رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة التاسعة: انجيليكا تهجر بيت الزوجية
وفي اليوم التالي اعتكفت انجيليكا في بيت ابيها ولم تخرج، رغم ان الفونسو كان يترصد لها، ليتولى بنفسه التصالح معها، وتردد على الحانوت يسأل عنها امها، الا انها نصحته ان يبتعد عن طريقها، والا يعترضها عند خروجها من البيت، لانه يمكن ان يحدث مشهد آخر يزيد الامر تعقيدا واستفحالا، واعدة اياه بانها ستواصل مساعيها لترطيب خاطرها، راجية منه ان يبقى بعيدا حتى ترسل اليه احدا لكي يأتي وياخذ زوجته بيده ويعيدها الى بيتها. فخرج من الحانوت متجها للعمل في الشاحنة التي كانت تنتظر ان يتخذ مكانه على الكرسي الملازم لالة الرفع، ترافقه حالته العصبية وهو يرفع رزم الحلفاء، لانه كان ناقما على نفسه، نادما على لحظة الغضب والغيرة التي تملكته دون سبب حقيقي يبررها.
وكان الاومباشي قد نفذ ما عاهد نفسه امام عاشور على القيام به، فقد تكلم مع اباء الاطفال في المسجد، طالبا منهم منع اطفالهم من العودة الى ترديد الاغنية التي تسيء الى ولي نعمتهم واسرته، وبالغ في تصوير النتائج الوخيمة التي قد يحصدها اهل النجع اذا وصل الغضب بصاحب الوكالة حدا يجعله يقفل وكالته ويعود الى سابق عمله بطرابلس، ويتركهم يواجهون البطالة والعطالة والمجاعة كما كانوا قبل تاسيس الوكالة. ولهذا ماتت الاغنية التي تتحدث عن انجيليكا وحلت مكانها الاغاني التي علمها عاشور للاطفال وصاروا في مساء اليوم التالي يرددونها بحماس،رغم كلماتها التي لا احد يعرف لها معنى، وكانت احداها تقول
ـــ يا العين بوزعي
بوزعي يا العين
عندما علا عمود الغبار، ينبيء بدخول سيارة من منعطف الشعبة التي يشقها الطريق الذي يقصد الوكالة، ذهب في ظن من رأى العمود المشطور الى نصفين انها الشاحنة التي تجر المقطورة، والمتوقع وصولها هذاالمساء وهي وحدها من يمكن ان يصنع هذين العمودين المتعانقين في عمود واحد، الا ان العمود الذي واصل زحفه عبر الافق الذي تنعكس فوقه الوان شمس غاربة ذات الوان عسجدية، لم يسفر عن خروج الشاحنة تتبعها مقطورتها، وانما عن سيارتين من نوع الجيب، تمخران بعجلاتهما التراب، قادمتين باتجاه الوكالة، وازداد الفضول في اعين الناس، ونطقت شفاههم بالتساؤل الذي يعبر عن هذا الفضول مستغربين لهذا الاهتمام الحكومي بالوكالة الذي استوجب ظهور سيارتين بدلا من الاكتفاء بسيارة واحدة مهما كان الامر جللا، وكان بين هؤلاء المترقبين وصول السيارتين، الفونسو الذي هرع مسرعا الى بانايوتي في مكتبه، يسأله ان يخرج ليستقبل القادمين قائلا
ــ اونكل بانايوتي، هيا اترك ما بين يديك واسرع بالخروج، فلديك ضيوف حكوميون على وشك الوصول.
هم بالتأكيد ضيوف حكوميون، فلا احد يستخدم مثل هذه السيارات الرصاصية اللون، الا الحكومة، وشركة الحلفاء نفسها لم يسبق لها ان ارسلت احدا يركب مثل هذا النوع من السيارات , واذا جاء مندوب منها فهو يأتي راكبا بجوار سائق الشاحنة، وهكذا خرج بانايوتي ليقف بجوار الفونسو، ينتظران ان يعرفا ما تحمله السيارتان من ضيوف، وما ان وقفت اولاهما حتى تقدم منها بانايوتي، وهو يهمس في اذن الفونسو:
ـــ ادعو معي ان يكون السبب خيرا وراء مجيء هذا الرجل.
فتح الراكب الجالس بجوار السائق، باب السيارة وهبط مرتديا بزته العسكرية ورتبة الرايد فوق كتفيه وفي يده هراوته الشهيرة، وقد اقترب منه بانايوتي فاتحا احضانه يرحب به، لاهجا بعبارات الترحيب
ـــ اهلا، اهلا، سيادة الميجور، شرفت وكالة بانايوتي.
ــ اهلا بانايوتي، هل كل شيء على ما يرام؟
ــ الحمد لله، نحن نعيش تحت حمايتكم، سيادة الميجور، ولهذا فنحن دائما نشعر بالامان.
واضاف يقدم صهره للرائد السردوك:
ــ تذكر الفونسو، زوج ابنتي.
ـــ طبعا اذكره، وحضرت عرسه، ولكنه يرتكب مخالفة في حق المنطقة، وكان واجبك تنبيهه اليها.
وبخوف سأل بانايوتي
ــ اية مخالفة لا سمح الله؟
ـــ التسجيل. اي انسان اجنبي يخرج من محل اقامته في طرابلس وياتي ليعيش في بلدية خارجها، لابد ان يسجل اسمه في سجل المقيمين الاجانب، التابع للبلدية التي انتقل اليها. نعم، عليه ان ياتي الى مركز شرطة مزده ويبلغنا بهذا الانتقال. كيف تنسى ان هذا ما فعلته انت واسرتك.
ـــ طبعا جئت وسجلت واحضرت معي رخصة الوكالة، لاكون في حماية امن المنطقة، اما الفونسو فهو مجرد زائر.
ـ طالما هو هنا، يقيم ويعمل، فلا بد من ان نأخذ علما بوجوده، بشكل رسمي. وواجبه ان يحضر جواز سفره الايطالي، ويأتي ليسجل اسمه ويملأ النماذج المخصصة لذلك، مفهوم؟
ـــ مفهوم، مفهوم، افندي سردوك.
واثناء هذا الحديث كانت قد وقفت السيارة الثانية وخرج منها خمسة من رجال الشرطة، فنظر اليهم بانايوتي بارتياب، سائلا الرائد السردوك:
ــ هل جئت يا افندي بهذه الحملة من اجل الفونسو.
ــ لا طبعا، ليس من اجله، وسانتظر كي ياتي لتسجيل نفسه في المركز باسرع وقت، لقد جئنا من اجل امر آخر. اين انجيليكا؟
وفي فزع سأله بانايوتي
ــ ماذا تقول؟ هل لانجيليكا علاقة بهذه الحملة؟
ـــ لا، طبعا لا، انجيليكا العروس الجميلة، لا تخرج حملات التفتيش من اجلها، وانما عساكر التشريفات لتحيتها. لقد سافرت يوم عرسها دون ان اودعها او اهنئها، فقلت لابد من تدارك هذا الخطأ، بالاعتذار، والمبادرة بالتهنئة.
ــ انت رجل ذوق وكرم، شكرا لك، دعني استضيف جماعة الحملة على مشروب في المقهى، ليرتاحوا قليلا من مشقة السفر.
انتقلوا جميعا الى خيمة المقهى. توزعوا على طاولتين وامر لهم بانايوتي بالمشروب، وجلس بجوار السردوك يريد ان يعرف منه سبب الحملة، فهمس له بانه يجب ان يخبره بذلك على انفراد، ولم يكن يشاركهما الجلسة غير الفونسو، الذي نهض منسحبا قبل ان يسأله بانايوتي ان يفعل ذلك، وبنفس الصوت الهامس، مال السردوك على بانايوتي حتى ليكاد ان يلامس رأس الرجل برأسه، قائلا
ــ بلاغ من طرابلس، يقول بان رجلا شارك في مهاجمة قافلة جنوب البلاد، هرب من الشرطة الفرنسية هناك وانضم الى وكالة الحلفاء هنا، وهو من قبيلة اولاد عيشة، اسمر الله، اسمه ابو عوف، هل لديك فكرة عنه؟
ـــ لا فكرة ابدا، ولا اعرف احدا باسم ابو عوف.
ــ بالتأكيد جاءكم يحمل اسما مستعارا.
ـــ وما العمل؟
ــ لا نريد القيام باية شوشرة في الوكالة، لاننا لن نظهر باية نتيجة حتى لو قمنا بالتحقيق مع كل الناس، واسلم طريقة هي ان نترك مخبرا هنا، موجود الان معنا، وجاء يرتدي ملابس مدنية، وقد احضرنا له معنا الخيمة والامتعة التي يحتاجها، سينصب خيمته، وسيذهب لجمع الحلفاء مع اهل النجع، وسيقوم هو باسلوبه البوليسي بمهمة التحري والتقصي عن الرجل في تكتم وسريه. اتركه يعمل، فقط لا تبلغ احدا بانه مخبر.
ــ سرك في بئر يا سيادة الميجور.
ووسط سحابة من غبار اكثر كثافة مما سبقه، وصلت الشاحنة تجر مقطورتها، حتى وقفت في المربع الفضي، فاستاذن بانايوتي من الرائد السردوك، دقيقة لاستقبالها، انتهزها السردوك فرصة ليذهب لتحية انجيليكا في الحانوت، فهو في الحقيقة لم يات الا من اجل ان يكحل ناظريه برؤية جمالها، وهذا ما انتهى اليه تفكير الاومباشي وصديقيه الحاج رضوان والفقي عمار، فقد اثار وجود السيارتين الحكوميتين فضول اهل النجع، خاصة بحمولتها من العساكر يقودهم السردوك، وقد رآهم الرجال الذين اجتمعوا لصلاة المغرب فقرر هؤلاء الثلاثة من بينهم، المجيء الى خيمة المقهى لمعرفة ما يحدث، وعندما اقتربوا ورأوا السردوك يتحرك باتجاه الحانوت، عرفوا ان للرجل نواياه المبيتة ازاء انجيليكا وانه جاء ليواصل عملا بدأه منذ ليلة العرس عندما قضى الوقت كله يحملق في وجهها غير قادر على رفع عينيه عنها، ولان الاومباشي جبران يشعر بنوع من المسئولية ازاء ابنة صديقه، فقد رأى ان يتبع السردوك ويمضى وراءه الى الحانوت، فاستأذن من رفيقيه ان يفعل ذلك بامل ان يمنع هذا الرجل المشهود له بالقسوة وسوء السلوك، من ان يتمادى في مضايقة الفتاة وامها، تاركا اياهما ينضمان الى بانايوتي امام خيمة المقهى، وعندما دخل وجد السردوك قد مد يده يصافح انجيليكا، لكنه لم يتركها تسحب يدها من يده، قبض عليها، محتفظا بيدها في قبضته، بحجة انه يستبقيها لكي لا تتركه قبل ان يفرغ من حديثه معها قائلا
ـــ انني من اجل عينيك الجميلتين الساحرتين، وليس من اجل اي شيء اخر غيرهما، ساصفح عن زوجك واعفيه من دفع الغرامة، شرط ان يسرع بالمجيء الى مزده وتسجيل اسمه كواحد من المقيمين في منطقة القبلة، تحت رعاية وحماية الرائد صالح السردوك، وان لم يسرع فلن استطيع ان اغمض عيني عن تنفيذ القانون مدة طويلة، قولي له ذلك؟
واخيرا افلحت في فك يدها من يده وهي تقول:
ــ ولماذا تقول لي انا هذا الكلام؟ اذهب وقله لصاحب الشأن.
ــ وهل هناك فرق بينك وبين صاحب الشأن؟
وهنا تدخلت الام لتقول ببراءة:
ــ انها تقول لك ذلك لانها غاضبة قليلا من زوجها، وستعود لمراضاته سريعا بعون الله.
ـــ ماذا تقولين يا سيدة كاتيا؟ غاضبة منه؟ وهل يجرؤ هذا السنكوح على اغضابها؟ هذا النغل الذي لا يعرف احد من اين جاء، يغضبها؟ اليس له عينان وعقل ويد وقلب وانف واذنان، يرى ويشعر ويسمع ويلمس ويشم بها هذا الجمال الالهي، فيسبح بحمد الله ليل نهار، لنعمائه التي انعم بها عليه، بدل ان يكفر بنعمة ربه ويغضب هذا الجمال؟
قالت كاتيا وقد فاجأها هذا السيل من الغزل الصريح بابنتها:
ـــ لا لا ياسيد سردوك، الامر ليس كذلك؟ انه موقف بسيط مما يحدث بين اي زوجين في العالم، فارجوك لا تلوم الفونسو على اثم لم يقترفه.
ـــ انني اسميه اكثر من اثم، انه جريمة، ولكن لومي لا اتجه به اليه، ولكن اليكما يا سيدة كاتيا، انت ووالدها لانكما استعجلتما باعطائها لهذا الرجل الذي لا يصونها ولا يستحقها.
وهنا راى القبطان ان من حقه ان يتدخل، فاعطى كوبونا لانجيليكا، لتصرف له قالب صابون وصندوق كبريت ونصف كيلو سكر وخمسين جرام شاي اخضر ومثلها شاي احمر، وعلبة بسكويت وعلبة مناديل ورقية وتعمد ان يجعل القائمة طويلة، لكي يعطيها فرصة الانشغال عن الرجل المصوب انتباهه ونظراته لها، وتدخل يوجه حديثه للسردوك:
ــ شرفت الوكالة يا افندي السردوك، واتمنى عليك ان تكون محضر خير، فلا تزيد نار الفتنة اشتعالا بين ابنة بانايوتي وصهره.
ــ قد لا تعلم يا اومباشي جبران انني اعرف بانايوتي قبل ان تعرفه، واعرف اسرته المؤلفة من زوجته وابنه وابنته، قبل اي احد آخر في هذه البطاح، واستطيع ان اقول من منطلق الحرص على مصلحة هذه العائلة ان زواج انجيليكا من الفونسو كان منذ البداية خطأ، وليتني استطيع اقناع العائلة بتصحيح هذا الخطأ.
ــ وكيف يكون هذا التصحيح برأيك؟
ـــ بتطليقها منه طبعا
ــ فال الله ولا فالك ايها الرائد السردوك، اتريدها ان تصبح امرأة طالق في اول اسبوع من عرسها؟ لا حول ولا قوة الا بالله.
ــ ليست طالقا وانما طليقة، حرة، تختار من ترضى عليه من عشرات بل مئات، بل الاف الرجال الذي يتمنون الفوز بها.
جازف الاومباشي جبران بالقول ساخرا، وساعيا في ذات الوقت لان يجعل السردوك يكشف اوراقه:
ــ لعلك واحد من هؤلاء الراغبين في الفوز بها.
ــ نعم، ولم لا، سيكون شرفا كبيرا وعظيما لي ومصدر سعادة وافتخار ان اصاهر صديقى بانايوتي، واحفظ واصون شرف وجمال ابنته العزيزة انجيليكا، سافرش لها الارض ريحانا وورودا، وساضعها وسط قلبي، واجعل نفسي خادما مطيعا لجمالها وساجعلها اسعد انسانه في العالم كله، وساوفر لها الخدم والحشم واجعلها لا تطلب شيئا الا وكان في الحال تحت قدميها.
ـــ الا تستحي من قول هذا الكلام وانت رجل متزوج لك اولاد وبنات.
ــ ساطلق امرأتي، ساطلقها بالثلاثة، لتذهب الى بيت ابيها هي واطفالها. واطلب منك الا تعود لمثل هذا الكلام لانك تعرف اني استطيع ان اطلق صفارتي لافراد الحملة فيقبضون عليك ويرمونك في زنزانة المركز حتى تأتي زاحفا على قدميك طالبا مني العفو.
خرجت مدام كاتيا من خلف الطارمة، تسحب الاومباشي جبران خارج الحانوت بعد او ضعت في يده كيس الورق الذي يحمل البضاعة التي طلبها، قائلة له ان يترك لها معالجة الامر مع الافندي، وان يخرج لكي لا يتطور الموقف الى عناد ثم يتحول العناد الى عراك بينهما. خرج الاومباشي يطلب من بانايوتي ان يذهب لانقاذ ابنته وزوجته من مماحكات السردوك، في حين طلب من صديقيه الحاج رضوان والفقي عمار، ان ينتقلا معه الى مكان غير هذا المكان، لانه يخشى ان بقى ان يحدث احتكاك جديد بينه وبين السردوك سيكون بالتأكيد اكثر حدة وعنفا من سابقه، فسايراه وعادا معه الى خيمة الجامع ينتظرون موعد اقامة صلاة العشاء، وانتقل بانايوتي بسرعة الى الحانوت، وافلح باللين والسياسة في اقتلاع السردوك من هناك والعودة به الى المقهى ليطلب له مشروبا ويبقى فيه ينتظر عساكره الذين انزلوا خيمة زميلهم من السيارة يبنونها له على اطراف النجع، فهو رجل اعزب، ولهذا فان خيمته لا يجب ان تكون داخل حرم المكان الذي يختلط فيه نساء النجع. وكان الحاج رضوان والفقي عمار قد عرفا اثناء جلوسهما مع بانايوتي امام المقهى، بان السردوك جاء بحثا عن مجرم قال انه شارك في الهجوم على قافلة في الصحراء وهرب من شرطة فزان الى هذه الوكالة ليختبيء بين اهلها تحت اسم مستعار، واسر لهما بانايوتي بان السردوك يريد ان يزرع شرطيا سريا في النجع، بادعاء انه مجرد طالب رزق مثل الاخرين، ليكشف سر هذا المجرم، الا ان الاومباشي جبران، وبسبب معرفته بالسردوك، رفض ان يصدق هذه الرواية، قائلا بانه كاذب كاذب، وانه لن يقبض على احد، لانه لا وجود لهذا المجرم الذي يقول انه جاء متسللا الى الوكالة، فلا مجرم غير السردوك نفسه، فهو امير اللصوص وقطاع الطرق ولا تقوم جريمة الا اذا كان هو مدبرها والمستفيد منها، يقتسم مع مرتكبيها العوائد بالنصف، مقابل ان يتستر عليهم، ويعرقل جهود الحكومة في القبض عليهم، وما حكاية هذا المجرم المزعوم الا ذريعة لكي ياتي الى هذا المكان وينشر الرعب بين اهله في سبيل الضغط على بانايوتي، وعندما سأله الشيخان عن الحاجة التي يريدها السردوك من بانايوتي، ابلغهما بان الرجل افصح صراحة عما يريد، امام زوجة بانايوتي وابنته، فهو غير راض عن زواج انجيليكا بالفونسو، ويريدها زوجة له، طالبا من اهلها، ودون حياء او خجل، ان يطلقوها منه، خاصة بعد ان سمع من الام ان انجيليكا في حالة خصام مع زوجها.
ــ لا حول ولا قوة الا الله.
ضرب الفقي عمار كفا بكف مستغربا لسلوك الرجل الامني، في حين تساءل الحاج رضوان عن كيف يأمن الفونسو على نفسه، لانه يستطيع ان يقوم بتلبيسه تهمة تدخله السجن في سبيل ازاحته من الطريق، وربما يسعى لقتله لانه يعرف صعوبة ان يفارق الزوج زوجته اذا كان كاثوليكيا، فرد عليه الاومباشي قائلا بان السردوك لن يستطيع ان يفعل ذلك، لان بلاكلي حاكم البلاد اصدر قرارا يحمي به الاجانب من انتقام رجال الشرطة الليبيين، فقد تكررت الحوادث التي يستخدم فيها رجال الشرطة الليبية سلطتهم في الانتقام من عنصر ايطالي او يهودي سبق ان اساء اليهم او لاحد من اهلهم، فجعل سلطة القبض والمساءلة لاي عنصر اجنبي مقصورة على اعوانه ونوابه الانجليز، ولهذا فهو لن يكون قادرا على القبض عليه، او تلفيق تهمة له، ونائب الوالي في منطقة القبلة وحده من يستطيع ان يفعل ذلك، اما بالنسبة لشروط الزواج الكاثوليكي فهي لا تنطبق على زيجة مختلطة مثل هذه خاصة وان اغلب الايطاليين خارج بلادهم يتزوجون زواجا مدنيا لا يخضع لسيطرة القواعد الصارمة للفاتيكان داخل الوطن الام.
رفع الفقي عمار أذان العشاء وتوافد على خيمة الجامع عدد من المصلين، وفوجيء الحاضرون للصلاة بمجيء الرائد صالح السردوك، يشاركهم صلاة العشاء، ويبقى لاكمال صلاة الشفع والوتر، ثم يقدم لهم الشرطي الذي جاء من المركز متنكرا في الملابس المدنية، باعتباره صديقا جاء يدله على مكان يستطيع ان يلتقط فيه رزقه بامان، مخفيا مهنته الحقيقية كشرطي، قائلا بان اسمه رشيد عبد السلام المطري، من عشيرة المطاري، التي هي عشيرة ام الرائد واخواله، فهو قريب له يحظهم على الاهتمام به ومعاونته في الاندماج معهم، مضيفا بان في عنقه عائلة من اليتامي هم عائلة اخ له توفاه الله وترك اطفالا لا عائل لهم الا هذا الاخ، وعندما نهض، وقفوا لوداعه، وان تجنب الاومباشي الحديث معه، وشيعه بعض المصلين حتى وصل سيارته وامتطائها جالسا بجوار سائقه، استعدادا للعودة الى مزده، وعندما اراد بانايوتي ان يجامله، داعيا اياه ان يبقى لتناول العشاء وقضاء الليل في الوكالة لدواعي السلامة، اجابه ضاحكا
ــ واين هو الليل، وقد ظهر هذا القمر، زاهيا كامل الاستدارة يحيله الى نهار؟ اما الدعوة لتناول العشاء فهي مقبولة ولكنها مؤجلة الى يوم قادم باذن الله.
مضى السردوك ناشرا غبار سيارته، ولحقت به السيارة المرافقة، تصنع هي الاخرى عمودا من هذا الغبار الذي تقع عليه اشعة القمر، فيغذو غبارا فوسفوريا له لون فضي. تبادل الناس عبارة quot; تصبحون على خيرquot;، عائدين الى خيامهم، الا الاومباشي جبران الذي استبقاه بانايوتي لكي يتحدث معه على انفراد، فالبدر الكامل يضفي على المكان غلالة ذات جمال وصفاء، ويصنع جوا يغري بالمشي في هدأة الليل عبر الخلاء الممتد العابق بالسلام والسكينة.
عب بانايوتي جرعة من النسيم المضمخ بعبق العرعار والشيح، واصدر تنهيدة عميقة، قبل ان يقول:
ــ لم يكن ينقصني هذه الليلة الا رجلا في يده السلطة الحكومية مثل السردوك لتكتمل من حولي حلقات الحصار.
ــ لن يستطيع ان يفعل شيئا لك.
ردعليه صديقه الاومباشي، واكمل كلامه:
ــ هذا اذا واجهتم الموقف متحدين متراصين، ولكن الامر يختلف اذا ازدادت حدة الخلاف بين الفونسو وزوجته وبالتالي بينكم وبينه،فسيجد عندئد هذا الثعبان صدعا في الجدار يتسلل منه.
ــ الا ترى انه زرع شرطيا من اعوانه السريين بيننا،بعد ان مهد لذلك بحكاية ان هناك مجرما هاربا يعيش في الوكالة، وارى انه جزء من خطة ينوي تنفيذها لم تظهر تفاصيلها بعد، فما الذي تراه سيفعل بعد ذلك؟
ـــ جميل يا سيد بانايوتي انك على وعي كامل بخزعبلاته، نعم، هذا ما كنت اقوله ايضا، فحكاية المجرم الذي يختبيء بيننا مجرد كذب.
ــ نعم، ولكن الهدف، ما هو؟
ـــ لا يهم، ليرسم ويخطط ويتآمر كما يشاء، فسيظل الطريق مسدودا، لان يده مغلولة بقرار الجنرال بلاكلي، الذي يمنعه من الاقتراب من عنصر غير ليبي.
ــ قد لا يستطيع القبض على الفونسو، او استدعائي الى المركز الذي يديره، ولكنه يستطيع ان يحارب الوكالة.
ــ الوكالة ليست رهن ارادته، فهي شيء يريده الناس ويحتاجونه ويمثل مصدر رزق لهم، في وقت اوصدت فيه مصدار الرزق الاخرى ابوابها، فمن يجرؤ على محاربة الوكالة، الا اذا كان مجنونا، يريد جلب سخط وثورة الناس ضده؟
ــ المهم انني لست مرتاحا لنوايا الرجل.
ــ نعم، فهومليء بالنوايا الكريهة، لكن قدرته على الفعل محدودة، لقد افصح صراحة على انه يريدك ان تطلق له انجيليكا من الفونسو، لكي يتزوج بها.
ــ اولا، لا احد يستطيع ان يطلق انجيليكا من الفونسو، الا الفونسو نفسه، ولو حدث وهو امر بعيد الاحتمال، فلن يستطيع ان يتزوج انجيلكيا الا الانسان الذي تريده هي، فالامر خارج نطاق اختصاصي، ولن ينال شيئا بالضغط علي.
شاهد الاثنان في البعيد، طيفان لرجل وامرأة يسيران خلف ظلين طويلين يصنعه لهما البدر المرشوق على حافة الافق، راجعان الى النجع من منطقة ما في عمق الخلاء، تابعاهما وهما يواصلان سيرهما حتى وصلا الى حرم الخيام فذهب كل منهما في اتجاه، دون ان يستطيعا فعل شيء لمعرفة من هما، ولكنه كان واضحا انهما قادمان من مغامرة غرامية، هي من بيوت العائلات الزنجية حيت اتجهت الى منطقة الاكواخ، والرجل من ابناء البادية، حيث اتجه الى خيمة تتوارى خلف بقية الخيام.
ـــ 15 ـــ
عاد بانايوتي الى بيته ليجد ابنته ما تزال موجودة في البيت، غير راغبة في العودة الى بيت زوجها، وهو ما زاد من قلقه، خاصة وان كلمات صاحبه الاومباشي ما زالت تتردد في راسه عن مواجهة السردوك ونواياه الشريرة بموقف موحد صلب داخل العائلة، لا وجود فيه لشقاق بين ابنته وزوجها. انه برغم ما احس به من سكينة بسبب التطمينات التي وردت في حديث الاومباشي، ما زال خائفا من الرائد الرمادي الشكل الذي تتحدث الصحراء عن مكره وخبثه وقدرته على ممارسة الشر وحبه لارتكابه، وهو يأسف حقا ويشعر بالاسى لان يجد رجلا مثله يعترض طريقه، مع انه ما ترك المدينة وجاء يبحث عن العزلة بين الجبال، الا لانه رجل يؤثر الهدوء والسكينة ويكره الصراعات، وارتضى بان يتخذ لنفسه مكانا وسط الصحراء هروبا من الوقوع في الصراع الذي يحكم الحياة في المدينة واسواقها، حتى لو كان هذا الصراع روتينا مألوفا يمليه التنافس بيه اهل المهنة الواحدة، مما يحدث بين موظفي الشركة، وبين اصحاب الدكاكين، دون ان ينتج عنه ضرر او ادى لاحد. عافت نفسه كل انواع التنافس والصراعات، فرحب بفرصة الانسحاب من حياة المدينة القديمة في طرابلس والانتقال باسرته الى الصحراء لتأسيس هذه الوكالة، راجيا من عمله في هذا الخلاء،ان يوفر له حياة اقرب الى الرهبنة، خاصة وانه يجد هنا بيئة لا تختلف كثيرا عن البيئة التي شاهدها تزحم بالرهبان والزاهدين في ضواحي مدينة الاسكندرية اليونانية التي قضى بها طفولته، فهو قد تهيا له ان وجوده في جناين العرعار محاطا بمربع الجبال، وسط متاهة الصحراء التي تترامي خلف حلقة الجبال، شيئا يوقظ في ذهنه ما شاهده وعاينه في طفولته، في اليونان وما سمع عنه عبر حكايات امه وابيه واعمامه وعماته عما يفعله رهبان الكنيسة الاورثوذكسية اليونانية في جزيرة كريت وساندوريني ولاوس وقبرص، حيث يذهب الراهب الى ابعد المناطق الموغلة بين الجبال الجرداء، ويختار هناك كهفا او تجويفا لا يصله باحد، او لا يستطيع الوصول اليه الا قلة من ناس، فيتخذه مكانا لرهبنته، ولا يشترط في مثل هذا المكان الا وجود شق صغير بين الصخور ترشح منه قطرات من الماء تصلح مصدرا لشرابه، وقليل من التربة وسط الارض الصخرية الجبلية تصلح لانتاج شيء من العشب القابل للاستهلاك البشري كالخس، يكون مصدرا لغذائه المتقشف الضئيل الفقير، يقدم له الحد الادنى الذي يحتاجه للبقاء على قيد الحياة، هكذا كان يرى اهل المثل والقدوة، ممن انقضى زمانهم، ولا سبيل لتقليد اسلوبهم تقليدا كاملا، ولا يطمح الى ذلك، بل يطمح فقط لامكانية الاقتراب منهم، والاقتداء بالمعنى الذي يمثلونه، ويسعون لتجسيده في الحياة.
يتبع غدا
التعليقات