عبد الجبار العتابي من بغداد: عذرا للقاريء الكريم من صراحتي.. وما في الرواية من جرأة واراء ربما قد يستغربها او يستهجنها البعض، فلقد رأيت الحياة وعجمتها، ولا اريد تغليب اللسان على الطيلسان.. فأنا أكره تجميل ما هو قبيح.. الا عندما يكون القبح سرا باهرا للجمال، وأأنف عن مجانية الصراحة مثلما تأنف شجاعة الحكيم ان تمنعه ان يصف المصاب بالغرغرينا مزكوما.. هكذا.. كما تعودت، وعودت نفسي.. لن اكبت ما يجول داخل الذات لاعتبارات ادبية زائفة.. خاصة عندما اقف للادلاء بشهادتي الخطية امام ضميري وتاريخي.. والزمن الاتي.. فعذرا لكوني لا اريد اواجه قدري يوما بكذبة.. لذا.. كانت الرواية.. شهادتي اذ هكذا جرت الامور.
هكذا يفتتح صدرت مؤخرا للكاتب العراقي (المتخصص في الدراما الاذاعية والتلفزيونية) صباح عطوان روايته الاولى التي تحمل عنوان (المس) عن دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق، وتقع في (366) صفحة من الحجم المتوسط، ويشير الى احداثها الناشر في كلمة له على الغلاف الاخير اذ يقول (في المس تجد نفسك امام حدث روائي غير عادي البتة، فهي محكمة الصنعة،بالغة الروعة، متينة المستوى، قوية المحتوى، قل ان تقرأ نظيرا لها في ادب هذه الايام، دبجها عن حقائق معاشة، يراع اشهر كتاب الدراما في العراق وعرابها المميز بلا منازع صباح عطوان ) قبل ان يذهب الى اشارة بسيطة الى احداث الرواية ومن ثم المديح للكاتب مالاتي (فمن خلال هذه الرواية تستشرف اياما وادعة الظاهر، جامحة الباطن، مشرقة جاهمة.. حادة التضاريس.. معبرة.... ناضجة.. فاضحة، تجأر بما وراء الوجوه الانسانية، في الدهاليز الخلفية للمجتمع العراقي خلال حقبة زمنية محددة من الام واثام ورؤى وتطلعات بسلوب تحليلي متماسك علمي رصين،بالغ الجرأة، لا يليق الا بكاتبه، وبيان عربي مبين، جزل..الخ )!!!
الرواية التي يتحدث كاتبها بالفصحى وحواراتها بالعامية العراقية وبلهجات مختلفة لا يستطيع القاريء العربي فك رموز الكثير مما يجيء فيها، زمانها النصف الاول من سبعينيات القرن الماضي، ومكانها بغداد، حيث تدور اغلب الاحداث واخطرها في بيت المستأجرين (النزلية) الذي هو بيت (ام حكيم) الذي يقع في احدى المحلات الشعبية البغدادية العتيقة الذي يقطنه بعض المستأجرين، ومنهم الراوي الصحفي والكاتب القادم من مدينة البصرة، ومنهم بطلة الرواية (صبيحة) ذات الاثنين والاربعين عاما التي تتحمل مرض زوجها المنبوذ من اهله وهو الذي تزوجها رغما عنهم زوجة ثانية، لانها راقصة، واستمرت علاقة اهله السيئة به على الرغم من انها تركت الرقص، وعلى الرغم من انه تاجر كبير ومعروف الا ان احواله تدهورت تماما وتخلى عنه الجميع ما عدا زوجته هذه التي تمتلك قدرا كبيرا من الجمال والحكمة كما رسم لنا صورتها الكاتب الذي استطاع ان يسبر اغوار المحلة الشعبية ويأتي بالكثير من تفاصيلها ويشرح دهاليزها احيانا بلقطات بسيطة، وهو ما اطلق عليها (حضانات الخداع الاجتماعي)، بالاضافة الى كشفه عن الواقع السياسي والظروف السياسية التي كان عليها البلد، واحوال الثقافة والمثقفين، وحاول ان يبث الجرأة فيها، كما ذكر في مقدمته واعتذر عنها لقرائه، ولم تكن تلك الجرأة على قدر كبير بحيث تشكل نوعا من الاستهجان، لاسيما ان العمل روائي، وان الكاتب لم تكن جرأته فاضحة، ولكنه ابدع في رسم اللقطات المثيرة،وحتى الاراء الدينية التي طرحها كانت مجرد تساؤلات ومحاولات لقراءة في رجع الصدى، واذ كانت الرواية في بدايتها عديدة الشخوص الا انه فيما بعد خلص العدد ليكون (الراوي) وصبيحة وحدهما في الساحة مع التقاطات عادية لبعض الاشخاص الذين داروا في مدار الرواية ولم يؤثروا فيها، بل ان الكاتب كان قد اوجد خطا اخر في الرواية هو خط (فؤاد) الاعلامي العائد من الغربة، ولكنه يتخلى عنه في الصفحة (249)، ولم يعد له اي وجود، كما ان الكاتب اثقل الرواية بما يشبه المقالات الصحفية التي راح بها يستعرض افكاره، فهناك تشعر ببعضها مفيدة كمعلومات، فيما بعضها الاخر تجده حشوا لا فائدة منه وهو ما تكرر في صفحات عديدة وكان بعضه مملا، كما ان الكاتب في الصفحات الاخيرة بدأ مستعجلا في سرد الاحداث، كي يصل الى النهاية التي اراد فيها ان يقسو على صبيحة من خلال اضطرارها الى استخدام السكين دفاعا عن نفسها في ذات اليوم التي مات فيه زوجها، حين تكالب عليها (فهمي وقدري) وهما كما وصفهما (من كلاب المجالس والفواتح والمناقي والاعراس)، وأحدهما اعمى، ومن ثم زجها في المصحة، وهو ما لا تستحقه من خلال مجريات الحكاية، ثم رماها الكاتب في النسيان او كما قال (مما جعل مسألتها بالنسبة لي تضمر بالتدريج، بعد ان اصبحت المرأة في ذمة الحكومة)، على الرغم من انها ارتبطت بالراوي بعلاقة اكثر من جيدة، والتي في حقيقتها تستدعي ان لا تنتهي بمجرد ايداعها المصح النفسي، وحيث كانت تحمل من الصفات ما امتدحها الراوي كثيرا، وكان حماسه واضحا وهي تنعرض الى المواقف المؤسفة، وهذه النهاية المأساوية لصبيحة ما كان يجب ان تكون.
من قراءة اولى للرواية نكتشف ان الحوارات.. كما عهدنا بالكاتب صباح عطوان ممتعة جدا، وطريقة السرد جميلة بالاضافة الى المعلومات الجغرافية والاجتماعية التي استعرض فيها الامكنة البغدادية ومظاهر الحياة فيها التي اصبحت في حكم النسيان، ويبدو ان (المس) عتى به الكاتب شمولية المكان والزمان في احداث الرواية.