ديفيد لينتش، المخرج الذي حوّل الغرابة إلى فن، صنع عالماً سينمائياً يعبق بالغموض والتوتر، حيث تمتزج الأحلام بالواقع بشكل مثير للرعب والسحر. من "رأس الممحاة" إلى "الطريق المفقود"، كانت رؤيته السينمائية رحلة محفوفة بالغرابة والجمال المقلق، ما جعلنا نعيد النظر في معنى الصورة والصوت، وكيفية رواية القصص بطرق تفوق المنطق. فما سرّ هذا السحر السينمائي؟ وكيف استطاع أن يحكم قبضته على عقولنا بهذا الأسلوب الفريد؟
إيلاف من لندن: لوداع المخرج السينمائي الأميركي ديفيد لينتش أضع أمام القارئ هذا النص المجتزأ من كتاب ح: ( فن الإخراج السينمائي- دروس خاصة لأبرز المخرجين السينمائيين العالميين) لمؤلفه الصحفي والمخرج السينمائي الفرنسي لوران تيرار، الذي قمت بترجمته من النسخة الإنكليزية، حيث يحتل المخرج ديڤيد لينتش جزءاً من القسم الثالث (نُساّج الأحلام) إلى جوار كل من بيدرو المودوفار، تم برتون، ديفيد كروننبرغ، وجان بيير جونيه.
يتضمن الكتاب خمسة أقسام مع خاتمة مخصّصة للمخرج الفرنسي جان لوي غودار هو بعنوان "الحداثة والابتكار"، أما المحاور التي يناقشها الكتاب فهي ثمانية محاور:
المحور الأول يناقش السؤال الأساسي للكتاب: هل الإخراج السينمائي حرفة يمكن تدريسها أو تعليمها؟ أما المحور الثاني فهو يتناول مفهوم ونظرية الإخراج السينمائي.
المحور الثالث يطرح سؤالاً جوهرياً له شأن باللغة السينمائية والقواعد التي تتحكم في عملية الإخراج. وفي المحور الرابع تجري مناقشة علاقة المخرج بالسيناريو ومؤلفه، ومفهوم مصطلح "المخرج ـ المؤلف".
المحور الخامس والسادس يتناولان عمل المخرج مع الممثلين وطرق توجيههم، وطبيعة العلاقة التكافلية بينه وبين مدير التصوير والمصور السينمائي في موقع التصوير.
المحور السابع يناقش علاقة المخرج بالمتفرج. أما المحور الأخير فهو يتضمن نصائح وإرشادات للمخرجين الشباب.
المخرج السينمائي والتلفزيوني ديفيد لينتش ليس بالشخص الذي يمكن أن تتوقعه إطلاقاً، فأفلامه التي أخرجها عادة ما تكون غريبة وملتوية فضلاً عن أنها مفعمة بالغموض والشخصيات المفزعة في بعض الأحيان، إلا أنَّ الإنسان الذي يقف خلفها هو واحد من بين أكثر المخرجين الذين التقيتهم حميمية وجاذبية وبساطة، ما جعلني أكثر قلقاً حول ما يدور حقاً في المديات المعتمة من ذهنه.
كان عمري ستة عشر عاماً فقط حين شاهدت فيلمه Earserhead (رأس الممحاة) لأول مرة، وقد اضطررت حينها إلى مغادرة القاعة في منتصف العرض لأنَّ الفيلم جعلني في وضع قلق ومضطرب للغاية، فقد كان أشبه أن تفتح باباً على مكان معتم ومخيف بدا لك غير واقعي ومريح جداً في ذات الوقت. هذا هو بالضبط ما جعلني أنا، ومعجبين آخرين مثلي، نعشق أفلام ديفيد لينتش والطريقة التي استطاع بها أن يُرينا ما تحت السطح، كمشهد البعوض مثلاً، وهو يحتشد تحت العشب في بداية فيلم Blue Velvet (المخمل الأزرق) أو ذلك الرواق المظلم المخيف بشكل لا يُصدّق في فيلم Lost Highway (فقدان الطريق الخارجي) الفيلم الذي سافرت بسببه إلى لوس أنجليس لمقابلة هذا المُخرج. استقبلني ديفيد لينتش في منزل حديث وجميل بالقرب من Mulholland Drive، حيث تكدست في باحته الفسيحة مجموعة مختارة من لوحاته الزيتية. وقد أجاب على أسئلتي حينها بوّد مفرط، أشبه بشيخ حكيم يُصغي لطفل يسأله عن الحياة. وحين انتهى اللقاء ابتسم لي وسألني قائلاً: (طيب؟ ما رأيك؟ هل سأحصل على عمل؟).
نص حديث ديفيد لينتش
لم يُطلب مني مطلقاً أن أدرّس الإخراج السينمائي، وحتى لو حدث ذلك فأظن أنني لن أكون بأية حال من الأحوال موفَّقاً جداً في ذلك. لقد حصلت على دورة دراسية واحدة فقط عن السينما في حياتي مع أستاذ اسمه فرانك دانيال، وكانت الدورة مكرَّسة لتحليل الفيلم، حيث كان يُطلب منا مشاهدة بعض الأفلام والتركيز على عنصر محّدد واحد فقط في كل مرة، كالصورة، أو الصوت، أو الموسيقى، أو التمثيل... إلخ. وكان علينا أن نقوم بتدوين ملاحظاتنا على قصاصات من الورق. ومن بعد نقوم بتبادل تلك الملاحظات المدوّنة ونقارن فيما بينها.
إنَّ الأمور التي اكتشفناها حينها كانت مذهلة بشكل كبير حقاً، وكانت تلك الدورة الدراسية رائعة جداً، بفضل السيد فرانك دانيال بالطبع، فشأنه شأن كل المدرّسين الكبار كان يمتلك القدرة على إثارة الطلبة وبعث الإلهام في نفوسهم.
شخصياً لا أظن أنَّ لديَّ تلك القدرة، فلم أكن أتمتع بمعرفة موسوعية بتأريخ الفيلم، ولست مؤهلاً جداً لإعطاء المحاضرات أيضاً، لإني أجهل ما سأقوله للطلاب سوى: (خذوا الكاميرا واذهبوا لعمل فيلم). وتلك هي الطريقة التي تعلمت بها فن الفيلم.
لقد أردت في الأصل أن أكون رساماً، وقد التحقت فعلاً بكلية الفنون الجميلة يومها. وفي أثناء دراستي عملت فيلماً قصيراً أنجزته بطريقة الرسوم المتحركة وعرضته فيما بعد على شاشة حجرية منحوتة.
كان عرضا تجريبياً وكانت الفكرة التي ومضت في ذهني حينها هو أن أجعل من الفيلم أشبه بلوحة زيتية حيَّة، ولكن متحركة.
شاهد الفيلم في ذلك الوقت، وبالصدفة، شخص لا أعرفه وقد كان معجباً جداً به، ثم عرض عليَّ مبلغاً من المال لعمل فيلم آخر له شخصياً.
قمت بمحاولة بهذا الشأن إلا إنني لم أُوفَّق إطلاقاً، حينها قال لي ذلك الشخص: "لا تقلق. يمكنك الاحتفاظ بالمبلغ واعمل الفيلم الذي تريد".
بعدها، وبذلك المبلغ الزهيد، استطعت أن أُنجز فيلماً قصيراً نلت من خلاله جائزة، وجلب لي تمويلاً لعمل فيلمي الأول Eraserhead. هكذا، وبهذه الطريقة، بدأت مشواري الطويل.
مصادري
لو خُيرت في عرض أفلام تُمثّل نماذج للأفلام البالغة الكمال بالنسبة لي، فسوف أُحدّدها بأربعة أفلام فقط. الأول، سيكون فيلم (ثمانية ونصف) بسبب الطريقة التي استطاع فيها فريدريكو فيليني أن ينجز عملاً يتماهى مع ما يُبدعه الرسامون التجريديون في الأغلب، أعني ايصال المشاعر دون كلام أو اشارة إلى أي شيء بطريقة مباشرة، وحتى بدون تفسير لأي شيء إنما فقط عن طريق نوع من السحر المطلق.
للأسباب ذاتها، أحب اختيار الفيلم الثاني Sunset Boulevard لمخرجه بيلي وايلدر، الذي هو رغم الاختلاف الكبير بين أسلوبه وأسلوب فيليني، إلا أنه استطاع أن يحقق نفس المناخ التجريدي، ليس عن طريق السحر، إنما عَبر جميع أشكال الخُدع التقنية والأُسلوبية. فهوليود التي يُصّورها وايلدر في فيلمه ربما ليس لها وجود حقيقي على الإطلاق، إلا أنه مع ذلك جعلنا نؤمن بوجودها، ليس هذا فحسب، إنما استطاع أن يغمرنا في أجوائها كما لو أننا في حلم.
أما الفيلم الثالث فسيكون Monsieur Hulot’s Holiday للمخرج جاك تاتي، لمنظوره المدهش إلى المجتمع. فحين تشاهد أفلام هذا المخرج تدرك سعة المعرفة والحب التي يتمتع بها إزاء الطبيعة البشرية التي هي بمثابة المُلهم الوحيد له لابتكار تلك الرؤية.
أخيراً، الفيلم الرابع، سيكون Rear Window للأُسلوب المُذهل الذي أستطاع فيه ألفريد هيتشكوك أن يخلق، أو بالأحرى، أن يُعيد خلق العالم بأكمله ضمن نطاق معالم ضيقة. فجيمس ستيوارت الذي لعب دور الشخصية الرئيسية في الفيلم لم يغادر كرسيه المتحرك طوال الفيلم، فضلاً عن أننا نشاهد ونتابع خطة جريمة القتل المعقدة جداً من خلال وجهة نظره.
لقد استطاع هيتشكوك في هذا الفيلم أن يتناول ثيمة كبيرة ويكثفها في موضوع صغير جداً، محقّقاً ذلك عبر تحكّمه الكامل في تقنية الإخراج السينمائي.
الوفاء للفكرة الأصلية
إنَّ الشروع في عمل أي فيلم يفترض وجود فكرة، وهذه الفكرة يمكن أن تظهر في أي وقت، وأن تنبثق من أي مصدر. فمن الممكن أن تأتي عَبر مراقبتك الناس في الشارع أو من خلال جلوسك
وحيداً في مكتبك وأنت تفكر. ويمكن أيضاً لهذه الفكرة أن تستغرق سنوات لتأتي. فأنا أعرف من خلال تجربتي مراحل قاحلة كهذه، ومن يدري ربما يطول انتظاري ريثما تأتيني الفكرة التي أُحّبها لأعمل منها فيلم.
إن ما تحتاجه تماماً هو العثور على تلك الفكرة الأصلية، تلك الومضة أُسمّيها. وستعثر عليها في يوم ما حتماً. إنه شيء يشبه صيد الأسماك كثيراً: فأنت تستخدم تلك الفكرة مثل طُعْم يجتذب كل شيء. إلا إن أولوياتك الأساسية كمخرج هي البقاء وفيّاً للفكرة الأصلية.
ستواجهك الكثير من العقبات بالطبع، وبوسع الزمن محو الكثير من الأشياء الكامنة في ذهنك. إنَّ أيّ قرار، مهما يكن صغيراً، يتضمن أهمية كبيرة، وكل عنصر، بوسعه أن يجعلك تتحرك قليلاً إلى الأمام أو إلى الخلف.
ينبغي أن تكون منفتحاً على الأفكار الجديدة، لكن في ذات الوقت، عليك أن تبقى دائماً مُركِّزاً ومتوجهاً صوب هدفك الأول، غايتك الأولى. إنه نوع من المعيار الذي يمكنك بواسطته أن تُجرّب صواب كل مقترح أو إيحاء جديد.
الحاجة إلى التجريب
المُخرج بحاجة إلى أن يفكّر بعقله وقلبه معاً. بمعنى، ينبغي عليه أن يُشرك العقل والمشاعر معاً بشكل متواصل في مجرى عملية اتخاذ القرار.
إن رواية القصة في الفيلم هي أمر جوهري، ونوع القصص التي أُحّب هي تلك التي تتضمَّن مشاركة محددة لعنصر التجريد، وتُعوّل على المعرفة الحدسية أكثر منه على المنطق. فقوّة الفيلم بالنسبة لي تتخطى الوظيفة البسيطة التي تُستخدم لرواية القصة. الأمر الجوهري هو الطريقة التي تروى فيها تلك القصة والكيفية التي بوسعك من خلالها خلق عالمك الخاص.
الفيلم يمتلك القوة في تصوير الأشياء غير المرئية. إنه شبيه بالنافذة التي من خلالها يمكنك أن تلج عالم شبيه بالحلم. الفيلم يمتلك قوة كهذه على خلاف أشكال الفن الأخرى، لأنه يستخدم الزمن كجزء من مجرى عمليته.
الموسيقى أيضاً تشبه ذلك بعض الشيء. أنت تبدأ من نقطة ما وبعدها تشيّد الأساس ببطء نوتة تلو الأخرى، لحين الوصول إلى النوتة المميزة، تلك التي تخلق لديك إحساس قوي. إلا إن النوتة المميزة هذه لم تتحقق وتتشكل إلا بسبب من تلك النوتات التي سبقتها والطريقة التي تآلفت فيها.
المشكلة هنا بالطبع هي أن القواعد الأساسية في عمل الفيلم يمكن أن تتوقف عن عملها بعد فترة قصيرة، بسبب فقدان عنصر المفاجئة أو الدهشة. لهذا أظن أن من الجوهري هنا محاولة التجريب.
لقد قمت بعملية التجريب في جميع أفلامي، وكنت أرتكب بعض الأخطاء في بعض الأحيان. ستكون محظوظاً بالطبع لو أدركت "الخطأ" حالاً وقمت بتصويبه قبل أن ينتهي الفيلم، وإلا سيُصبح ذلك الخطأ بمثابة عبرة كي لا يتكرر في فيلمك القادم.
التجريب يتيح لي في بعض الأحيان إمكانية الكشف عن شيء ما مدهش لم يكن بمقدورك تخيّله أو التخطيط له من قبل. وهذا الشيء هو بمثابة مكافئة لا يمكن تثمينها مطلقاً.
طاقة الصوت
لقد اكتشفت قوة الصوت أيام كنت طالباً في أكاديمية الفنون حين عملت تلك "اللوحة الزيتية الحية" مع جهاز عرض وشاشة حجرية منحوتة، وقد كان هناك أيضاً صوت جهاز لإحداث النغمات الموسيقية يصاحب العرض. لازلت منذ ذلك الحين وحتى اليوم أؤمن أن الصوت يشكّل النصف المُكّمل للفيلم.
لديك صورة من جانب وصوت من جانب آخر، فإذا عرفت كيف توحدهما بشكل صحيح، عندها يصبح الكُل هو الأقوى قياساً بمجموع الأجزاء.
الصورة تتألف من عناصر مختلفة، يصُعب التحكُّم في الكثير منها بشكل كامل، كالضوء وإطار الصورة (Frame) (1) والتمثيل.. إلخ..
الصوت على كل حال، وأنا هنا أُدرج الموسيقى ضمن هذا الباب، يمتلك وجوداً مادياً كبيراً ومؤثراً ويحتل موقعاً مادياً في جسد الفيلم. هنا عليك بالطبع أن تعثر على الصوت المناسب والمطلوب الذي يوحي بالكثير من الكلام والكثير من الاختبارات.
ثمة القليل جداً ممن يمكنهم استخدام الصوت بشكل يتجاوز الجانب الوظيفي المحض له، وسبب ذلك هو أنهم يفكرون بشأنه بعد انتهائهم من مرحلة تصوير الفيلم. يضاف إلى ذلك أن جدول مواعيد مرحلة التصوير تكون عادة ضيقة وصارمة جداً حيث لا يوجد وقت للمُخرج حينها أن يقترح أو يضيف شيئاً جديداً ومثيراً سواء مع مهندس الصوت أو مع المؤلّف الموسيقي. لهذا السبب حاولت ومنذ فيلمي Blue Velvet (المخمل الأزرق) أن أعمل معظم موسيقى الفيلم قبل التصوير.!
كنت أناقش قصة الفيلم مع المؤلف الموسيقي أنجيلو بادالامينتي (2) وأُسجّل كل أنواع الموسيقى التي استمعت إليها كما لو أنني أصوّر الفيلم، إما عَبر سماّعات الأذن أثناء مشاهد الحوار، أو بواسطة مُكبّرات الصوت لكي يدخل كل أعضاء فريق العمل في الجو المطلوب. إنها وسيلة عظيمة، أشبه ببوصلة تساعدك على ايجاد الاتجاه الصحيح.
بذات الطريقة، أتعامل مع الأغاني، فحين أستمع إلى أغنية أُحّبها، أُسّجلها وأحفظها في مكان ما، ريثما أجد الفيلم المناسب لاستخدامها. فأغنية Song to the Siren لـThis Mortal Coil مثلاً والتي أُحّبها دائماً، أردت أن استخدمها في فيلمي Blue Velvet إلا إنها لم تكن ملائمة أو مناسبة للفيلم، لذا فقد احتفظت بها وبقيت أنتظر. وحين بدأت العمل على فيلم Lost Highway أحسست أنه حان الوقت لاستخدامها.
ثمة الكثير من الأغاني الأخرى التي تعني شيء ما بالنسبة لي، لذا أجدني في انتظار اللحظة التي يمكنني استخدامها في أحد أفلامي المقبلة.
الممثلون أشبه بالآلات الموسيقية
إنَّ العثور على ممثل للعب دور معين ليست بالعملية العسيرة، لكن الشيء الصعب هو العثور على الممثل المناسب للدور.
ما أعنيه هو أن لكل دور محّدد ثمة ستة أو سبعة ممثلين يمكن أن يُعطوك أداءً جيداً للدور، إلا أن الفرق هو أن كل واحد فيهم سيلعب الدور بطريقة مختلفة. إنها عملية تتماهى قليلاً مع الموسيقى، حيث يمكنك أن تعزف قطعة موسيقية على آلة البوق أو على الفلوت مثلاً، فكلا الآلتين ستعطيك شيئاً مذهلاً، ولكن باتجاهين مختلفين. عندئذ عليك أن تقرّر أي الخيارات هي الأفضل.
حين تختار ممثليك يصبح الحصول على أداءٍ أفضل يعتمد على قدرتك في خلق جّوٍ أكثر راحة في مكان التصوير. ينبغي أن تمنح الممثلين كل شيء هم بحاجة إليه، لأنهم هم الوحيدون الذين سيقومون بالتضحية الأكبر أخيراً، وهم الوحيدون من يتمتعوا بالكثير ليخسروه. ومع ذلك فمن الممكن جداً أنهم سيستمتعون أيضاً كذلك، فهم يبقوا خائفين وقلقين على الدوام من النتائج النهائية لعطائهم، لذا ينبغي دائماً أن توفر لهم الاحساس بالأمان بالقدر الممكن.
من الضروري الحديث كثيرا مع الممثلين والتحاور معهم لحين الوصول إلى وضع يصبح فيه الجميع يسيرون على سكة واحدة. وحين يتناغم الجميع ستتحقق كل كلمة أو حركة يؤديها هؤلاء الممثلون بشكل طبيعي وعلى نحو تام.
يمكن للبروفات أن تساعد في العثور على النغمة الصائبة، لكن ينبغي أن تكون يقظاً وحذراً إزاء ذلك. أنا شخصياً أشعر بالقلق دائما من إمكانية أن يفقد المشهد تلقائيته وعفويته بسبب كثرة التمارين، لأنني لا أريد أن أفقد السحر الذي يمكن أن يحدث في المحاولة الأولى.
ينبغي التسليم بهواجسك
الناس لا يُحبّون تكرار أنفسهم، وليس هناك من أحد يُحّب أن يفعل الشيء ذاته مرات عديدة. في ذات الوقت، ينبغي الاقرار بأن كل واحد منّا عادة ما يكون عبداً لذائقته الخاصة في بعض الأحيان، وهذا أمر علينا بالضرورة التسليم به.
كل مخرج هو في حالة تطور متواصل، ولكن بشكل تدريجي. العملية بطيئة إلى حد ما لكنها طبيعية، لذا ليست هناك حاجة إلى تسريعها.
ما يتعلق بالقصص والشخصيات، إنني أُحّب نوعاً مُحدّداً من القصص ونموذجاً معيناً من الشخصيات. ثمة تفاصيل تكاد تتكرر في كل فيلم من أفلامي، أشياء أشبه بالهواجس تماماً.
أنا مفتون مثلاً بكلمة "texture" أي "ملمس". أُحّب هذه الكلمة، وهي تلعب دورا كبيرا وجوهرياً في معظم أفلامي. هذا الأمر هو ليس بقرار واع على الإطلاق، وأنا لا أدركه إلا فيما بعد، ولم أفكر به بوصفه شيئاً يستحق التفكير بشأنه، إنما هو مجرد هاجس، وأنت لا يمكنك في الآخِر عمل شيء فيما يتعلق بهواجسك، إنما بوسعك فقط أن تتحدث بشكل ذو مغزى عن تلك الأشياء التي تسحرك.
يمكنك ابتكار قصص أو شخصيات فقط حين تنبثق علاقة حب بينك وبينهم. شيء يشبه علاقة الحب مع النساء، فبعض الرجال مثلاً يُحّب الشقراوات فقط لا السمراوات، سواء كان ذلك بوعي منه أو بدون وعي. إلا إن سبب ذلك في الواقع هو أن هذا الرجل ليس لديه علاقة غرامية مع السمراوات من قبل مطلقاً. ولكن حالما تأتي اللحظة التي يلتقي فيها أخيراً بامرأة سمراء استثنائية للغاية حينها تنقلب الموازين ويتغير كل شيء.
الشيء ذاته ينطبق على الأفلام، فخيارات المُخرج هي العمل بنفس درجة الاستحواذ هذه. وهذا الشيء لا ينبغي تجنبه مطلقاً. على العكس من ذلك، ينبغي التسليم به وممكن جداً القيام في استكشافه وسبر أغواره.
سِرُّ عشقي لحركة دوللي
كلّ مخرج يتمتع بالقليل من الخُدع التقنية الخاصة. فمثلاً أنا أُحّب اللعب مع المتناقضات، وأُحّب استخدام العدسات التي تُعطي عمق مجال أكبر للصورة، كما وأُحّب أيضاً اللقطات الكبيرة (close-up) بحدودها القصوى، مثل لقطة المباراة الشهيرة في فيلمي Wild at Heart. وهذه ليست مسألة منهجية أو أنها تتبع أو تخضع لنظام ما.
أما ما يتعلق باستخدام حركة دوللي (3) مثلاً، فلديّ طريقتي الخاصة، لأنني سبق أن جرّبته من قبل في فيلم Eraserhead ولا زلت استخدمه دائماً ولحّد الآن.
طريقتي الخاصة هذه تتضمن التالي: وهو أن أضع فوق العربة، التي تحمل الكاميرا وتسير على سكة، أكياس رمل لحين أن تصبح ثقيلة جداً لدرجة الاحساس بأنها لن تتحرك مطلقاً.
عربة دوللي هذه بحاجة إلى العديد من الرجال الأقوياء لدفعها، وحالما تبدأ الحركة ستكون بطيئة جداً تشبه إلى حد ما ماكنة قطار قديم. من ثم، وبعد حين، ورغم أن العملية تتطلب جهداً ونشاطاً كبيرين، ينبغي على أولئك الرجال القيام هذه المرة بسحب العربة إلى الخلف بكل ما لديهم من قوّة.
إنها عملية مضنية حقاً، إلا إن محصّلة الحركة التي ستظهر على الشاشة أخيراً ستكون رشيقة وسلسة بشكل لا يُصدّق.
أعتقد أن أفضل حركة كاميرا في جميع أفلامي يمكن أن نجدها في فيلم The Elephant Man (الانسان الفيل)، حيث الشخصية التي يلعبها الممثل أنتوني هوبكنز في طريقها إلى اكتشاف الانسان الفيل لأول مرة، نرى الكاميرا تتحرك نحوه وتقترب منه جداً كي تُظهر ردّة الفعل على ملامح وجهه.
تقنياً، الحركة تلك كانت رائعة وتضمنت تعبيراً مؤثراً جداً، وحينما تتوقف أمام وجه هوبكنز تماماً نجده يبكي.
واقع الأمر أن هذا الأمر لم يكن قد خططنا له من قبل مطلقاً، إنما هو أحد تلك الأشياء الساحرة التي تحدث في موقع تصوير الفيلم. لقد تم تصوير تلك اللقطة مرة واحدة فقط لأنني حين شاهدتها قررت الاكتفاء بها دون حاجة لإعادة تصويرها ثانية.
كُن سيّد فيلمك
بما أن أفلامي تنحو إمّا إلى إثارة الدهشة أو إحداث الصدمة عند الناس، فأنا كثيراً ما أُسأل عما إذا كان من الخطأ إرضاء أو إمتاع المشاهدين. الحقيقة، أنا لا أعتقد أنَّ هذا الأمر سيء على الإطلاق، طالما أنك لا تقف على الضد من متعتك ورؤيتك الخاصة.
على أية حال، ينبغي الإقرار أن من المستحيل ارضاء الجميع. ستيفن سبيلبيرغ ربما هو المخرج المحظوظ جداً في هذا الشأن لإن الجميع يحبون أفلامه، ومن المؤكد أنه سعيد أيضاً بعمل تلك الأفلام.
إذا كنت تسعى لإرضاء المشاهدين، فهذا الأمر يتطلّب منك، في معظم الأحيان، أن تعمل فيلماً ربما لا ترغب حتى في رؤيته، وهذا بدوره سيقودك بالضرورة إلى كارثة. لهذا السبب أجد أن من العبث لأي مخرج يحترم نفسه ومهنته أن يعمل فيلماً لا يكون قادراً على التحكم به منذ البداية وحتى النهاية.
ثمة العديد من القرارات يمكن اتخاذها بالطبع، إلا إن المُخرج هو الشخص الوحيد الذي ينبغي عليه القيام بذلك وليس أحد سواه. لذا فمشورتي لكل مخرج شاب هي أن يبقى في حالة تحكّم كامل بفيلمه منذ البداية وحتى النهاية. والأفضل له ألا يعمل فيلماً إذا كان عليه أن يتخلى عن سلطة القرار الأخير، لإنه لو فعل ذلك فسيظل يقاسي لفترة طويلة. وأنا أعرف ذلك من خلال التجربة، فقد صورت فيلم "Dune الكثيب" من دون أن أتخذ القرار المطلوب بشأن النسخة النهائية للفيلم، وهذا ما أحدث ضرراً هائلاً بي جعلني أتوقف عن العمل ثلاث سنوات قبل أن أتمكن من عمل فيلم آخر. ولا زلت أتذكر ذلك حتى اليوم لأنه كان بالنسبة لي بمثابة جرح لا يندمل.
التعليقات