رواية جديدة لأحمد إبراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي

الحلقة الرابعة: الفونسو وانجيليكا

لم يكن بانايوتي يستطيع ان يستقر في مكان واحد، فهو ما زال يشعر بان جوانب كثيرة في الوكالة تحتاج الى مزيد من الجهد لاستكمالها، مع كل ما قام حتى الان بانجازه، اذ لا يكاد يمضى شهر منذ ان انشأ الوكالة الا وثمة شيء يضيفه اليها، وكان آخر ما استطاع انجازه هو استصلاح جزء من الارض التي تحيط بهناجر الوكالة ومقر سكناه والحانوت، واستحداث مربعات زراعية فيها، حيث يتولى بنفسه استخدام خرطوم للمياه لسقي الزرع والنباتات في هذه المربعات، ساحبا الماء من سيارة الخزان او ( البوطو ) المخصصة لنقل الماء في دورات متعاقبة من مزدة وتغذية الصهاريج المبنية في الارض، وتعبئة البراميل التي تشبه احواضا معدنية يستفيد منها اهل النجع وعمال الوكالة في سد حاجتهم من الماء شربا واغتسالا، وقد غرس في هذه المربعات الزراعية بجوار الخضار الموسمية ونبتات النعناع التي يفوح عطرها في ارجاء المكان، فسائل نخل وشتلات زيتون وتين وكروم، تشي لمن يراها بصدق نية غارسها في البقاء هو ايضا مغروسا لاعوام كثيرة في هذه الارض فهي فسائل وشتلات تحتاج الواحدة منها لمدة لا تقل عن اربعة اعوام حتى تنمو وتبدأ في طرح أكلها، واحاط هذه المربعات بحواجز من اشجار التين الشوكي، ولم يقتصر عمله على هذه الاعمال الكمالية التي تضفي بهاء على المحيط الذي يعيش فيه، وانما انتقل باهتمامه الى اهل النجع، يساعدهم في اكمال ما يحتاجونه من مرافق، وبعد الانتهاء من الماء والكهرباء، ساعدهم في اعداد المسجد، الذي يجمع الرجال اثناء الصلاة، والذي كان عبارة عن خيمة وضعت فيها الاكلمة والحصران، وعلقت عند السقف فوق اعلى ركيزة بها لوحة خضراء على شكل هلال، وتم اقناع الفقي عمار لكي يتولى رفع الاذان، والقيام بدور الامام وبالذات خلال صلاتي المغرب والعشاء حيث يكون الرجال قد فرغوا من عملهم في الشعاب وعادوا الى النجع، وكذلك خلال صلاة الفجر قبل مباشرة العمل، واضحت خيمة الجامع هي خيمة المناسبات الاجتماعية، كما حدث عندما اقيمت اكثر من حفلة لختان الاطفال، وكان الفقي عمار يتولى ختانهم لسابق خبرته بهذا العمل. اما بانايوتي فقد كان مسكونا بالقلق، يتفقد كل شيء بعين ناقده، ويرى دائما وجود شيء ناقص ينبغي استكماله، ولا يتواني في السعي جاهدا لتحقيقه وانجازه، وقد كتب في سجل يومياته:
(( كم مضى من الوقت لم افتح هذا الكراس ولم اسجل فيه خاطرة واحدة، انه الانشغال، فالتأسيس شيء شاق، وشي ء ياكل الوقت ويستهلك الجهد، ولا تظهر نتائجه الا بعد اعوام واعوام، خاصة تاسيس المدن، فهل يمكن اعتبار هذه الوكالة حقا مدينة من مدن المستقبل ابدا ببركة الله في تاسيسها، اليس خطا ان ابدأ عملي ببناء الاوهام قبل بناء الاساس الحقيقي لما يحتاجه العمل، هناك مهمة اساسية هي الحلفاء، شراءها ونقلها للوكالة في طرابلس، وهو انتاج محدود بطاقة المنطقة على الانتاج، وطاقة اية وكالة في اي جزء من هذه البلاد على هذا الانتاج وما وصلناه الان في هذه الوكالة هو سقف ما وصلته اية وكالة اخرى، سيارة شحن في اليوم، هو اقصى ما وصل اليه انتاج اية وكالة، وان نضيف الى هذه السيارة اليومية مقطورتين في الاسبوع فهذا شيء يفوق كثيرا، ما حدث مع الوكالات الاخرى، وباعتباري صاحب الوكالة فيجب ان اقبل يدي وجها وظهرا لهذا الانجاز، لا استطيع ان اقول ان هناك موارد اخرى في المنطقة يمكن ان تقوم عليها تجارة او صناعة تجلب مزيدا من الناس، ولكن المستقبل بيد الله، حتى وان وجدت هذه المصادر فلا شأن لي بها، وكالتي وكالة للحلفاء، فليات من يصنع الفحم اذا شاء، او يكتشف الحديد ويقوم باستخراجه، او يصنع من رمال المنطقة معدات واواني من الزجاج اذا استطاع ولكنه امر لم يقدم عليه احد في السابق وقد لايقدم عليه احد في المستقبل المنظور، فلا حاجة بي لان اشغل نفسي بغير الانتاج الذي تخصصت فيه، واقبل الناس على العمل فيه وصار يشكل مورد رزق لهم، بدلا من حياة البطالة والعطالة، ليس ما يهمني حقا انشاء المدن، وانما هو ترميم نفسي، وبناء حياة روحية لشخصي تنسجم مع ما اطمح اليه من صفاء وهناء روحي وسلام وطمانينة كتلك التي احس بها اولئك الاسلاف من الرهبان الذين كانوا موضع فخر اهل اسكندرية لان الواحد قضى عمره عائشا فوق عرف شجرة او وسط حفرة في الجبل او في تجويف صخرة من صخوره، متوحدا مع ذاته، عابدا ربه، مكتفيا به عن بقية الخلق، قد لا اطمح الى ان كون مثل اولئك القديسين، ورجال الله الافذاذ، لان لهم من البركة ما يمكن ان يأمروا بها الريح ان تقف اذا كانت تؤذيهم والمطر ان تجف، اذا ارادوها كذلك، ا وان تهطل لتزويدهم بالماء، ويامروا العشب وحشائش الارض ان تنبت فوق الصخور بجوارهم لتكون هذه الحشائش طعاما لهم، وهذه قدرات لا املكها وكرامات اعجز عن اجتراحها، ولكنني اتوق بامكانياتي الروحانية المتواضعة ان اعيش بما يجعلني مكتفيا بالله عن الناس وبحياتي الداخلية عن العالم الخارجي، ولو بدرجة محدودة، لا تبلغ حد الكمال الذي بلغه اهل التربية الروحية الراقية، ولا تحرم من بعض اللذائذ التي احسوا بها، فليكن هو العماد وهو المعين))

ـــ 8 ـــ

فتى في سن ابنه، اعترض طريق الاومباشي جبران، بعد ان انتهى من صلاة العشاء عائدا الى خيمته، ليستوقفه هامسا في اذنيه جملة واحدة اربكت الاومباشي وجعلته يعدل عن العودة الى بيته، ويتجه بدلا من ذلك الى خيمة القهوة، التي غالبا ما يستفرد بالجلوس فيها شباب النجع، يلعبون الورق حتى ساعة متأخرة من الليل ويستعينون بضوء مصباح الغاز بعد انطفاء محرك الكهرباء، سيذهب ليتفقد ابنه يوسف هناك. كان الصبي الذي اعترض طريقه قد ابلغه بان ابنه واعد امرأة زنجية وذهب بها خارج النجع، عند سفح الجبل ليقضي معها لحظات غرامية، وقد فاجأه ما سمعه، ولم يستطع تصديقه، كما لم يستطع توجيه اية اسئلة للصبي يستوثق بها مما قاله، فقد قال الولد جملته كالاطلاقة وانصرف مسرعا يبتلعه الظلام، هل كان حقا غافلا عما يفعله ابنه، ناسيا انه قد كبر وبلغ مبلغ الرجال، ولكن أي مبلغ وأي رجال لصبي في السابعة عشرة من عمره، واين ذهبت التربية الدينية التي حرص على ان يربي بها ابنه، ليرتكب اثما كهذا، لا يلحق الاذي بنفسه وسمعته فقط بل باسرته ايضا، وبابيه الذي يرى فيه الناس مثلا وقدوة لهم، اذ كيف سينظرون اليه اذا وصل الى اسماعهم خبر هذه الفضيحة، فالصبي الذي اخبره بما يفعله ابنه، قد ينقل الخبر الى اخرين، ينقلونه بدورهم الى دائرة اوسع من الناس وتكبر الفضيحة، وهناك غير الفضيحة الخطر على حياة الولد، اذ يمكن ان يثير مثل هذا الخبر غيرة وحمية احد افراد عائلة الفتاة فيلحق بهما او يترصد لهما بهدف الانتقام منهما، ثم من تراه يأمن على نفسه الاختلاء بامراة ومعاشرتها بين الاحراج والصخور عند سفح الجبل وفي ظلمة الليل البهيم، حيث لا سبيل الى تبين العقارب والافاعي والهوام السامة الضارة، والحيوانات المفترسة، انه يرجو صادقا، متجها بالدعاء الى خالق الكون، ان يكون الولد الذي اعترض طريقه كاذبا او مخدوعا، لم يستطع التفريق بين ابنه يوسف وبين فتى اخر من اترابه، سيذهب بنفسه الى المقهى ليتأكد، ويتطلع في وجوه الشباب الجالسين هناك واحدا واحدا، فان لم يجده هناك فلن يسأل عنه، لكي لا يثير ارتيابهم بمثل هذا السؤال، ووجد عندما وصل المقهى يورجو يتولى خدمة الشباب وخدمة نفسه، لانه كان يضع فوق طارمة الخدمات زجاجة اوزو بجوارها كاسا مليئا بالسائل اللبني اللون، يعب منه دون ان يشاركه احد من شباب النجع شرب الخمر، لخوفهم من اهلهم فيما يرى، بينما يشربها يورجو دون حرج مثلما يفعل اهله في بيتهم، فطلب منه كوبا من الشاي الاخضر المخلوط بالنعناع، دون ان يخشى من ان يبقيه الشاي مسهدا، لانه يعرف الان، بعد ان بحث بين الجالسين عن ابنه ولم يجده، ان النوم لن يواتيه هذه الليلة سواء شرب الشاي او لم يشربه، سيذهب ضاربا وسط المتاهة والظلام، باتجاه سفح الجبل، مدركا انه جهد لا طائل من ورائه، فهو لا يعرف مكانا محددا يتجه اليه، ثم انه لن يستطيع ان ينادي باسمه، لكي لا يفضحه امام اهل النجع، الا انه سيذهب مهما كانت النتيجه، فقد يسمع صوت ابنه يطلب النجدة، فيكون قريبا قادرا على انقاذه، وسيذرع هذا الفضاء، وسط هذا الليل الذي غاب بدره، وتضاءل ضوء نجومه بسبب غبار احمر انتشر منذ المساء وصنع طبقة ضبابية، تحول دون وصول الضوء القادم من النجوم في جلاء وقوة مثل بقية الليال. ذهب الى خيمته اولا، واختطف البندقية ووضعها على كتفه تحسبا لحدوث أي شيء يوجب استعمالها، وسار باتجاه اقرب السفوح، يتعثر فيما يعترض طريقه من احجار ونبتات عجرم متيبسة الاغصان، غير قادر على ان يتبين موقع قدميه، فالضوء الخافت المتسلل من النجوم غير قادر على ان يقدم له ما يكفي من الاضاءة، ليعرف طريقه، كما انه لا يستطيع ان يرى العالم امامه، اشجارا وجبالا وصخورا وكثبانا من الرمال، الا على شكل اشباح، ويلتفت بين الحين والاخر وراءه ملقيا نظرة على اضواء النجع منصتا لما يصدر عنه من اصوات، ليستمد منه شيئا من الونس، مقابل هذا العالم الموحش الذي يرتمي امامه، ومضى حتى اوغل بعيدا عن الوكالة وعن النجع، وعندما رأى انه يستطيع ان يرفع صوته مناديا ابنه دون ان يخشى وصول صوته الى احد من اهل النجع، صاح باسم ابنه يوسف، وسمع رجع الصدى، تردده الجبال، فاكتفى بان نادى عليه مرة واحدة، واثقا انه لا يمكن ان يتفادى ابنه سماعه لو كان حقا موجودا في مكان ما من هذه السفوح، وقد صار الان يسير بمحاذاة قدم الجبل، متطلعا الى ان يرى شبح انسان يتحرك امامه، فلم ير احدا، وانصت بانتباه فلم يتناهى له أي صوت غير صرير الجنادب، وعواء ذئب تاتي به الريح من اصقاع بعيدة، ومضى متمهلا بمحاذاة الجبل، يطوف بكل صخرة كبيرة تصادفه، دون ان يلحظ شيئا يثير انتباهه، فهل كان الامر كله مجرد مزحة من هذا الصبي؟ ولكن لماذا تراه يفعل ذلك؟ هل لمجرد العبث واللعب؟ انه امر يبعث حقا على الحيرة والريبة. وراى بعد ان قطع مسافة عند سفح الجبل، انه لم تعد هناك ضرورة لان يتقدم اكثر من ذلك، لان من اراد ان يكون بمعزل عن النجع، لا حاجة لان يبتعد اكثر من هذه المسافة، فهو بالتاكيد اجتاز المكان الذي يمكن ان يختلي فيه ابنه وصاحبته، اذا كان في الخبر نصيب من الصحة، واكتشف وهو يقفل عائدا، انه لم يعد يستطيع ان يرى اضواء النجع ليهتدي بها في طريق العودة، فقد انخفضت به الارض المحاذية للجبل الى حد حجب عنه تلك الاضواء، وصار عليه ان يضرب عائدا دون ان يتاكد حقا من الاتجاه الذي يسير فيه، واستوجب الامر ان يقضي في العودة الى النجع وقتا اكثر مما قضاه في ذهابه، لانه لم يستطع ان يمضى في طريق مستقيم، واحتاج الى تصحيح المسار بعد ان انحرف اكثر من مرة عن هدفه، خاصة ان اضواء الكهرباء كانت قد انطفأت، وصار النجع وصارت ابنية الوكالة جزءا من كثلة الظلام التي تملأ الكون امامه، الا انه وصل اخيرا الى خيمته، وكانت المفاجأة ان ابنه كان هاجعا في الركن المخصص لنومه من شق الخيمة، غاطسا في النوم. ارتمى الاومباشي جبران مجهدا فوق فراشه، وانتبه الى الخدوش الكثيرة في ساقيه، ففتش عن مرهم مصنوع من رحيق الاعشاب دهن به الساقين واستغرق في نوم عميق لم يوقظه منه الا صوت الفقي عمار يرفع اذان الفجر، فقام وتوضأ وعمد الى ايقاظ ابنه يوسف، الذي استيقظ مفزوعا،لانه لم يتعود على الاستيقاظ في مثل هذا الوقت الباكر، فسأله والده ان ينهض ويتوضأ ليرافقه لصلاة الفجر.
كان امر هذه الصلاة مفاجأة للصبي، ثم ما هذا الوضوء الذي يمكن ان يباشره الان وهو في هذا الحال، وعرف الاب سبب حيرته، فان كان حقا قد اقترف الحدث الاكبر، فهو يحتاج الى الاغتسال من الجنابة قبل الوضوء للصلاة، ومثل هذا الاغتسال ليس متيسرا دون تحضيرات يتم الاعتناء بها منذ مساء الامس، اعداد ركن للاغتسال وتحضير نار لتسخين الماء وماعون نحاسي للاستحمام، ورغم ان الاب اشار الى صخرة صغيرة من الصوان يستطيع ان يتطهر بها تيمما، الا ان الابن لم يكن واثقا ان التيمم يمكن ان يزيل الحدث الاكبر، وتحت الحاح والده قام يوسف بالتيمم مرتين مرة لازالة الجنابة ومرة للوضوء، وجمع شجاعته وهو يسأل والده عن السبب في اصراره على حضور الصلاة هذا اليوم، فاجابه الاب بان صلاة الفجر جماعة في خيمة المسجد امر استحدث اخيرا، واذا ما سهى عنه بضعة ايام قبل اليوم، فانه لم يعد ممكنا الاستمرار في ذلك بعد ان اصبح تقليدا ثابتا، خاصة وانه صار رجلا كامل الرجولة، يلزمه الدين بان يقوم بواجب اداء الصلوات الخمس في اوقاتها كل يوم،وسيتولى في كل فجر ايقاظه ليرافقة للصلاة.

عادا من الصلاة الى الخيمة، فارتمى الابن فوق فراشه لاستكمال نومه، بينما بقى الاومباشي جبران، يقرأ اوراده، ويواصل اداء النوافل ثم صلاة الصبح، حتى استيقظ بقية اهل البيت، لاعداد وجبة الافطار المكونة من شاي وخبز، ولم يشأ الاب ان يفاتح ابنه بما سمعه عنه وما قام به من مغامرة ليلية بحثا عنه عند سفح الجبل، اكتفى بما حدث في الفجر، حامدا الله ان الامر انتهى عند هذا الحد دون حدوث مكروه، مصمما بينه وبين نفسه الا يغفل عن مراقبة ابنه او يسمح لاحتمال حدوث شيء كالذي سمعه عنه مرة اخرى، وسيحرص على ان يرافقه ابنه اثناء صلاة العشاء وصلاة الفجر والا يتركه يغيب عن عينيه اثناء الليل.
اشرقت شمس الصباح وبدأ الاستعداد للذهاب باوتادهم التي يقلعون بها الحلفاء وسلالهم وشباكهم التي يجمعونها فيها وحبالهم التي يربطونها بها، متجهين الى الشعاب، وفوجي الاومباشي جبران بابنته تقف امامه وقد وضعت يدها في يد صديقتها انجيليكا، وعرف عندما سأل الفتاة انها توسلت لوالدها وامها ان يتركاها تذهب للشعاب، لانها تجد متعة في الذهاب الى هناك صحبة صديقتها مريم، وقضاء وقت في احضان الطبيعة بين الجبال، حتى وافقاها على ذلك، الا انه لم تمض غير لحظات قليلة، حتى جاء شقيقها يورجو غاضبا، طالبا منها ان تعود معه الى البيت، رافضا ان تذهب مع هذه الاخلاط البشرية الى الشعاب، ورفضت انجيليكا باصرار ان تستجيب له، مما حذاه الى ان يتقدم منها رافعا يده مهددا بضربها ليحملها على العودة الى البيت بالقوة، فاسرعت تتوارى خلف الاومباشي جبران محتمية به من اخيها، بحيث وقف الاوباشي حائلا بينها وبين وصول يورجو اليها، قائلا له بان كلمة والديه فوق كلمته بشأن ذهاب اخته الى الشعاب، ولهذا فان عليه ان يعود من حيث اتى تاركا اخته تفعل ما تريد بعد ان اخذت اذنا من ابيها وامها. وعندما اراد ان يهجم على اخته دفعه الاوباشي في صدره بقوة حتى كاد ان يسقط فوق الارض، ومرغما تراجع وهو مازال ساخطا يتوعد اخته بالانتقام عندما تعود.
كان الاومباشي، ما زال وهو يقود عائلته الى الشعبة، منشغلا بامر ابنه يوسف الذي اظهر له وجها جديدا لا يعرفه وظل يتلصص النظر اليه، من حين الى آخر، ويرقب اخضرار ذقنه الذي صار الولد يداوم على حلاقته، مرتين او ثلاث مرات في الاسبوع، ويلحظ ان هناك تحولات وتداعيات استوجبتها هذه التحولات التي كان يراها دون ان يتوقف عندها الا الان بعد ان جاء التنبيه من مصدر خارجي، وانزعج ان رأى ابنه اثناء الطريق يقترب من انجيليكا، ويتبادل معها حديثا هامسا، وهي تتمخطر بدلال، ترتدي تنورة ضيقة تلتصق بعجيزتها، وقصيرة تترك ساقيها عاريتين، يتالقان باشعاعات الفتنة، والولد في سنها او يكبرها بعدة اشهر، ولديه فيما يبدو خبرة بتعليق النساء، فهي ترنو اليه بشيء من الانجذاب، ثغرها باسم وعيناها يفصحان عن اعجاب بكلامه الهامس، ومعنى ذلك ان ثمة شيئا يمكن ان ينمو بينهما، وهو ما لا يريده الاب، فهو غرام خطير اذا حدث، ولا مستقبل له، فلا هو لها ولا هي له، وكلاهما من دين غير دين الاخر، وقوم غير قوم الاخر، وموطن غير موطنه، وتقاليد وعادات غير تقاليد الاخر ولا عاداته، فهي علاقة اذا حصلت ستجلب معها نذر الشر، فليته لم يسع منذ البداية لجلبها مع ابنته، بل ليته وافق اخاها هذا الصباح على ارجاعها الى البيت، ورأى ان يكون حازما وصريحا مع ابنه، الا انه لم يستعجل الامر، وانتظر الى حين الوصول الى الشعاب وبدء التقاط نبتات الحلفاء، فاقترب من ابنه وجره بعيدا عن بقية الجمع، ليخاطبه بلهجةغاضبة قائلا من تحت الضرس:
ــ ليس في كل مرة تسلم الجرة.
ــ لم افهم يا ابي
ــ اسمع ما اقوله لك، لا تقترب من ابنة بانايوتي، ولا تتهامس معها، ولا تشغل بالك بها، هل هذا واضح؟
ــ لم اقل لها أي شيء يمكن ان......
قاطعه الاب بحدة:
ـــ لا اتكلم عما مضى، اتكلم فيما يأتي، لا تعد للحديث معها في أي شيء، واتركها وشأنها.
تركه ومضى ينتزع اوراق الحلفاء بغل وحقد.

ـــ 9 ـــ

وقفت انجيليكا خلف الشاحنة تنتظر ان ينتهي الفونسو من انهاء رص حزم الحلفا فوقها ثم يهبط ليترك لاثنين من زملائه العمال مهمة احكام ربط شبكة من الاسلاك المعدنية حولها، لضمان تثبيتها في مكانها فوق الشاحنة لا تتاثر بما يحدث لها من هزات وما يعترض طريقها من مطبات، وتحركت انجيليكا تقطع على الفونسو الطريق قبل ان يصل الى صنبور الماء ليزيل ما علق به من قش وغبار قائلة له بلهجة يساورها الغضب ممزوجا بالدلال
ــ هل تراني طفلة امامك يا الفونسو؟
كانت تكلمه باللغة العربية، لانها لا تفهم لغته الايطالية ولا هو اليونانية، واللغة المشتركة بينهما كمنتمين للمجتمع الاجنبي في المدينة القديمة، هي اللغة العربية بلهجتها التي يتكلم بها اهل باب البحر.
ــ من قال انك طفلة يا انجيليكا؟ انت امرأة ما شاء الله، تتمتع بالعلو والامتلاء، كما يقول الناس في باب البحر.

ـــ ولكنك تعاملني دائما باعتباري طفلة، ولم اشعر يوما انك تعاملني كامرأة، ولازلت عندما تاتي ترمي لي ببعض قطع الكاراميلا اول ما تراني
ــ كنت دائما تقبلين عليها بفرح وحماس
ــ كان ذلك في العام الماضي
ــ وما الذي جد هذا العام؟
ــ ما حدث هو انني منذ اسبوع مضى احتفلت ببلوغي السابعة عشرة من عمري.
ــ لو كنت اعرف لكنت جلبت لك هدية بالمناسبة، ولكن لا تغضبي، ساجلبها لك في مشوار الغد، اما الان فهاتي خدك اقبله واقول لك عيد ميلاد سعيد يا عزيزتي انجيليكا.
ولم يكن هو ولا انجيليكا يعلمان ان يورجو، كان قد خرج من خلف الشاحنة ووقف خلفهما، يسمع ما يقولان ويرى ما فعله يورجو وهو يقبلها فوق خدها، فانتفض هائجا، ثائرا، وانتصب امام الفونسو، يشتمه ويسدد له لكمة جعلته يفقد توازنه ويتداعى ساقطا فلا يحول بينه وبين السقوط فوق الارض الا اصطدام راسه بحديد الشاحنة، الى حد ان نزف الدم من جبينه، فهرعت انجيليكا للامسك به وهي تصرخ وتشتم اخاها، وقد تدافع العمال يفصلون الاشتباك بينهما ويجرون يورجو بعيدا عن الفونسو، وياخذ احدهم الجريح الى داخل خيمة العمال لاسعافه، ومسح الدم الذي يسيل من رأسه، وتهرب انجيليكا باتجاه البيت تستنجد بامها.
حدث ذلك مباشرة عقب العودة من الشعبة، ساعة المغرب ومع انطلاق صوت المحرك ينشر انوارا تبدد العتمة، وجاءت الام كاتيا، وجاء بانايوتي يصطحبان ابنتهما، وقد تركت المرأتان للاب مهمة الاستفسار عن سبب الهجمة التي قام بها ابنه ضد الفونسو، متجها بالسؤال بداية الى ابنه الذي ابى ان يرد مباشرة على السؤال واتجه بالخطاب الى اخته يهددها قائلا:
ـــ اللوم كله يقع على هذه التافهة، فدعوني القنها درسا لن تنساه.
اسرعت الفتاة للاحتماء خلف امها وعمد بانيوتي الى تكرار السؤال على ابنه، ملحا في معرفة السبب، فلم يزد ابنه على ان قال:

ـــ انه دائما يتعمد استفزازي.
وانتقل الاب الى حيث وقف الفونسو وسط عدد من العمال يحيطون راسه بقطعة شاش، يحاولون بها ايقاف نزيف الجرح، فاعتذر منه عما بدر من ابنه، واضعا اللوم على هذه الحالة العصبية التي تنتابه، ثم رفع صوته ينادي ابنه ان يأتي ليطلب السماح من الفونسو ويعتذر له بنفسه عن فعلته، وانضمت كاتيا الى زوجها تعينه على تحقيق المصالحة بين الاثنين، ودفعت ابنها في ظهره كي يتجه الى غريمه ويمد له يده للمصافحة، وبعد تردد من جانبه والحاح من جانبها، مد يده دون كلام، وتصافح الاثنان، واعتبر الحاضرون ان الاشكال بينهما قد انتهى، ومصطحبين ابنتهما عاد بانايوتي وزوجته الى البيت، يريدان ان يعرفا منها تفاصيل ما حدث، مدركين انها كانت سببا لهذا العراك بين الاثنين، وحاصراها بالاسئلة حتى ارغماها على الاعتراف بما حدث بينها وبين الفونسو، قائلة انها ذكرت بطريقة عرضية الاحتفال بعيد ميلادها فتقدم لتهنئتها مصافحا، طابعا قبلة على خدها، واعدا باحضار هدية لها، وحدث ان خرج يورجو من خلف الشاحنة ليرى ما حدث فهجم غاضبا على الفونسو بتلك اللكمة التي اسالت منه الدم، وكل ما طلباه منها، بعد ان فرغت من حديثها، هو ان تتجنب الحديث مع الفونسو، او الالتقاء به، طالما ان هذا الموضوع يثير اعصاب اخيها، وتناقل الناس في الوكالة والنجع اخبار المعركة بين شقيق الفتاة وحبيبها، مضيفين اليها من خيالهم ما يجعلها اكثر تشويقا واثارة، فالقبلة على الخد، انتقلت بفضل هذه الاضافات، الى قبلة على الشفتين، وتواصل الحديث حول هذه القبلة جهرا وسرا في الشعبة اثناء جمع الحلفاء، وبين اناس يرون انجيليكا تخطر بينهم، متاحة وسافرة الوجه محلولة الشعر، لمن يريد ان يرى ويتفحص ويتأكد من مكامن الفتنة التي اشعلت الحرب بين شقيقها وحبيبها، ولم يكن الناس رجالا ونساء وصغارا وكبارا يترددون في القاء هذه النظرات الفاحصة عليها، وكأنهم يكتشفون لاول مرة مدى قوة انوثتها وجمال فمها والالق الذي يشع من جبينها ووجنتيها واتساع عينيها وطول رموشهما وانسيابية جسمها وما يصدر عن الاجزاء المكشوفة من جسمها كالنحر والصدر والساقين من اشعاعات مغرية، وما يحتويه الجسم من داوئر وتعرجات ونتوءات تنبيء بالانوثة في اوج ازدهارها وتفجرها، ولم يكن الاومباشي جبران، الرجل المؤتمن على رعايتها، استثناء من هؤلاء الناس الذين ارغمهم الحدث على اعادة اكتشافها، والتلصص على مواقع الفتنة في جسمها وذا كان في يوم مضى قد خشى عليها من ابنه، فهو اليوم يخشى منها على ابنته التي هي اقرب صديقة لها، خاصة وهو يرى نظرات الشبق التي يتجه بها الرجال لانجيليكا، فهذه النظرات ستجد مريم ابنته موجودة في مجال رؤيتها، وقد ينالها نصيب من هذا الاذى والانتهاك للخصوصية الذي تحمله هذه النظرات وما يرافقها من همس وشائعات.