رواية جديدة لأحمد إبراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الثالثة: اهطلي يا مياه السماء
ــ 4 ــ
الشعبة شق بين جبلين، الا انها ليست مجرد شق كتلك الشروخ التي تنتج عن الزلازل والهزات الارضية، وانما انفراجة تفصل بين سلسلة الجبال يبلغ اتساعها بضعة امتار، وتمضى تخترق الجبال حتى تنفذ الى الناحية الاخرى منها على امتداد مائتي متر او اكثر قليلا، وتنحدر الى ان تصل قريبا من سفوح الجبال، فلا يزيد ارتفاعها عن هذه السفوح على ثلاثة امتار، يصعدها الناس من قدم الجبل الى مستوى الشعبة، يتسلقون صخورا كانها السلالم، ليستقر عندئد مستوى الارض في هذه الفجوة الفسيحة بين جبلين، حيث تكتر نباتات الحلفاء، تحاذي بعضها بعضا، لتكون اقرب في شكلها الى جذور الشعير او الحنطة، بل اكثر ارتفاعا، واصلب عودا، واكثر استقامة، لانها لا تملك سنابل في نهايتها تثقل عليها وتحني هاماتها، فتبدو وهي تميس وتتمايل بسبب تيار الهواء الذي يصنعه التجويف بين الجبال، كانها حقل كبير من حقول الشعير او الحنطة وقت اخضرارها، تمتد عبر ذلك التجويف وفوق ارضه المنبسطة وتصعد مع جانبية حتى تبلغ ذلك الحزام الاسود المصنوع من صخور بركانية، وتصل بين الغلاف الاخضر الذي يغطي الجزء الاسفل من الجبل بسمته العالى عند القمم ذات الاحجار الصوانية التي تشكل لاغلب هذه السلاسل الجبلية ما يشبه العمائم البيضاء. وتشبه الشعاب التسع بعضها بعضا، كانها ناتجة عن تصميم هندسي واحد، وقد تنقل الرواد الاوائل من جامعي الحلفاء، في هذه السنة الاولى من عملهم في وكالة بانيوتي، عبر اربع شعاب، أي بمعدل ثلاثة اشهر قضوها في كل شعبة، افروغها من كل ما فيها من حلفاء ليعودوا اليها فيما بعد، الا انهم الان وبعد ان تضاعفت اعدادهم، ووصل حجم عمالتهم الى هذا الرقم الكبير، فسيتضاعف بالضرورة حجم المحصول، وبالتالي سيحتاجون لتوزيع انفسهم بين شعبتين في كل فصل من فصول العام، ولن يؤثر ذلك في استنزاف هذا النبات، طالما ان الشعبة التي تم اقتلاع ما فيها من حلفاء في الربيع الماضي، عادت هذا الربيع مليئة بالحلفاء كما كانت قبل اقتلاعها، وهكذا هو الحال مع بقية الشعاب مما كان مصدر فرح لاهل النجع، لانهم كانوا يضعون ايديهم على قلوبهم خشية الا تصدق المعلومة عن تجدد الحلفاء، وان ينفد هذا المصدر من مصادر الرزق، الا ان الايام اثبتت لهم انه حقا وفعلا كما تم ابلاغهم في البداية، مصدر متجدد، خصب، سريع وغزير في نمو اوراقه، لا سبيل الى نفاده، يتمدد ويتوالد على مدى الدهر، رغم اعوام الامحال والجفاف، مما اعطى مصداقية لكلام امراة عجوز هي العمة مريومة، التي تقول ان نبتة الحلفاء، نبتة مباركة زرعتها ملائكة السماء، وهي التي ترعاها وتشرف باذن من خالق الكون على استمرار تجددها وتوالدها.
لم يكن سهلا على الفتاتين مريم وانجيليكا وغيرهما من صبيان وبنات، مجاراة الكبار من اهلهم في اقتلاع الحلفاء لان اقتلاعها يحتاج الى جهد لا يقدرعليه الا من اكتمل بناءه الجسماني، وقد علمهما الاومباشي جبران كيف يتجنبا الجذور الغزيرة الكثيفة الخضراء، وان ينتقيا الجذور الصغيرة الذابلة، لانها اكثر يسرا وسهولة عند الاقتلاع، كان قد عود ابنته على طريقة استعمال الوتد في الاقتلاع، وطلب منها ان تترك الجذور الخضراء الكبيرة المليئة بالاوراق المكتملة النضج والطول وان تختار فقط نبتات الحلفاء الصغيرة الذابلة التي لم ترتفع نفس الارتفاع الذي وصلته النباتات الاخرى لانها اكثر يسرا وسهولة عند اقتلاعها، وهي مطلوبة مثل غيرها من اوراق، في سوق البيع والشراء، ومع ذلك، فقد كانت ام انجيليكا تتفقد يدي ابنتها عند عودتها من الشعاب، وتنزعج لما تراه يعتريهما من احمرار واحتقان بسبب الجهد المبذول في جمع الحلفاء، فتعمد الى تدليكهما بالمراهم، دون ان تستطيع منع ابنتها من مواصلة الذهاب في اليوم التالي لان هذا ما تريده وتصر عليه الفتاة، ولم يكن عمل الناس كلهم يقتصر على جمع الحلفاء، فالحاجة مريومة مثلا، التي تلهج بالثناء على نباتات الحلفاء المباركة، لم تكن تستطيع ان تشارك في جمعها، لان لها مهمة اخرى تراها اكثر يسرا وملاءمة لرسالتها في الحياة، هي جمع ثمار واوراق واغصان العرعار، التي تقوم اثناء عودتها الى خيمتها بتجفيفها وطبخها وتقطيرها وصنع عطور وادوية منها او عجائن لاستخدامها في كمادات لخفض الحرارة المرتفعة في اجسام المرضى، وتسكين الام الروماتيزم، كما تعتني ايضا بجمع ما تجده من اعشاب ونباتات طبية اخرى مثل البردقوش والشندقورة والشيح والزعتر والحنظل وغيرها، وهناك رجل عجوز من زنوج اولاد عثمان القادمين من اوزو، اكتشف انه لا يملك قوة على اقتلاع سيقان الحلفاء، فلم يرض بالبقاء عاطلا، وانما اتخذ لنفسه مجلسا تحت شجرة عرعار، واوقد نارا، واحضر سخانا كبيرا يعد به الشاي الذي يبيعه في اكواب صغيرة لجامعي الحلفاء مقابل قبضة صغيرة مما يجمعونه، وصار قادرا على ان يعود كل يوم بمحصول اكثر مما يعود به اكثر الرجال صحة وقوة مستعينا باحد من اقاربه على حمله له، وهناك اناس لا يكتفون بجمع الحلفاء فقط، وانما يلتقطون ما يقع في طريقهم من نباتات الصبار والعجرم، لكي يعودوا بها الى خيامهم فينزعون ما فيها من اشواك فيطبخونها لاكلها ولصنع مرق منها، وهم ما كانوا يفعلونه اضطرارا واحتياجا في زمن المسغبة، لكنهم الان يفعلونه بسبب العادة، بعد ان توفر لهم طعام افضل يشترونه من حانوت بانايوتي مقابل الكوبونات التي يصرفها لهم. ولا يعدم من رجال النجع من جلب معه بندقيته وهو ياتي الى الشعاب، واية بندقية هي موضع ترحيب وارتياح من بقية الناس، يستانسون بوجودها ويرونها اداة للدفاع والحماية، ليس خوفا من قطاع الطرق، لانه ليس لديهم ما يستهدفه قاطع الطريق، ولكن من غدر ضبع او ذئب واحيانا بعض الطيور الجارحة التي يمكن ان تستهدف في هذه الجبال طفلا غفلت عنه امه، او قد يستهدفه او يستهدف غيره ثعبان اخضر من ثعابين الجبال التي يطلق عليها quot;الصلquot; ذات الاحجام المهولة , رغم ان صاحب البندقية لا يكون قد جاء بها لهذا السبب وانما للانتفاع بها في صيد ارنب او شاة من شياه الغزال اخطأت طريقها الى هذه الشعاب، وهي شياه ندر وجودها بعد ان اجهز الناس بسبب القحط والجفاف على بني قومها، فلم يبق في عرض الصحراء وطولها الا شياه شاردة نافرة، تركض عشرات الاميال مبتعدة عن أي مكان يصله البشر، بسبب ما عاناه اهلها من غدرهم وخياناتهم.
ـــ 5 ـــ
لم تكن العائلات التي جاءت من اوزو يقودها السيرجينتي خليفة، كلها ذات ارومة ليبية، وانما جاء معها مرحول صغير من خمس او ست عائلات بدأت رحلتها من عمق الصحراء الافريقية، بحثا عن الكلأ والماء، حتى وصلت شريط اوزو، وعندما نفد الكلأ ونفقت الاغنام، لم تستطع عائلات هذا المرحول العودة الى بلادها في كانو او كانم، ووجدت السيرجينتي يتجه بنجعه الى جنائن العرعار، فاستنجدت بنخوته كي يعبر بها البون الصحراوي الى مواطن العمل والرزق، الا انه بدا من الواضح ان لهذه العائلات الافريقية نزوعا الى التحرر في العلاقات الاجتماعية، اكثر مما هو موجود لذى قبائل الصحراء الليبية، بما في ذلك الطوارق الذين يتركون لنسائهم حرية ان يخرجن سافرات او حاسرات الرؤوس، ولكنهم يتحفظون كثيرا في اقامة العلاقات الحرة بين النساء والرجال، بينما كانت نساء هذه العائلات الافريقية، يخرجن مع الرجال الى الشعاب سافرات، وحاسرات الشعور، ولا يتحرجن احيانا من الكشف على اثدائهن وصدورهن خاصة اذا كانت الواحدة منهن تملك ذريعة ارضاع طفل، مما كان يثير حفيظة العائلات البدوية الليبية، الا ان نساء ورجال هذه العائلات يرغمون انفسهم على احتمال ما يشاهدونه من تصرفاتهم الهوجاء باعتبارها نوعا من التقاليد التي تعايش معها هؤلاء الناس، الا ان الامر الذي لم يكن مكنا ان تطيقه المجموعة هو ما يحدث من تجاذب جنسي بين افراد هذه المجموعة من اناث وذكور، اذ بدأ الناس يلحظون كيف ان اثنان ينتميان لهذه العائلات، رجل وامرأة، لا ارتباط شرعي بينهما، يتسللان من الشعبة، وينحدران الى الجانب الاخر من الجبل، في محاولة مفضوحة للاختلاء بنفسيهما، فيما بدا واضحا انه من اجل معاشرة جنسية، بل لم يعدم من ساقه فضوله لتتبعهما وكشف ما دار بينهما تحت احدى الصخور، وارتفعت اصوات الاستنكار والاستبشاع لما يحدث، وهناك من تطوع بلفت انتباه بعض الكبار من رجال هذه العائلات، الى ان ما يحدث لا يتفق مع تعاليم الاسلام الذي يدعون انتسابا اليه، وانه يجب احترام تقاليد اهل هذه البلاد التي جاءوا يبحثون عن لقمة عيشهم فيها، الا انه لم يحدث أي شيء ينبيء بتغيير سلوكهم، بل ان هذه الخروقات للمألوف الاجتماعي البدوي، ازدادت تواترا واستفحالا، اذ ان ظاهرة هذا الانفلات الاخلاقي لم تبق محصورة في العائلات الافريقية وفيما يحدث بين رجالها ونسائها، وانما تجاوزت ذلك الى استقطاب بعض شباب العائلات البدوية نفسها، ممن وقعوا في غواية نساء منحرفات من العائلات الافريقية، وصار مألوفا ان يرى الناس شابا بدويا من اهل البشرة البيضاء، يرافق امرأة زنجية اثناء اقتلاع الحلفاء، ثم اذا به، يغافل الناس ويتسلل بها هو ايضا خلف الجبل، وظل الامر مثار قلق وتكهنات تدور في تكتم وسرية، الى ان حدث ان ذهبت العمة مريومة تبحث بين الصخور عن عشبتها المفضلة الشندقورة، والتي اكتشفت انها تنمو بصورة افضل في قدم الجبل وبين صخوره، فذهبت تبحث عنها في المنحدرالجبلي خارج الشعبة، واكتشفت عندما وصلت هناك فعلا فاضحا ترتكبه احدى النساء الزنجيات صحبة صبي من اهل البادية، فصارت تصرخ من هول المفاجأة وتكتح التراب في الجو قائلة
ــ يا سمي صبي المي
يا سمي صبي المي
تستدعي هطول ماء السماء، لتطهير الارض من ادران الحدث الاثم الذي شاهدته، فتجمع الناس حولها اثر سماعهم هذا الصياح ورؤيتهم لكتح التراب، ليشاهدوا المرأة الافريقية والفتي البدوي وهما يركضان في الخلاء، هربا من الفضيحة.
ـــ 6 ــــ
صار ما حدث في الشعبة، وما فضحته العمة مريومة، موضوع حديث بين عدد من كبراء النجع،في اجتماع،امام ادارة الوكالة حضره السنيور بانايوتي، والحاج رضوان، والامباشي جبران، والسيرجينتي خليفة، كما حضر رجل من حفظة القرآن، هو الفقي عمار الذي جاء الى الاجتماع مترددا، لانه يحب ان يبقى بعيدا عن المشاكل، يلتقط رزقه مع اولاده الثلاثة وامهم، وتقتصر مشاركاته مع النجع على القيام بدور الامام مرة في الاسبوع اثناء صلاة الجمعة التي تقام في الخلاء، متفرغا بقية الاوقات لتلاوة القران واداء الفرائض والنوافل في خيمته، وقد جاء بعد ان ارسل الحاج رضوان في طلبه، لان هناك جانبا شرعيا يعرفه اكثر من غيره، وتناول الحديث واقعة الامس، واستبعدوا منذ البداية الخوض فيما يمكن فرضه مع عقاب على الجناة الاثنين كما تطالب بعض الاصوات، التي تصل الى ذكر اقامة الحد، وهو كلام يقال دون علم، لان لاقامة الحد شروطا لا تتوفر فيما حدث، ولا وجود لشهود يؤكدون حقيقة هذا الذي حدث،بما في ذلك العمة مريومة، التي وجدتهما في حالة تلبس، تقول بانها اغمضت عينيها، وادارت وجهها وجسمها مستبشعة ما راته من عري الاثنين، وانفلتت مولولة تكتح التراب فوق رأسها دون ان تمعن النظر فيهما، ثم بادرا بالهروب والابتعاد عن المكان الى حد لم يعد باماكن احد ان يتعرف عليهما، ولم يعد ممكنا معرفة ما اذا كانا قد هربا ام تسللا تحت جنح الظلام عائدين الى النجع.
واتفقوا على ان يصرفوا النظر عن البحث في معرفة من هما، او فكرة ان يتعقباهما باي عقاب، لان ما يهم المجموعة الان هو تجنب تكرار ما حدث، وطالما انه امر ارتبط ظهوره بهذه العوائل الافريقية، فالي أي مدى يمكن الضغط على هذه العوائل، حتى تغادر المكان؟ وهل يستطيع بانايوتي ان يمتنع عن شراء الحلفاء منهم؟ الا انه لا يستطيع كما اخبر اعضاء الاجتماع، لان ذلك سيكون مجازفة يمكن ان تجلب له المشاكل اذا ما عرفت الشركة انه يمتنع عن شراء الحلفاء، من أي مصدر كان، وستعتبره اخلالا بشروط العقد، يجيز لها التحلل من التزامها معه، والبحث عن وكيل اخر يقوم بالعمل، واقترح الفقي عمار ان يتم استدعاء رؤساء العائلات وافهامهم ان ما حدث يجب الا يتكرر، واذا تكرر فانه لا مكان لهم في هذا النجع، ويترك الاختيار لهم بين الالتزام بالنواميس والاخلاق، التي يحتكم اليها اهل هذه البلاد، او مغادرة جنائن العرعار، وثم ارجاء الاجتماع الى مساء الغد، حيث يتم استدعاء ارباب العائلات الافريقية وابلاغهم بما اتفقوا عليه. وكان يورجو هو الذي يتولى خدمة الرجال وتقديم الشاي والقهوة، دون ان يشارك في الحديث، وفي ختام الجلسة، وعندما بدأ الرجال يهمون بالنهوض همس شيئا في اذن والده، الذي تحرك باتجاه الاومباشي جبران،، ليقول له بصوت هامس انه لا حاجة لان يترقب ابنته انجيليكا، لكي تصحب مريم الى الشعاب، لانها ستبقى لمعاونة امها في الحانوت والبيت، وعرف الاومباشي جبران، ان بانايوتي يفعل ذلك خوفا من هذا الاختراق الاخلاقي الذي حدث بالامس، فرد عليه قائلا، بانه يكبر فيه ما اظهره من غيرة على شرفه وشرف اسرته، ولكن الامر في رايه لا يشكل خطورة اذا نجحوا في ايقافه عند هذا الحد، الا ان بانايوتي اصر على موقفه، قائلا ان هذا راي زوجته كاتيا وابنه يورجو، ثم ان للفتاة عملا آخر غير جمع الحلفاء، فلتعد اليه، ولينصرف كل انسان لما جاء من اجله في هذه الوكالة.
لم تذهب انجيليكا الى الشعبة في اليوم التالي ولم يحدث اثناء ذهاب الناس هناك أي حدث يثير القلق كما حدث بالامس، ومضى النهار في روتين طبيعي عامر بالهدوء والسلام، وعاد رجال النجع الكبار لاجتماعهم وقد دعوا اليه ارباب العائلات الافريقية، الذين استمعوا الى ما يحمله هؤلاء الرجال من انتقادات لتصرفات عائلاتهم، وما طرحوه من اسئلة، اجابوهم عليها قائلين بان هناك سوء فهم لبعض عوائدهم التي لا تخالف تعاليم الاسلام، لان تقاليدهم تجيز للخاطب ان يلتقي بخطيبته ويرافقها ويمكن ان يختلي بها لتبادل الافكار واختبار ما بينهما من حب وتفاهم، وهو ما لا تتيحه تقاليد العائلات البدوية، ولكنه لا يجافي الاخلاق ولا الدين، وشككوا في رواية العمة مريومة لما حدث خلف الجبل، فهي امرأة عجوز، ضعيفة النظر، ازعجها ان تجد رجلا وامرأة يختليان ببعضهما فعمدت الى الصراخ وتكتيح التراب، ومهما كان من صحة او عدم صحة ما حدث، فهم يتعهدون بمراعاة كل ما يطلبه منهم جيرانهم، و لا يصرون اطلاقا على القيام باية ممارسات غير مقبولة من اهل البلاد، فقد جاءوا لالتقاط لقمة عيشهم بلا مشاكل اورغبة في استفزاز احد من الناس، وفعلا حدث هذا الانضباط اثناء ساعات جمع الحلفاء، وصار هناك اكثر من رقيب يحرص على منع حدوث أي تجاوز، الا انه لم يكن صعبا على شباب النجع، من اهل البلاد، الاقتراب من بعض الفتيات الافريقيات، للاتفاق على موعد معهن، بعد ان عرفوا ميولهن التحررية، او الاختلاط بهن في حفلات راقصة، تقام في الخلاء اثناء الليل بعد ساعات من عودة الجميع من الشعبة، حول نيران كبيرة يوقدونها او تحت ضوء القمر او النجوم، بحجة انها حفلات يجلبون بها شيئا من الترفيه لانفسهم، ويحيون بها التراث الشعبي لاهلهم، وهي التي بدأوا في اقامتها منذ مجيئهم فلم تلاقي اعتراضا، الا تحفظا بسيطا ممن يحبون النوم مبكرا ويزعجهم بقاءها الى منتصف الليل، فتم الاكتفاء بان تكون ثلاث مرات في الاسبوع وان تقتصر ساعات اقامتها على الساعات الثلاث من الليل التي يضيؤها نورالكهرباء، والتي يجب ان يهجع بعدها جميع اهل النجع في مراقدهم.
ـــ 7 ـــ
انتظم مجيء سيارات الشحن الى وكالة بانايوتي، واستقر على روتينه الحالي، وهو شاحنة كل يوم، تأتي مفردة اغلب الايام، وتاتي مرة او مرتين في الاسبوع تجر مقطورة خلفها، لشحن ما فاض على حمولة السيارات المفردة من لفائف الحلفاء، وتاتي السيارة ومعها عدد من العمال لا يقلون على ثلاثة عدا السائق، بينم مساعد له، وعامل متخصص في تشغيل الرافعة التي تاتي مع كل سيارة شحن، ليستعين بها هؤلاء العمال في رص اكبر عدد من لفائف الحلفاء في الشاحنة، وببطء تسير الشاحنة بحمولتها مع الطريق المترب الذي شق حديثا، حتى تتجاوز الجبل، وتزداد سرعتها وتاخذ معدلها الطبيعي عند وصولها الى الطريق الممهد، المرصوف بمادة جيرية واسمنتية، ينقصها الاسفلت يطقون عليها طريق البيستا، وتتكرر وجوه السائقين في اغلب هذه الرحلات، وقد يغيب سائق او معاونه، ليحل محلهما سائق ومعاون غيرهما، اما العمال فهم محكومون بعمل تناوبي مع سيارات الشركة يجعلهم في حالة تبدل دائم، عدا عامل واحد هو الذي يتخصص في خدمة الالة التي ترفع حزم الحلفاء، فهو دائما الفونسو، الفتى الايطالي الذي يتكلم العربية باعتباره ينتمي للجالية الايطالية الطرابليسة، وبخلاف العمال الذين يرتدون الاوفرول على الدوام، فهو يعمل فوق الشاحنة متحررا من قميصه ولا يحتفظ الا ببنطاله الذي يكون قصيرا في اغلب الاوقات، يتخذ مكانه فوق الكرسي المحاذي للرافعة فوق الشاحنة، ويزداد مقعده علوا، كلما امتلأ جوف الشاحنة بحزم الحلفاء، اذ ينتقل بالرافعة والكرسي فوق المستوى الاول من هذه الحزم التي يكون قد اجاد رصها فوق ارضية الشاحنة، ثم يرتفع بهذه الحزم الى مستويات اكثر ارتفاعا تصل الى خمسة وستة ادوار فوق مستوى ارتفاع الشاحنة نفسها، فيعمد بعد الانتهاء من رصها الى تطويقها بعدد من الاسلاك يجيد ربطها بحلقات حديدية مثبتة في جوانب السيارة، وهكذا الامر مع المقطورة اذا كانت هناك واحدة.
وتاتي الشاحنة فارغة الى الوكالة الا من حمولة صغيرة من السلع يكون بانايوتي قد اوصى باحضارها للحانوت، وكان الفونسو هو الذي يعهد اليه بانايوتي بمهمة الوسيط بينه وبين متاجر طرابلس، يحاسبهم ويستلم منهم ما يرسلونه من بضائع ويعيد اليهم فوارغ الزجاجات والبراميل والصناديق، وبسبب هذه العلاقة الخاصة كان هو وحده بين العمال من يحظى بالدخول الى بيت صاحب الوكالة لمشاركته الطعام مع عائلته، واقتضت الحاجة اقامة خيمة في البراح الموجود امام مخزن الوكالة ومقرها الرئيسي يقضي بها العمال قيلولتهم وتم فرشها لهم بالبسط والحصران، ولانهم لا يشغلونها طوال الوقت، صار شباب النجع يأمونها مساء، حتى صارت مركزا لتجمعهم، واضطر بانايوتي تحت الحاحهم ان يجلب لهم الة لصنع القهوة والشاي، ومعالف يضع فيها علب المشروب محاطة بمكعبات الثلج، واتفق مع اثنين من شباب النجع يتناوبان على خدمة الشباب في عمل مسائي ليلي يتقاضيان اجرا عليه ويحاسبان الشباب على ما يستهلكونه من مشروبات ساخنة وباردة، في هذه الخيمة التي اتخذت تدريجيا شكل المقهى، واكتمل هذا الشكل بعد اضافة مجموعة من كراسي وطاولات البلاستيك يتم وضعها ليلا امام الخيمة لمن يريد استخدامها خاصة اثناء لعب الورق والديمينو والضاما، بل ان بانايوتي نفسه احضر رقعة شطرنج وصار يعلم اللعبة لبعض اصحابه ليكونوا شركاء له في لعبها، وكانت انجيليكا، التي بدأ جمالها ياخذ كلما تقدمت في العمرصورة اكثر فتنة واثارة، وقد وصلت الان الى مشارف السابعة عشرة، وغدت صبية شديدة الجمال والفتنة، برزت مؤهلاتها الانثوية باكثر من اية امراة في عمرها، تشاركها الاقامة في هذه البيئة، خاصة انها ترتدي دون غيرها ملابسها ذات الطابع الاوروبي،متحررة من شروط الملابس النسوية الاسلامية التي يلتزم بها اهل النجع، بسبب انتمائها لدين يجيز لها ان ترتدي ملابس لا تحجب شعر الرأس ولا ان تستر ساقيها وذراعيها، تخطر بينهم مستقطبة الانظار والقلوب، الا انها، دونا عن كل الناس، كانت حفية بالفتى الايطالي الفونسو، تذهب في مشاوير كثيرة بين البيت وسيارة الشحن عند تعبئتها، تنقل له فنجان قهوة او شاي اعدته في البيت واحضرته مصحوبا بقطعة جاتوه، او كوب ماء مثلج، مما استنتج معه الحاضرون، وجود عاطفة تربط بينها وبين الشاب الايطالي، ولم يكن احد يجد غرابة في مثل هذا التجاذب بينهما، فكلاهما يلائم صاحبه ويليق به، ما عدا تأومها يورجو، الذي يتربص لاخته عندما تأتي الى مكان الشحن، وينهرها، ويطلب منها حين يراها واقفة قريبا من المكان الذي يعمل فيه الفونسو، ان ترجع الى البيت او الحانوت، والا تظهر ثانية في هذا المكان، واعترضها ذات مرة وهي تحمل كاس ماء مثلج لالفونسو، وقبل ان تصل وتمد له يدها بالكاس، انتزعه شقيقها منها ورمى بما فيه من ماء على وجهها مبللا ملابسها، وارسلها تبكي الى امها في الحانوت، بينما واصل الفونسو عمله صامتا، وكأن الامر لا يعنيه، وقد بدا واضحا لمن كان يراقب العلاقة بينهما، ان المبادأة كانت دائما تأتي من طرف انجيليكا، دون ان يظهر الشاب الايطالي حماسا يماثل حماسها، ربما تثاقلا، وتحفظا، وحرجا من اهلها، وربما حقا لا يجد في نفسه حبا لها، يرد به على ما تعرضه عليه من حب في سخاء واريحية.
يتبع غدا
التعليقات