أدباء النوع الثاني أن أعمالهم وصلت إلى القلوب فوجدت طريقها إلى الكتب المدرسية والجامعية وإلى الصحف والمجلات ودور النشر وإلى الأغاني والأناشيد الوطنية. وهي أعمال طالما وقفت أمامها مسحورا، أستلهم منها وأحاول السير على خطاها بإعادة مواضيعها ومعانيها وجمالها إلى الحياة. هذا هو إذن وباختصار هدفي من الأمسيات التي أقيمها: إعادة حب الشعر وسحره إلى قلوب الناس.

هيوستن

* ألقيت هذه الكلمة في الأمسية الشعرية التي أقامها الشاعر طريف يوسف آغا في هيوستن \ تكساس- 10 تشرين الثاني (اكتوبر) واشترك فيها كل من الشعراء: جاد البابا وعيسى قنصل ورأفت البجيرمي.