بريشة محمد سامي

عزالدين ميهوبي: كان عليّ أن أخبئ هذه اللوحة في مكان لا تصل إليه العفاريت، ولا أعرضها على غيري خوفا من أن تمتد إليها يد الآثمين أو اللصوص ليلا فأفقدها إلى الأبد.. فأوصدت الأبواب وأحكمت إغلاق الشبابيك خوفا من ريح عابرة تتلف ألوانها، وأطفأت الأضواء حتى لا تلتفت إليها الفراشات فتتملكها الغيرة.. ووضعت عليها تمائم جلبتها عرافة الحيّ من حيث لا أدري..
إنها لوحة غير عادية، أسميتها quot;الجياد المفجوعةquot;، ولا أعرف أي اسم أطلقه عليها محمد سامي الطفل الذي يلاحق الأحلام الهاربة..
كنت أمنّي النفس بتحفة متفردة لتكون غلافا لعمل أدبيّ قريب من وجداني، وأبقيت على أمر لوحة المبدع المتألق محمد سامي طيّ الكتمان إلى أن استكملت ترجمة روايتي quot;اعترافات أسكرامquot; إلى اللغة الفرنسية كوني وجدت كثيرا من الأصوات تطلب مني ترجمتها العمل إلى لغة أخرى ليصل جمهورا آخر من غير عشاق العربية.. وكان ذلك. وعندما شرعنا في توضيب وتصميم النص، أخرجت لوحة محمد سامي أمام دهشة الفنيين الذين قالوا لي quot;أين عثرت على هذه التحفة..quot; فأجبت بثقة عالية quot;إنها هدية من صاحبها..quot; ولم أكن اتصلت بمحمد ولم أطلب منه إذنا باستخدامها، لكن شعورا ما كان يراودني بأن صاحبها لن يمانع.. لأنه عندما شرع في إنجازها في العام 2006 كان يخبئها في زاوية ما من وجدانه لكاتب لا يعرفه.. وفي يوم الفصل النهائي في حجم الكتاب وشكل الغلاف، قلت لمن معي quot;امنحوني ليلة لأعطيكم إذنا بالطبع أو تغيير الأمر كله..quot; ورحت أبحر في فضاءات quot;غوغلquot; بحثا عن محمد سامي وما أعز الأسامي، ولم يطل البحث كثيرا حين توقفت طويلا في موقعه، وأعدت مشاهدة إبداعاته quot;المجنونةquot; حيث استوقفتني كثيرا بعض اللوحات التي ما كان لها لتكون لو لم يكن صاحبها من سلالة سومرية طالعا من عباءة الحلاج وممتطيا صهوات أحصنة المتنبي..
بدا لي أن محمد سامي أنه مبدع قادم من كوكب آخر، لما يتسم به من قدرة فائقة في العبث بالألوان، وهي حرفة لا تتأتى إلا لمن أصيبوا بمسّ التفرّد والتجاوز.. فهو أشبه بمن يحرك يديه أثناء الحلم ليعيد صياغة رؤاه الطالعة من قبيلة عربية مفجوعة أو هوية متشظية أو تاريخ يقاوم الريح أو إنسان تبتلعه المنافي..
إن قوة التخيل، والقدرة في تمثل الأشياء، وتوجيه الريشة في أبعاد مفتوحة أو مغلقة، بدقة متناهية، لا يمكن أن يكون إلا بفعل موهبة تختزن رغبة في تغيير العالم، ولغة الألوان.
إن محمد سامي، الذي يدرك أن حوله عالم متغير، يسعى لأن يكون الثابت برؤيته للعوالم الصغيرة، ويمنح الناس لحظة من التأمل والفرح والدهشة، وربما يكتفي بابتسامة طفل عراقي المنبت، عربي الروح، إنساني الإبداع، ويقول quot;ماكو ألوان.. ماكو إنسانquot;..
بالرغم من أنني لست ناقدا تشكيليا، إلا أنني من الذين ينجذبون لإبداع فيه مسحة التفوق والتجديد، وفيه شيء من الحداثة التي لا تلغي التراث، وهو ما جعل أعمال الفنان محمد سامي تستوقفني كثيرا، وتدعوني إلى قراءات فيها من الإعجاب ما يطغى على محاولة البحث في فلسفة فنان نجح في هدم العلاقة بين اللون والحركة، بين الفكرة والتشكيل، بين المتخيل ودهشة المتلقي، ونجح أيضا في التأسيس لفن يأخذ الهويّة الكامنة في أعطاف الروح إلى عالم أرحب.. وبذلك يأخذ موقعه كفنان متميز، مكتمل الرؤية، يقيم جسرا حالما بين المسحة السريالية والبعد التراثي ضمن ما يسميه بـquot;الدخانياتquot;.. ورغم أن من صفات الدخان التلاشي في الكون، إلا أن كون محمد سامي يظل محاصرا بقدرته الفائقة في الإمساك بخيوط الدخان وتطويعها كيفما أراد، فيصنع منها عوالم المحبة والخير والفرح..
وإذا كان بعض المولعين من النقاد بإقامة خانات وتصنيفات، فيربطون تجربة هذا بذاك، ويحشرون هذا في زمرة آخرين، وينتقصون من جهد هذا لحساب ذاك.. لا أعتقد أنه يضيف شيئا لسيرة أو مسيرة فنان مطبوع، مؤمن بما يقدمه من أعمال فيه ما يكفي من حق الناس عليه في الثناء وذكر الفضل.. ومحمد سامي الذي امتدح نقاد وكتاب متخصصون تجربته المتفردة، لم يثرهم فضول عابر، ولا كتابة مجاملات، ولكن العمق الذي يميّز أعماله، فهي ليست ضربة في الفراغ، ولكنها إبداع خالص تشتهيه العين وتنجذب إليه الروح..
هكذا رأيت وأرى وسأرى محمد سامي الفنان الذي وُلِدَ غدًا..