رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة العاشرة: زيارة الى الشيخة خديجة

فلماذا يرمي الله في طريقه رجلا مثل السردوك، يفرض عليه صراعا لا يريده ولا يحبه، هل يحدث هذا من اجل اختبار قدرته على البقاء والحياة والصبر، ام تراه امتحان لقوة الايمان بمثل هذا الابتلاء، نعم، انه يخشى الدخول في صراع مع السردوك، ليس لقوة منصبه الامني، فهو يوافق صاحبه الاومباشي جبران، على ان هناك حدودا لهذه القوة، ولكنه يدرك انه لا حدود عند الرجل لفعل الشر، وهذا ما يخيفه اكثر، وعندما دخل مختليا بزوجته في غرفة نومهما، وجدها اكثر منه رعبا بسبب ما راته من اسلوب وغثاثة الرجل الذي دخل الحانوت يتحدث بطريقة فاجرة داعرة عن رغبته في الزواج من ابنتها، وهي المرأة التي لم تمض غير بضعة ايام على زفافها، فيتكلم في حضورها، مخاطبا امها، طالبا يدها، ورات ان من يفعل مثل هذا الفعل، ويقول مثل هذا الكلام، لا يمكن الا ان يكون انسانا مجبولا على الخسة والنذالة وارتكاب الشرور، ولا يتورع عن ارتكاب اية جريمة في سبيل الوصول الى اهدافه. افصحت لزوجها عما يراودها من هواجس ومخاوف ازاء الرجل، فطمأنها الى انه سيعرف كيف يعالج الموقف، ولا يجب ان تشغل نفسها بأمره، كل ما يريده منها هو ان تسرع باقناع ابنتها بان تعود الى بيت زوجها، لان خصامها معه، ستكون نقطة ضعف في صف العائلة ولن يزيد الامور الا تعقيدا خاصة مع وجود رجل مثل السردوك، قادر على استغلال موقف كهذا لصالح الخطط التي يرسمها، في حين ان واجبهم ان يسدوا في وجهه كل الابواب والشقوف التي يمكن ان يتسلل منها لخدمة اغراضه.
دعاها في ختام حديثه معها ان تنام هانئة البال والا تشغل نفسها بمثل هذه المسائل التي تتعلق بمواجهة الرجال مع الرجال، الا انها لم تهنأ في نومها، وانما بقيت مسهدة تفكر في طريقة تسهم بها في افساد خطط السردوك، ولم يكن في ذهنها قوة يمكن الاستقواء بها عليه غير اليسوع المخلص، وعمدت في الصباح الى الذهاب الى ركن العبادة تتوسل بعيون باكية ان يعينها الرب على مواجهة الموقف الذي يتهدد اسرتها وان يحمي بيتها من الشرور التي تحيط به، والمتمثلة في هذا الضابط الذي زار الوكالة بالامس وما جاهر به من نية مبيتة لافساد الحياة الزوجية لابنتها، ثم رأت الا تكتفي بالتوسل والدعاء، وان تمضي خطوة اخرى باتجاه استنفار القوى الروحية ذات الاسرار الالهية والاستعانة بها في تحصين بيتها ورد كيد الكائدين عن اسرتها وابنتها، ومن اجل هذا الغرض ذهبت الى خيمة العمة مريومة، فهي تعرف انها بارعة في علاج البدن بالاعشاب، وفوق هذا صاحبة قدرات في التعامل مع القوى الخفية المجهولة وتسخيرها لحل معضلات وعلاج مشكلات غير امراض البدن، وقد وجدت المرأة العجوز ما تزال تضع السخان على النار تصنع افطارا لنفسها، فصارحتها بالاخطار التي تحيط بابنتها، والرجل المسئول عن الشرطة الذي يطاردها ويريد استخدام نفوذه في افساد حياتها الزوجية خدمة لاغراضه وشهواته، وتريد ان تضع لها حرزا او تعويذة تحميها، او تعمل لها عملا يمنع الشر عنها، فسكتت العمة مريومة قليلا دون ان تجيب بالرفض او القبول، ثم سألتها ان كانت ابنتها انجيليكا تؤمن مثلها بجدوى مثل هذا العمل الروحاني، لانها ان كانت حقا تؤمن بذلك فانها ترى من الافضل ان تحضر بنفسها لترافقهما في رحلة قصيرة سيقومان بها جهة الجبل تتحقق بها البركة لهم الثلاثة، وان كانت انجيليكا تنتمي بافكارها الى هذا الجيل الجديد الذي لا يؤمن بشيء غير ما يرى ويلمس بنفسه فلا حاجة لاحضارها، الا ان السنيورة كاتيا اسرعت لتأكيد ان ابنتها امرأة شديدة الايمان بالمسائل الروحية، لانها سبق ان انتفعت بمثل هذه الاسرار، فقد حدث وهي طفلة في سن السابعة، ان اصيبت بداء الحصباء، ولم تنفع اي حبوب ومراهم مع هذا الداء، وبناء على نصيحة احدى سيدات المدينة القديمة، ذهبت بها الى ضريح سيدي الهدار فوق هضبة باب البحر، واوقدت له الشموع وتوسلت له ان يشفي ابنتها، ودهنت المناطق المصابة من جلد ابنتها بالشحم المذاب من تلك الشموع، وفي الصباح كان المرض قد زال من كل جسمها، بفضل بركة واسرار سيدي الهدار، ولهذا فان ابنتها ستكون على استعداد للانتفاع باي اتصال مع عالم الاولياء والصالحين، فذكرت لها العمة مريومة، بانها مرة اخرى ستصعد بابنتها الجبل، كما فعلت قديما وهي تصعد هضبة باب البحر الى ضريح سيدي الهدار، الا ان الجبل هذه المرة هنا في جنائن العرعار وفي فج من فجوجه، حيث ستزور مكانا شريفا مثل ذلك المكان، ليس ضريحا وانما نبع ماء، يقع خارج مناطق الحلفاء، وتركتها السنيورة كاتيا عائدة الى بيتها لاحضار ابنتها لترافقهما في هذه الرحلة المباركة، وحيث ان اهل النجع قد بدأوا يغادرون الخيام في طريقهم الى الشعبة، فقد فضلت ان تتاخر الرحلة الجبلية قليلا حتى يغادر كل اهل النجع خيامهم، اذ لا حاجة لان يعرف اي احد منهم خبر هذه الرحلة، كما اطمأنت من العمة مريومة الى انه ليس جبلا عاليا يصعب الصعود اليه، وانما فج قريب من مستوى الارض لا يرتفع الا بضعة امتار عن السفح، ودون ان تفصح لزوجها عن فحوى هذه المهمة، ابلغته بانها ستزور بابنتها خيمة العمة المريومة، ربما تستفيد ببعض علومها الطبية واعشابها التي تستخدمها في العلاج، لكي لا يفتقدهما ويهتم بامر الحانوت اذا اقتضى ان يفتحه لاحد الزبناء، وبمعية العمة مريومة، انطلقا في الطريق الى العين الجبلية، وقد جاءت كل منهما ترتدي شالا فوق راسها تحوطا لما يمكن ان يطرأ من تغيير على الطقس اثناء وجودهما في الجبل، وقد كانتا على علم بما يتداوله الناس في النجع عن وجود عين شحيحة ترشح منها قطرات من الماء في مكان ما داخل احدى الجبال القريبة من الوكالة، الا انه لا احد يقصدها للميراد لانه قد يقضي الساعات قبل ان يملأ منها زمزمية صغيرة، وانه ماء يبلغ درجة شديدة من النقاء والصفاء، واكثر عذوبة من ماء الغدير نفسه، فماذا تراه يوجد من اسرار في هذه العين، سألت السينيورة كاتيا العمة مريومة، وثنت ابنتها بسؤال مماثل، فاجابتهما بان السر ليس في العين او في الماء الذي يرشح منها، وانما في الشيخة خديجة التي تقيم هناك، وفهمت كل منهما ان امراة العلاج الروحي، تشير الى امرأة بدوية مباركة ذات اسرار وكرامات اختارت الحياة بجوار تلك العين، وتبادلتا نظرة استغراب واندهاش، لانهما لم يسمعا بها من قبل، دون ان يفصحا باي كلام يشرح سبب الاندهاش، اذ لعلها امرأة جاءت حديثا الى جنائن العرعار، فلم ينقضي بعد، ما يكفي من الوقت الذي يجعل خبر وجودها شائعا بين الناس، ولم يعرف بهذا الخبر الا من لهم اتصال بعالم الاسرار الروحانية، مثل العمة مريومة، وتوقعتا وهما تصعدان خلف العمة، باتجاه الفجوة التي تقع فيها العين، ان يظهر امامهما كوخ او عشة او خيمة، الا انهما سارتا خلفها، وهي تتكيء على عكازها، تضرب به الصخور، وتسير بنشاط وحيوية تتسلق الجبل كانها هي الاخرى شاة من الشياه التي تعودت الحياة بين الجبال، حتى اشارت وهي تبشرهما بقرب الوصول، الى صخرتين كبيرتين، قائلة ان بينهما تقع عين الماء، وسرعان ما ظهرت الارض المبللة بالماء، والتراب والحصى الذي امتزج بما رشح من العين، ثم ظهرت تلك العين في شكل قطرات تتساقط من شق بين رقائق من الصخور، في شكل قطرات كالتي يستعملها الانسان في علاج عينه من زجاجة الدواء، الا انها اكثر تواترا وسرعة، وادارت كل من كاتيا وابنتها عينيهما تبحثان عن الشيخة خديجة التي ورد اسمها في كلام دليلتهما في رحلة الجبل، ولكن لا اثر للمرأة المباركة التي توقعتا وجودها عند العين، وفاجأتهما العمة مريومة، عندما بدأت تطوف بالصخرتين الكبيرتين تنادي بصوت مرتفع على الشيخة خديجة، وتسألها ان تخرج لها، واستغربت المرأتان لسماع هذا النداء وهذا الطواف، خاصة وهي تترك الصخرتان وتبحث بين نبتات الحرمل والشيح والعجرم، وكأن الشيخة خديجة كائن اثيري يختفي وسط الهواء وبين اوراق العشب وسيقان النباتات الصغيرة الملتصقة بالارض، تسأله العمة مريومة ان يتجسد امامهم حضورا ماديا في شكل امرأة، الا ان الكائن الذي خرج من تحت الصخرة، لم يكن امرأة، ولم يكن بشرا ولا عفريتا من الجن، وانما كان سحلية، كبيرة، جميلة، خضراء اللون، يلمع جلدها الناعم تحت مسقط الضوء كانه مدهون بزيوت ربانية، تبحلق في هؤلاء الزوار بعينيها الصغيرتين المتوقدتين ذكاء وحيوية، تخرج لسانها الوردي وتدخله كأنها تقول بهذه الحركة شيئا، ربما هو رد على تحية العمة مريومة اطلقت السلام على السحلية التي تسميها الشيخة خديجة، كما طلبت من كل من كاتيا وانجيليكا ان يبادرا بتحية الشيخة، فاسرعت الام قائلة
ــ السلام عليك ورحمة الله يا شيخة خديجة
وكررت ابنتها من خلفها نفس التحية، في حين انهمكت العمة مريومة في قراءة بعض الاوراد ومجموعة من ايات القرآن ختمتها بان اتجهت بالحديث للسحلية التي كانت واقفة تستمع باهتمام لما تقوله العمة مريومة وهي تشرح لها الحاجة التي تريد قضاءها والمهة التي جاءت من اجلها رفقة هاتين السيدتين، واخرجت من كيس كان معها اغصان نعنع بري اخضر صارت تطعمة للشيخة خديجة وتركت بقية تحت اقدام السحلية،وعادت تتمتم ببعض الاوراد والتعاويذ، ثم مدت يدها فتسلقتها السحلية وصعدت مع ذراعها حتى استقرت فوق كتفها ومدت فمها فمدت العمة مريومة فمها تقبلها وتسألها الاذن بمغادرة المكان ملقية عليها تحية الوداع، وسالت رفيقتيها ان يقولا وداعا للشيخة خديجة، فيسرعا لاجابتها الى ما امرتهما به، وتنهض فتنتزع بعض الاعشاب من تحت الصخرة التي كانت تأوي اليها السحلية، وتضعها في الكيس الذي افرغت منه النعنع البري، وتبدأ رحلة انحدارها مع الجبل ومن خلفها كاتيا وانجيليكا اللتان انتظرتا حتى وصلتا معها الى اسفل الجبل، لتسألاها عن معنى ما حدث، في هذه الزيارة لمقر اقامة الشيخة خديجة، فابلغتهما بانها ليست حقا سحلية، وانما هي امرأة من اهل الخفاء، تجسدت في شكل سحلية لتستطيع خدمة الناس والتواصل معهم، في شكل دبيبة وديعة جميلة لا تخيفهم، وان اول من اخبرها بوجود هذه الشيخة وحقيقة اصلها وفصلها سيد من اسياد اهل الخفاء، تعرفه منذ مدة طويلة، وتراه مرتين او ثلاث مرات كل عام، لانه ملك من ملوك الجن في الساقية الحمراء، لا يستطيع ترك مسئولياته الملكية في تلك الاماكن القصية، الا للحظات قصيرة يزور فيها بعض اصحابه من الانس المتفرقين في بلاد الله، وهو الذي كان حلقة وصل بينها وبين الشيخة خديجة، بسبب وجودهما في جوار واحد هو جنائن العرعار، وهي على يقين من ان الشيخة خديجة قد فرحت بهذه الزيارة لانها تقيم اعتبارا كبيرا لمن يتحمل متاعب الطريق وصعود الجبل وصولا اليها، وستعمل دون كلل على حماية انجيليكا من اي شر يدبر لها، وسترد كيد الكائدين الى نحورهم باذن الله، كل ما في الامر انها ستعطيها هذه الاعشاب الطبية التي اقتلعتها من مهجع السحلية، كي تقوم بتنقيعها في ماء ساخن ثم تشربها كما تشرب كوبا من الشاي، ولا باس من وضع شيء من هذه الاعشاب في النار لتتبخر به.
لحظة عودتهما الى البيت، كان جميلا ان تسمعا من الاب ان الرائد السردوك، تعرض لزوبعة رملية في الطريق من ذلك النوع الذي ينطلق على شكل دولاب يدور، او دوامة من عجاج، كانت قوية الى حد قذفت بسيارته خارج الطريق، فانقلبت به، وخرج من الحادث مصابا ببعض الرضوض والكدمات، كما عرف من شلومو البائع الجوال الذي شاهد ما حدث وهو في طريقه الى الوكالة، واعتبرت كاتيا ان الخبر دفعة اولى من وعود الشيخة خديجة، او عربونا استبقت به الزيارة، ومصداقا لوعدها بان تحمي ابنتها وتعيد كيد الاعداء الذين يريدون بها شرا اليهم. واعتزمت ان تقتطع صحنا من غذاء اسرتها وتهديه للسيد شلومو الذي كان يتخذ مكانا لنفسه وبغلته بجوار سور الوكالة مكافأة له على خبر الانقلاب الذي تعرضت ليه سيارة السردوك.
وقد اهتم بانايوتي بشلومو ضيف الوكالة، واراد ان ينتقل معه الى البيت ليتناول فيه صحن الغذاء الذي اعدته له كاتيا الا انه فضل ان يبقى بجوار بغلته وحمولته من السلع الموجود في (عديلتين) اراحها منهما ووضعهما فوق الارض، تاركا اياهما معروضتين لمن يريد ان يشتري من نساء النجع وصبيانه، وجلس بانايوتي بجواره قليلا اثناء تناوله للغذاء ثم تركه لزبائنه مؤجلا الحديث معه الى المساء حيث انعقدت حلقة المجلس اليومي فاستدعى بانايوتي شلومو لينضم الى الحلقة ويمتع اعضاءها بما يتوفر لديه من حكايات وطرائف يلتقطها من حياته كبائع جوال في هذه البوادي حتى صار خبيرا بشعابها ونجوعها وابارها واماكن الاضرحة فيها، وكان بانايوتي حريصا ان يعرف منه ما مر به من اثار في هذه الصحاري تنتمي للاغريق القدامى، ولكن نصيب الاغريق في هذا الجزء من الوطن قليل كما يقول شلومو، لان دولتهم اقتصرت على الجزء الشرقي من البلاد فيما سيطرت الامبراطورية الرومانية على الجزء الغربي منها حيث اثار قصورهم ما تزال موجودة فوق الهضاب وصهاريج ابارهم لا تزال صالحة للاستخدام في السفوح وقبورهم واصنامهم الموضوعة فوق هذه القبور لا تخلو منها ضفة من ضفاف الاودية الكبيرة فهي موجودة في وادي مرسيط ووادي سوف الجين ووادي الاثل ووادي زمزم ووادي غلبون ووادي مقدال ووادي غرغار ووادي عنتر ووادي منصور التي تشق الصحراء الى البحر، وقلاعهم موجودة في عدد من البلاد مثل القريات الشرقية، وابو نجيم وام العجرم اما مدينة قرزة المسخوطة فهي مدينة كاملة تحتوي على اثار قصورهم ومعابدهم وحماماتهم واثار من جاء قبلهم مثل الفينيقيين واثار من عاصرهم وصارعهم من اهل البلاد مثل الجرمنت، وذكر شلومو لبانايوتي ورفاقه ان حاكما يهتم بالاثار في بني وليد هو الذي جمع في قصره قطعا من الاثار جلبها من الصحراء فيها اثر يوناني تمثال للطفل المجنح الذي يعتبرونه الها للحب، ولا يدري شلومو من اي مكان جلبه، لكن كلها اثار خاف الوالي عليها من النهب، فاحضرها من اودية زمزم وام العجرم ومن مدينة قرزه التي تقع تحت ادارته واحتوى معرضه على اعمدة لها تيجان وجداريات لتماثيل ولوحات فسيفساء واقواس عليها الزخارف وصور الحيوانات وتمثال لصقر ينشر جناحيه وجرار فخارية كانت تقدم قرابين للالهة وصناديق حجرية تحفظ رماد الموتى بعد حرقهم مزينة هي الاخرى بالنقوش والكتابات الرومانية والفينيقية، وكان تعليق الاومباشي جبران على مثل هذه الحكايات ان هذه الاثار التي ينسبها الاجانب الى انفسهم فيها الكثيرمما ينتمي لاهل البلاد وضرب مثالا باثار اكاكوس وتاسيلي التي لا يجادلون في نسبتها لليبيين القدامي لسبب بسيط هو انهم لا يستطيعون نسبتها لا للفينيق والا الرومان والا اليونان لانها وجدت قبل ظهور هؤلاء الاقوام في ليبيا، الا انهم بعد مجيء الاحتلال الفينيقي ثم اليوناني في شرق البلاد والروماني في غربها اضطر هؤلاء الليبيون الى التطبع بطبائع مستعمريهم وتسمية انفسهم باسمائهم وتقديم الولاء لالهتهم واديانهم فصار كل ما يصنعونه ينسب للمستعمرين لانه كتب بلغتهم وتسمى باسماء تشبه اسماءهم وحمل الولاء لالهتهم فاعتبره علماء الاثار الغربيون فينينقيا او رومانيا او يونانيا بينما هو من صنع وبناء وابداع اهل البلاد، وهم الذين بقوا في الارض بعد خروج هؤلاء الاقوام المستعمرين الطارئين لانه على حد قوله لا تبقى في الوادي الا حجارته، ولم يكن بانايوتي ياخذ كلام الاومباشي في مثل هذه القضايا التاريخية مأخذا جادا لانه يعتبره يتكلم عن جهل وبدافع التعصب والانحياز لاهل بلاده على غير علم ودراية وانتظر حتى حان موعد عودته الى البيت ليضع بعض افكاره على الورق، كما تعود ان يفعل عندما يجد ان هناك افكارا او كلمات يضيق بها صدره ويريدها ان تخرج الى النور، فكتب يقول:
يظهر شلومو ويختفي، فافرح دائما بظهوره وارى ان خيطا ما يشدني اليه، بل ارى شبها في الاقدار بيني وبينه، انه مولود لاب وام ويهوديين من قاطني غريان، وماتا عنه وهو لا زال صبيا، فوجد نفسه يعمل صبيا لتاجر يهودي جوال ورث عنه تجارته بعد ان مات، لكنه لا يدري الا صورة غامضة ومشوشة عن الوطن الذي جاءت منه اسرته، فهي اسرة مهاجرة، اتبعت كما يقول طريقا لعله ينحدر من الاندلس، وانتقلت الى مراكش ثم الى تونس ثم الى طرابلس ثم الى الجبل الغربي وعاصمته غريان، وها هو هنا يجوب هذه البوادي وحيدا، غريبا، بديانته التي لا تربطها اية علاقة بديانة اهل البلاد،بل لعل من اهل البادية من لا يضمر له خيرا ولا يضمر لديانته ودا ولا احتراما، ولكنه مع ذلك يطوف دون وجل ولا خوف في هذه البوادي، ببغلته حاملا امشاطه واخراصه ومراياه وعطوره، يعمل براس مال صغير، لكنه قد يغري في هذه الاعوام التي ينتشر فيها العوز ويجوع فيها الناس، قاطع طريق، او لص من لصوص الصحراء بالتربص به، ونهب متاعه والسطو على بغلته وقد يصل الحد الى قتله، ولعل هناك من اشباهه من باعة متجولين من لاقى مثل هذا المصير، فمن اين يستمد الشجاعة، والقدرة على مجابهة الاخطار، والاستمرار في اداء عمله المحفوف بالمهالك، انها شجاعة، قد يكون مصدرها السذاجة ولكنها تجعل انسانا مثلي يغبط نفسه لانه قادر ان يحيط نفسه باسرة ومجتمع وبطانة اجتماعية تخفف من غربته وتزيل اي احساس بالخطر من طريقه، مقارنة بوضع شلومو في وحدته واسلوب حياته وهي يمضى وحده مع بغلة تشق به الليل ويواجه معها عواء الذئاب ومخاطر اللصوص دون اي حماية او وسيلة للدفاع.( قال في زيارته اليوم ان جاره في مزده رجل يهودي يعمل حدادا له ابنة ترملت، فبني بها وصار له اخيرا زوجة يقيم معها في بيت صهره ليستطيع ان يسافر من اجل تجارته، وهو مطمئن الى انها تعيش في ونس اسرتها )
سانام هانئا في سريري، ولن اخشى كثيرا من تهديد السردوك، ساعتبره مثل الذئاب التي نسمع عوائها البعيد قادما مع الريح من احدى الشعاب، فلا يثير في النفوس خوفا، ولا يبعث فيها اي احساس بغياب الامان. لا اصدق ما يقوله شلومو عن عدم وجود اثار يونانية في شرق البلاد الا ذلك التمثال لاله الحب، فالتمثال لم يصل الى قصر الوالي سوندرز من فراغ، والحضارة التي انتشرت في ربوع الشق الشرقي من هذه البلاد قد امتزجت ببعض ما تركه الرومان في غرب البلاد، تماما كما حدث للحضارة اليونانية التي ورثها الرومان في شرق البلاد وامتزجت باثارهم وصار بعضها جزءا من ثراتهم. لقد رايت بعضا من هذه الاثار، واعمدة القصور التي لم تكن اطلاقا تختلف عما رايته في جبال اليونان، في الاسكندرية وساندوريني وكريت ورودس، ولكن ذلك لا يهم، فاذا لم يستطع اليونانيون القدامى ترك اثار في هذا الجزء من البلاد، فان هناك يونانيا حديثا، من اهل هذا الزمان، عازم بحق المسيح وامه مريم العذراء، على ان يترك شيئا يدل في هذه الوهاد والربوع عن اهل اليونان وحضارتهم، واذا كنت قد انشأت مصدرا للرزق للبدو في هذه المناطق، فلن اغادرهم الا وهم اكثر تقدما وحضارة لاثبت ا ن اهل اليونان سواء انتسبوا للماضي او للحاضر للشرق او للغرب فانهم لن يتخلوا عن رسالتهم الحضارية التي سيغرسونها في اي مكان يصلون اليه، حتى لوكانت ارضا غبراء شعتاء مثل صحارى جنائن العرعار.

يتبع غدا