رواية جديدة لأحمد إبراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الأولى: مجتمع بين الجبال
ــــ 1 ـــ
كان ما اصابهم شيئا لا اسم له، حتى وان اطلقوا عليه اسما مثل البطالة فهو ليس حقا بطالة لان هناك اعمالا يقومون بها تتصل بالحرث احيانا والحصاد احيانا والرعي احيانا والصناعات اليدوية التقليدية التي يستخدمون فيها موادا اولية من الطين او الصوف او الوبر او القصب او جريد النخيل وليس بغريب ان يعثر بعضهم على عمل له اجر ثابت مثل حفر الجبل لمد طريق، او التحاق انفار منهم في الجيش او الشرطة، وربما اطلقوا على هذه الحالة اسما ثانيا مثل المجاعة، فالناس مع ذلك يأكلون، حتى لو كان هذا الأكل تمرا قديما مليئا بالسوس، او شيئا من جمار النخيل، او حشائش يلتقطونها من بين الشعاب، او لعل هناك من يسمي هذه الحالة الميزيريا، وهي كلمة من مخلفات الطليان تعني البؤس، ومع ذلك فهم يتزاوجون ويقيمون الافراح ويطلقون الزغاريد والاهازيج الشعبية ويشاركون في الرقص والغناء، ولابد ان هناك من اعتبر هذا النوع من الحياة خواء ورتابة وضجرا، ولكن هناك من جاءتهم الاثارة تسعى في شكل حملات تجنيد اجباري في جيش موسيليني، بعد ان اعلن انضمام بلاده الى الحرب الكونية في الصف الهتلري، واخذ هؤلاء الناس وقودا لحروبه فانجاهم من حياة الرتابة والجمود، ومن بقى ظل موجودا داخل عشيرته او ديرته او قريته سمها ما شئت، ولكن الاسم الذي يليق بها وبهم او بالمكان وقاطنيه، هو الفخ، لان الناس في هذه البقاع اطبق عليهم هذا الفخ فما عادوا قادرين عل ممارسة اعمال البادية بالمعني الحقيقي الذي يجلب الرزق ويطعم الاهل حرثا وحصادا ورعيا عبر كل المواسم والفصول، لان المطر امتنع اعواما عن الهطول الا في النادر جدا الذي قد يتيح العمل لقلة قليلة من اهل البادية، تاركا اغلب المناطق والاودية والنواحي وقد امحلت ابارها ونفقت اغنامها وحدث ان ترافق هذا الجدب والامحال مع انفجار الحرب العالمية الثانية فاغلقت البحار وانصرف جهد الحكومة لادارة الالة الحربية وتوجيه كل الموارد والميزانيات اليها، وبقيت هذه البوادي ومراكزها التي تعيش على تجارة القوافل باعتبارها محطات تلتقي عندها في ايام الحظ والزهزهة، بلا قوافل ولا نشاط ولا تجارة، ولا عمل لاهلها الا كتابة رسائل الاستجداء للحكومة، ولكن الحكومة مشغولة عنهم بهموم اخرى، وقضايا اعظم شأوا، وعندما يلتفت مسئول من مسئوليها ليسألهم هل هناك من مات جوعا منهم، كان جوابهم الصمت، لانه لم يكن هناك من مات جوعا بشكل صريح وواضح، ولكنهم جميعا كانوا يموتون بنوع مقنع من الجوع، لان هذا الذي لا يجد غذاء سوى حفنة شعير محمص، هو quot;القليةquot;، قد يقتل هذا الطعام احساسه بالجوع، الا ان المداومة على اكله وحده بلا أي مواد اخرى تحمل بعض عناصر الغذاء سيموت ليس بالجوع ولكن بسبب النقص في عناصر الغذاء وهكذا مع من يأكل بعض حشائش الارض التي لا تصلح للاستهلاك البشري. انهم كبارا وصغارا يموتون،وغالبا ما تسبق الموت حالة من الاسهال تصيب الانسان، ثم يكتشفه الاهل ميتا في احدى الصباحات، يوقظونه من نومه فيظل صامتا جامدا لا يجيب ولا يستيقظ، ومن بقى عائشا، فانه غالبا ما يتحول الى ما يشبه الهيكل العظمي، حيث يكون قد ذاب الشحم ولحق به اللحم والتصق الجلد بالعظم، وتكورت العينان داخل محجرين تحيط بهما دوائر سوداء، وهزل الجسم حتى ليجهده مجرد المشي بضع خطوات، وفي وسط هذه الحالة التي لا اسم لها جاء الى عمق البادية رجل اسمه بانايوتي، وينتمي للجالية اليونانية بطرابلس، لتأسيس وكالة لشراء الحلفاء من البدو، فكان انبثاقه بينهم بداية انتقالهم لحالة جديدة افضل قليلا من تلك الحالة التي لا اسم لها.
ـــ 2 ـــ
يبدو المكان في براعة تصميمه كانه خضع منذ بداية خلق الكون لتخطيط هندسي عبقري قام به مجموعة من نوابغ المهندسين المنتمين لملائكة السماء، لانه لا فضل للبشر في هذا التصميم والبناء، وان جاءوا فيما بعد يضيفون لمسة هنا واخرى هناك، وتزايدت افواجهم مع كر الايام تستفيد من جماليات المكان وامكانياته الطبيعية التي منحتها له الطبيعة في سخاء من صانع الكون.
اسم المكان جنائن العرعار، ربما لوجود غابة كثيفة من هذا النبات العطري الطبي، في ازمنة غابرة، لانه لم يبق من من تلك الاشجار الان الا القليل في مناطق الشعاب، بسبب حادث قديم افرغ المكان من هذه الغابة، والحادث كما يتناقله الرواة جيلا بعد جيل، هو ان جيشا كبيرا جرده الوالي التركي نامق باشا في بداية العهد العثماني الثاني قبل اكثر من مائة عام، لسحق تمرد قاده زعيم من اهل القبلة هو الشيخ عبد النبي، وفعلا استطاع الجيش تدمير كل النجوع والدساكر في تلك المنطقة التي احتضنت الشيخ الثائر ودانت له بالولاء وامدته بالرجال والبنادق والتموين، الا ان الجيش التركي دفع مقابل ذلك ثمنا فادحا من ضباطه وجنوده المرتزقة والانكشاريين والاتراك، ولجأ الشيخ عبد النبي بمحاربيه الى الغابة في جنائن العرعار يحتمي بها من هجوم الاعداء، ويتخذ من اشجار الغابة ذروعا عند رده للهجوم، وعندما وجد الجيش التركي نفسه عاجزا عن ملاحقة المقاتلين البدو داخل الغابة، عمد الى اشعال الحرائق في الغابة من اركانها الاربعة، بحيث ظلت نيرانها تستعر لعدة ايام، وهو يحاصر الغابة ويلتقط الثائرين الهاربين من الحريق، حتى اتت النيران في النهاية على الغابة باكملها، وبقى مكانها خلاء مقفر تحيط به تلك الجبال التي تشكل اربعة جدران تمتد عاليا في الفضاء تملاء اجوازه التي تفصل بين الارض والسماء، وتواترت الحكايات التي تروى عن معاصري تلك الحرب، ان صرخات الرعب التي كان يطلقها الرجال الذين ماتوا احتراقا ظلت تتردد لعدد من السنوات التي اعقبت تلك الحرب، ويزيد من رعبها ولوعتها ان الشعاب كانت تعيد ترديدها مع رجع الصدى في اوقات مختلفة من الليل والنهار الى حد ان اهل البادية كانوا يتجنبون الذهاب للاقامة في جنائن العرعار، او رعي الشياه بها، بل يانفون حتى من مجرد المرور من تلك المناطق التي ترتع فيها الاشباح، وبقيت الارض المحروقة التي كانت تحتلها الغابة مجرد ارض خلاء، حتى بعد ان تغير وجهها الرمادي الى وجه تغطيه خضرة الرتم والقزاح، والحرمل والثقفت والحنظل والرمث، او نبتات العجرم التي تعير الارض صبغتها الشهباء الصفراء، فيبدو المكان، كما رآه بانايوتي لاول مرة يدخل اليه، بما يحيط به من جدران الجبال عبارة عن قاعة عملاقة تنفع لاستخدام الارباب الذين كان يعبدهم اسلافه في زمن سحيق
يعقدون فيها مؤتمراتهم، عندما كان اولئك الاسلاف يجعلون لكل غرض في الحياة الها، او يلعبون فيها العابهم التي يتقاذفون خلالها بالنيازك والنجوم، تحيط بها هذه الجبال التي لا تتخذ شكلا دائريا كما هو الحال مع سلاسل الجبال في اماكن اخرى ولكن في شكل المربع، وهي جبال ترتفع الى ما يمكن تقديره بالف متر لها قمم متعددة ذات مستويات واشكال متباينة متنوعة فبعضها تاخذ وضعا متدرجا واخرى لها اشكال مخروطية وتبلغ مساحة هذه القاعة ما يكن تقديره بعشرين كيلو مترا مربعا، والجبال في اغلبها عارية، جرداء، ذات احجار صوانية تلمع تحت مسقط الشمس نهارا، وتتلون بالوان منازلها التي تتخذ طابعا مختلفا بين الشروق والظهيرة والغروب، تخالط الصوان في بعض المواقع المرتفعة طبقة من الاحجار السوداء،
بسبب اصلها الناتج عن تفجرات بركانية، وتبدأ كثافة الغلاف النباتي عند سفوح هذه الجبال، وتزداد هذه الكثافة وتظهر الاشجار والنباتات ذات الاحجام الكبيرة عند الشعاب، التي تنمو فيها مختلف النباتات التي يتعيش منها الناس علاوة على ان كثرة المسالك والطرقات التي يتخذها الناس مخارج ومداخل لهذه المنطقة المسماة جنائن العرعار، اما خارج هذه السفوح والشعاب فلا وجود لاي امتدادات للغلاف الاخضر، ففي المناطق المرتفعة من الجبال لا وجود الا لتلك الصخور المطلة من سمتها العالي، بتكويناتها واشكالها المختلفة، اما في السهل الواقع بين الجبال فارض من الحصى والرمل تتخللها بعض المناطق الخضراء والشهباء التي تصنعها بعض النباتات البعلية، او عدد من اشجار السدر والاثل والبطم القليلة المتناثرة عبر الفضاء الممتد بين الجبال، وللفضاء مستوى افقي واحد تتخلله في بعض المناطق ما يشبه المرتفعات الخالية من أي نبات، وتتركز نباتات الحلفاء وسط الشعاب، او هذه الخروم التي تخترق جدران الجبال، في شكل فجوج تتباين اتساعا وضيقا وعمقا وارتفاعا، فبين كل مجموعة جبال تتابط بعضها بعضا، تظهر هذه الشعاب، التي تمثل المنافذ التي يدلف منها العابرون بشرا وحيوانا لهذه المنطقة المغلقة التي احتفظت باسمها القديم قبل ابادة غابة العرعار، ورغم اختفاء صراخ الاشباح الا ان الناس ظلوا على خوفهم من ارتياد هذه المنطقة الا في حالات نادة وباعداد محدودة، كما بدأت المنطقة في الاعوام الاخيرة فقط تجتذب زوار الربيع، وهم اناس ياتون من الدساكر والدشر القريبة لملاقاة فصل الربيع، أي نصب خيامهم والاقامة بها خلال اشهر الربيع الثلاثة ثم العودة الى اماكنهم الاصلية، حيث يجلبون اغنامهم ويصنعون من اغصان الاشجار زرائب لها واحطابا لنيران مواقدهم، ويتركون الاغنام ترعى في هذه المنطقة، ويردون على بعض الابار الجاهلية كما يسمونها نسبة الى عصور ما قبل الدولة الاسلامية، وهي صهاريج لحفظ مياه الامطار مبنية منذ العصر الروماني والفينيقي واليوناني، ولا زالت صالحة لاداء هذه المهمة رغم تقادم القرون، ينساب اليها الماء في وق ت الشتاء عبر المسارب التي تتجمع فيها الامطار عند هطولها وتهبط مع المنحدرات لتغذي هذه الصهاريج، وغالبا ما يتم استهلاك هذا الماء في وقت الربيع، ولا يبقى في هذه الصهاريج شيئا في وقت الصيف، حيث يغادر منطقة جنائن العرعار آخر من بقى فيها من ضيفوف الربيع كما يسمون انفسهم، لان اقامتهم الدائمة في بيوتهم المبنية بالحجارة في الواحات المتوزعة فوق رقعة الصحراء اما اهل البادية ممن يقيمون في نجوع طوال العام فقد اهملوا جنائن العرعار، خوفا من اساطير الاشباح التي تطاردها، ويتناقل الناس الرويات عن الصراخ الليلي الذي يسمعمونه لضحايا المحرقة القديمة، والسبب التاني هو ان بئرا من بين هذه الصهاريج، بئرا عميقا، لا يكاد يعرف له احد قرارا ولا يستطيع ان يعرف ما اذا كان به ماء يصل اليه من مسارب الشعاب او ينبع من داخله، واذا كان به حقا هذا الماء، فانه لا وجود لحبال تدرك قاع البئر اذا كان له قاع، والمشكلة ان بعض من ساقهم الفضؤل للاقتراب اقترابا خطيرا من فوهة البئر انزلقوا ساقطين يلاقون حتفهم، وخرجت اشاعة تقول ان هناك يدا تخرج من قاع البئر وتنتزعهم انتزاعا من مكانهم وتجذبهم الى موتهم في عمق البئر، بل ان بعضهم يقول ان هناك من راى هذه اليد ويدعي انها ليست حقا يد ادمية او حيوانية وانما هي هيكل عظمي ليد كانها يد احد من الاموات، مما جعل الناس يتجنبون الاقتراب من هذه البئر، بل ان واحدا من اهل الولاية والصلاح، جلب اسلاكا شائكة رماها فوق فوهة البئر، وارسل تحذيرا لاهل البادية يدعوهم الى الابتعاد عنها فهي بئر ملعونة، فلبى الناس دعوته وابتعدوا عنها، بل ابتعدوا عن ارتياد هذه المنطقة باغنامهم او الاقامة فيها بخيامهم، ما عدا زائرو الربيع الذين ياتون لهذه الاقامة المؤقتة في هذه المنطقة المهجورة حيث يجدون مراعيها صالحة لاغنامهم فيقومون لبضعة اسابيع ثم يرحلون، بل ان بعضهم لم يصله تحذير الشيخ ولا يعرف بخبر هذه البئر، فيكون هذا الجهل نوعا من الطمانينة التي قد لا يحظى بها العارفون، ثم جاء ابو فاس متحديا احاديث الاشباح، مبتعدا عن البئر التي اكتسبت فيما بعد اسم بئر الغولة، متبعا المقولة التي تقول ابعد عن الشر وغني له، فاهملها ولم يقترب منها اثناء رعيه ليقيم فيها اقامة دائمة باغنامه التي يرعاها لنفسه وللاخرين.
جاء بانايوتي، مبعوثا من شركة الحلفاء في طرابلس، الى جنائن العرعار، ليحط فيها رحاله، ويؤسس فوق ارضها وكالته، بعد مسح كامل لمختلف مناطق البلاد، قامت به الشركة بالاتفاق مع الحكومة التي استلمت حديثا ادارة البلاد، حكومة الحماية البريطانية، وضمن مناطق متفرقة وقع عليها الاختيار لتكون مراكز لجمع الحلفاء، هذا النبات البري الذي ينبت بعليا بين الجبال، كانت هذه المنطقة الواقعة في قلب الصحراء، بسبب غزارة ما ينبت في شعابها من هذه النباتات، لتستأنف بها الشركة نشاطا توقف لمدة ثلاثة اعوام بسبب الحرب، وبدأ الان بعد ان انتهت الحرب في هذه المنطقة من العالم، وتاسست مع مطلع عام 43حكومة العهد الجديد، وانتدبت الشركة عددا من الوكلاء للقيام بمهمة تاسيس هذه المراكز، التي يتم فيها تجميع الحلفاء ونقلها بواسطة شاحنات الشركة الى طرابلس، بناء على عقد تتعهد فيه الشركة بشراء الانتاج مقابل هامش ربح للوكيل لا يقل عن ثلاثين في المائة، على شرط ان تحدد هي سعر شراء الحلفاء من المنتج الفرد، كما تتولى القيام بانشاء المرافق التي تحتاجها الوكالة والتي تبقى ملكا لها بعد انتهاء العقد، وهكذا جاء الرجل مع فريق العمل الذي شيد سورا كبيرا يحيط بارض مساحتها خمسمائة متر، بجزء مسقوف بطريقة محكمة بصفائح من حديد لكي لا تتسرب مياه الامطار لهذا الجزء من هذه المساحة المسورة المخصصة بجزئيها المسقوف فيما يسمى (الهانجر) والاخر الموجود عاريا لتخزين ووزن وصف الحلفاء وتحميلها في سيارات الشحن التي ستنقلها الى العاصمة، كما احضروا له ميزانا كبيرا (باسكولا ) لوزن الحلفاء ثم الة عملاقة تسمى ( بريسا) لرص وحزم هذه الحلفاء في بالات يسهل نقلها وشحنها، وبنوا له مكتبا يدير منه الوكالة، عند باب هذه المساحة المخصصة للتخزين والشحن، وللمكتب مظلة او (تيندا ) كما يسميها تصنع ظلا امام المكتب وتمنع دخول الشمس اليه، وفي الجهة المقابلة ثم بناء بيت لاقامته وبنوا بمحاذاة البيت حانوتا كبيرا وتم طلاء كل هذه الابنية بمادة جيرية، ذات لون فضي الى حد ان اطلق اناس الوكالة على هذه المنطقة من الابينة المربع الفضي حتى قبل اكتمالها، وكانت مهمة الحانوت هي توفير السلع والبضائع لمجتمع الوكالة وسد حاجات العائلات التي يطمح المشروع لاستقطابها كي تقوم بجمع الحلفاء، وبيع ما يجمعونه للسنيور بانايوتي، فنظام وكالة الحلفاء لم يعد يقوم على تاجير عمال يجمعون الحلفاء، كما كان يحدث في فترة ما قبل الحرب،وانما على طريقة جديدة، وجدت الشركة من خلال تجاربها السابقة انها اكثر نجاعة وجدوى، وهي معاملة العمال حسب انتاجهم، والاعتماد على الجهود الاهلية للعائلات البدوية والريفية التي تريد جلب رزق لنفسها عن هذا الطريق، فتقوم بجمع الحلفاء وبيعها للوكالة يوما بيوم، وبقدر حجم الجهد والانتاج تكون قيمة الاجر، ويبقى التنافس لتحقيق عائد اكبر مفتوحا للجميع.
قبل ان ينتهي السيد بانايوتي من اتمام ابنيته وجلب عائلته، بدات المراحيل التي تنقل العائلات تحط في المنطقة المواجهة لدكانه والتي تم تمهيدها بالات الجرف وتسوية الارض لتكون مكانا صالحا لنصب الخيام، حيث ازالت هذه الالات الاحجار وجرفت النباتات الصحراوية مثل العجرم والرتم والقزاح والديس والعاقول والضمران، وبدأت خيام النجع الجديد تنبثق بقبابها الصغيرة السوداء في هذا الفراغ الهائل.
بعكس مهن كثيرة اخرى، يتولى العمل بها الاب فقط لاعالة اسرته، او ابنه الذي بلغ سن الرشد، فان مهنة قلع الحلفاء يستطيع كل افراد العائلة المشاركة فيها، الاب والام والابناء صغارا او كبارا ذكورا او اناثا، الا من كان رضيعا في القماط، ومعنى ذلك ان الدخل الذي يمكن ان يصيبه الاب وحده سيتضاعف بعدد افراد الاسرة، وهو ما كان يشكل اغراء لاهل البادية، ونقطة استقطاب تجعل الناس يستنفرون انفسهم وعائلاتهم للمجيء والاستفادة من هذا العرض السخي، المشكلة فقط هي ان انتشار الخبرفي البوادي وعبر هذه التجمعات البشرية الصغيرة المبثوثة على رقعة كبيرة مقدارها الاف الاميال، لا يحدث الا من خلال وسائل محدودة، بطيئة التوصيل، ولهذا لم يكن ممكنا ان تأتي العائلات في وقت واحد، وكان الامر يحتاج الى ان تصل احد العائلات او يصل احدى المراحيل وتكتشف العائلة او عائلات المرحول مردود ما تم جمعه من حلفاء، فترسل العائلة او مجموعة العائلات خبرا لعائلات من الاقارب كي تلحق بها، واذا كان بانايوتي سيعطي ثمنا لكيلو الحلفاء مقداره خمسة فرنكات،فمعنى ذلك انه يمكن لعائلة من خمسة افراد ان ترجع بعائد في اليوم يزيد عن خمسة وثلاثين فرنكا مقابل جمعها سبعة كيلو حلفاء، وهو مبلغ كبير في اليوم الواحد، يعادل او يزيد عن مرتب واحد من المحظوظين الغاطسين في النعيم الحكومي، مثل افراد الشرطة.
وبسرعة احضر بانايوتي افراد اسرته وهم زوجته كاتيا التي استلمت مع ابنتها ذات الستة عشر عاما البيع والشراء في الحانوت، وابنه يورجو وهو توأم للفتاة، يعاون اباه في وزن الحلفاء مع عامل ابقاه بانايوتي من فريق البناء، ليتولى مسئولية الة ( البريسا ) وهي الة الضغط والربط ووضع الحلفاء في حزم استعدادا لشحنها، وبدأ الامر بعشرين خيمة تحولت في ايام قليلة الى ثلاثين ثم اربعين وبعد ان شاع الخبر وانتشر مع مرور الايام، وصل العدد الى ما يزيد عن سبعين خيمة وبضعة اكواخ، يخرج اصحابها من بعد الفجر،ويباشرون العمل في اقتلاع الحلفاء الى منتصف النهار، ثم يستأنفون العمل، بعد انتهاء فترة القيلولة التي يقضونها تحت ظلال اشجار العرعار والبطم والاثل بالشعاب، الى ما بعد غروب الشمس، وفي نهاية اليوم يجدون بانايوتي جاهزا مع ابنه، بألة الوزن الكبيرة التي يسميها quot; البسكولا quot;ذات القاعدة الحديدية التي توضع فوقها الحلفاء، والتي سرعان ما ارفدها بالة اخرى، بل وثالثة، لكي لا يتاخر في وزن ما يجمعه الناس كل يوم من حلفاء، واستعان باثنين من صبيان النجوع، يجيدان القراءة والكتابة يعينانه في الوزن، ويمنح بانيوتي نفسه كوبونا لصاحب الحلفاء،بثمن ما تم وزنه، يستطيع ان يصرفه مالا من الدكان، او يتقاضى به بضاعة، او يدفع به دينا او يفعل هذه الاشياء مجتمعة اذا كان المبلغ المرصود في الكوبون يكفي لذلك.
وعرف الناس امانة ونزاهة بانايوتي في الوزن، ووفاءه في سداد الثمن دون تاخير، فاحبوه وتفانوا في خدمة الوكالة، والانتفاع مما يحصلون عليه من رزق كريم عن طريقها.
كان بانايوتي واسرته يتكلمون فيما بينهم باللغة اليوناينة، الا انهم جميعا يجيدون الحديث بالعربية بلهجة ابناء باب البحر بطرابلس مع لكنة بسيطة، وكان يقول لزبائنه، ان هذه القرية ولدت لتبقى وتكبر مع الايام، فهو بهذه الوكالة يؤسس لمدينة جديدة، يضيف بها مجدا الى مجاد اسلافه الاغريق القدامى الذين بنوا في شرق البلاد البينتابوليس، او المدن الخمس الشهيرة التي كانت درتها مدينة شحات الخالدة والباقية الى هذا اليوم، وهذه هي المدينة السادسة التي سيكون مكانها بين هذه الجبال، في جنائن العرعار، وسياتي في المستقبل من يسميها مدينة بانيوتي، نسبة الى مؤسسها الذي كان عند قوله لهذا الكلام يعمل جاهدا على استكمال مدينة المستقبل بدعم من وكالة الحلفاء حيث استطاع تأمين مولد كهربائي ارسلت الشركة عامل فني سيبقى الى حين تدريب فني من شباب النجع يتولى تشغيله، وهو عمل لا يزيد عن ثلاث ساعات كل مساء، هي مدة تشغيل المحرك وانارة النجع والوكالة، واقام مظلة صغيرة تحمي المحرك من المطر والرياح مع خزان صغير للوقود، وكانت الشركة قد استخدمت الة البلدوزر وشقت طريقا ترابيا يصل بين وكالته وبين الطريق الرئيسي على بعد عشرين كيلو متر، خلف الجبل، اما الماء فقد تم في هذه المرحلة الاكتفاء بصهاريج الماء الرومانية التي تحفظ ماء الشتاء، وقد باشر منذ مجيئه بتفقدها ونقل الماء الى الفارغ منها بواسطة سيارات نقل الماء، تجلبه من ابار ارتوازية في مزده. وعدا هذه الصهاريج وعددها خمسة، فان هناك عين ماء صغيرة في عمق احدى الشعاب، لا يمحل ماءها عبر الفصول الاربعة، الا ان ماءها ياتي شحيحا فلا احد يقصد هذه العين الا اذا كان مسافرا نفد منه الماء وتمكن منه العطش، فيقصدها لاسعاف نفسه. وكان يعترف بانه لم يكن صاحب فضل في اختيار المكان، ولكنه مكان اختارته له الشركة، ويقسم انه لو ترك له الاختيار، لما اختار في البلاد كلها افضل من هذا المكان لاقامته حتى لو لم يكن سيحصل فيه على رزق، وسر جاذبيته هو هذه الجدران الاربعة من الجبال التي تجعله مكانا خاصا، زد على ذلك انه اكتشف لنفسه اسلافا في هذا المكان فهناك نصب تذكاري لقائد يوناني مات في هذا المكان واقاموا له نصبا رخاميا يرتفع اكثر من ثلاثة امتار فوق الارض، وهناك كما تقول الخرافات التي يتناقلها الناس كنز مرصود ومحروس بالجان قرب هذا التمثال الذي يسميه اهل البادية صنما، وجاءوا اليه باكثر من ساحر مغربي، لفك طلاسمه واجلاء حراسه عنه بما يتقنونه من تعاويذ واوراد، الا ان كل ساحر ياتي كان يمتنع عن الدخول في معركة مع هؤلاء الحراس قائلا بانهم شداد غلاظ لا يقوى انسي مثله على هزيمتهم، ولهذا ترك الناس التمثال دون ان يجرؤ احد على الاقتراب منه بعد تلك المحاولات الفاشلة، وفوق قمة احد الهضاب المحيطة بالمكان، هناك قصر قديم يسميه اهل البادية، قصر الخواجه، لم تبق منه الا جدران متهالكة واعمدة مرمية فوق الارض، لم يجد بانايوتي حاجة في نفسه للصعود اليه، ولكنه واثق من انه اثر من الاثار اليونانية،لانه راى اثارا شبيهة به فوق كثير من جبال بلاده اليونان، وهو ما يثبت ان هذا المكان كان مأهولا باسلافه، وانه هو واسرته ليسوا الا امتدادا لاؤلئك الاسلاف الذين مازالت ارواحهم تحوم بين هذه البطاح.
وكان يقول احيانا لزبائنه الليبيين الذين لا يفهمون احيانا رموزه ومعانيه المغموسة في ثقافة بلاده الاصلية
ــ لقد جاء الاسلاف المؤسسون للحضارة اليونانية بناء على اوامر الاله،التي نقلتها اليهم عرافة معبد دلفي، واحس انا ايضا بان امرا الهيا هو الذي جاء بي الى هذا المكان.
ويستوضحه احد الحاضرين متسائلا:
ــ وما هي دلفي هذه؟
ــ انها المدينة المقدسة في اليونان القديمة.
ثم يتوقف مستذكرا قبل ان يستأنف حديثه شارحا لماذا هي مدينة مقدسة:
ــ عندما اراد ابوللو ان يقيم معبده امر اربعة طيور عملاقة ان ترحل من اقصى اركان الارض الاربعة الشرق والغرب والشمال والجنوب، وعند نقطة اللقاء، حيث صرة الارض ومركزها، التي هبطت عندها الطيور الاربعة، بنى معبده ومدينته، التي صارت اكثر المدن تقديسا، كما هي مكة للمسلمين.
ويستنكر بعضهم المقارنة، متهامسين لبعضهم بعضا، اذ لا يجوز مقارنة مكة باي مكان آخر في العالم، ويحس بانيوتي بما اصابهم من قلق، فيبرر ذلك بانها مقارنة استوجبها التوضيح،
يتبع غدا
التعليقات