رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي

الحلقة السابعة: في مواجهة العاصفة


عاد الحاج رضوان الى حديث العرس قائلا
ــ هل رأيت ما كان يفعله رئيس الشرطة القادم من مزده.
ــ قصدك صالح السردوك.
ــ نعم. كان يغرز عينيه في العروس كانه قط يتربص بفأر، يريد التهامه.
ــ وماذا تنتظر من رجل اشتهر بتعذيب الناس وضربهم والاعتداء عليهم، بسبب ودون سبب؟
ــ وكيف تركته الحكومة في هذا المنصب؟
ـــ وهل تريد الحكومة غير رجال مثله، خاصة وانها حكومة اجنبية لا يهمهاغير حفظ الامن...
فاكمل الحاج رضوان
ــ وهو يوهمها ان حفظ الامن لا يأتي الا بالقبضة الحديدية.
ــ نعم، هذا ما يفعله.
ــ ولكن رئيسه الانجليزي لا يفعل مثله.
ــ تقصد نائب الوالي في مزده، انه توزيع ادوار ليس الا، فهو يصدق فيه المثل، ما داير الذئب ما كاره الكلب، فهو يرى ويعرف ولا يفعل شيئا، وعندما ياتي من يشتكي اليه من السردوك، يقول هذا واحد منكم، تعرفونه ويعرفكم اكثر مني.
ــ وقانا الله من شرهم.
شيء ما دفع الاومباشي جبران ان يرفع راسه من الانحناءة التي تفرضها عملية اقتلاع الحلفاء، وينظر في الافق عند منفذ الشعبة قبالته، ليقول بفزع لصاحبه الحاج
ــ ارفع رأسك ياحاج رضوان، وانظر ان كنت ترى ما اراه،ام هي ضبابة حمراء طبقت على عيني.
ــ انها ضبابة حمراء تطبق على الدنيا باجمعها.
ــ هي اذن عاصفة قادمة تنذر بشر كبير، لم نر مثلها في هذا المكان منذ مجيئنا اليه.
ــ يجب ان نخرج بسرعة من الشعبة، لكي لا تصطادنا العاصفة بين فتحتيها. كل الناس يجب ان يخرجوا.
ــ وان يتركوا كل ما جمعوه من حلفاء، لانه لن يقوى احد على حمل قشة واحدة.
اخذ كل منهما اتجاها يصيح بالناس يطلب منهم مغادرة المكان على وجه السرعة، فرمى كل رجل وامراة وصبي وصبية ما في يده وانطلقوا للخروج من الشعبة، وقد بدأ بعضهم يطلق الصراخ خوفا مما سيواجهونه بعد قليل وقد رأوا الضباب الاحمر يغطي الافق ويقفل منافذ الشعبة، واصوات نساء تنادي على اطفالهن في فزع ورعب، ويمسكن الواحد منهم عندما يجدنه ويسحبنه وهن راكضات نائحت، لان هناك خطرا داهما شعروا جميعا باقترابه.
مهلة صغيرة اعطتها العاصفة، قبل ان تبدأ هجومها الكاسح، تلفحهم بغبارها الاحمر، وتضربهم بحصاها، وهم يركضون وقد زاد ركضهم سرعة لان العاصفة جاءت من خلفهم، وحمدا لله انها كذلك، لان الامر سيكون اكثر مدعاة للفزع لو ان العاصفة قبالتهم، لقد وصلت العاصفة لحظة ان اوشكوا على ترك الشعبة وراءهم، وهو امر لصالحهم، اذ ما لبثوا ان وصلوا سفح الجبل حيث تنكسر حدة العاصفة قليلا، ويتضاءل عنفها، لانها وسط شعبة مفتوحة من الجانبين ستكون اكثر قوة وشراسة، شكرا للاومباشي جبران والحاج رضوان، لولاهما لاصطادت العاصفة اهل النجع وهم ينحنون على جمع الحلفاء ويضعون رؤوسم في الارض حتى تاخذ العاصفة بتلابيبهم، قريبا من تلك الاخاديد وتحت تهديد الصخور التي لن تبقى ثابتة بسبب عنف العاصفة، ورغم انها تاتي من خلف اظهرهم الا ان ترابها وحصاها يتحرك بصورة تجعله يضرب وجوهنم ويدخل في عيونهم، فيحاولون ابعاد الضربات بما يفيض من ارديتهم واغطية رؤوسهم، يغطون بها وجوههم ويتركون انفراجة او شقا يتبينون بها او به طريقهم الى النجع.
وجدوا عند وصولهم اليه، ان اكثر من خيمة تهدمت، واكثر من كوخ طار سقفه، الا ان الاغلبية، صمدت للعاصفة ولم تكن تحتاج الا الى لمزيد من تعزيز اوتادها بوضع صخور فوقها وفوق الاطراف التي يقفلون بها مداخل الخيام وجنباتها التي يعبث بها الريح، لتكون مكانا صالحا لاتقاء العاصفة، فهو يوم مخصوم من وقت العمل، كان عليهم ان يقضوه جالسين داخل الخيام، يضعون ما لديهم من امتعة بينهم وبين الشقوق التي تتسلل منها موجات الهواء المحملة بالتراب، واضعين صغارهم في احضانهم، يقرأون ما تيسر لهم من سور القرآن، ويستنجدون باولياء الله الصالحين، متوسلين الى الله باسمائهم ان يمنع عنهم شر هذه العاصفة ويأذن بايقافها. وانضمت كل عائلة وجدت خيمتها متقوضة او كوخها بلا سقف للاحتماء بخيمة او كوخ الجيران وقد استمر بقاؤهم على هذا الحال طول النهار غير قادرين على اعداد اي طعام، وبالكاد يصل الواحد منهم الى زمزمية ماء يطفي بقطرات منها حرقة العطش ويبل بها جفاف فمه وحلقه، والعاصفة تواصل العواء والزئير، كانها غابة تزحم بالوحوش المفترسة المتعاركة، حتى تراجع ضوء النهار، وبدأ ت العتمة تطبق على الدنيا، وكانت هذه العتمة اشارة للعاصفة بان تتوقف عن زئيرها، ومتمهلين، حذرين، بدأ الناس يخرجون من خيامهم واكواخهم، وهم ينفضون التراب عن ملابسهم ويزيلونه عن وجوههم ويبحثون عما تسلل منه الى ما تحت الملابس وبين خصلات الشعر، ويعاينون اثار العاصفة بالخارج، وما اهالته من اتربة ورمال حول خيامهم وغطت به المسارب التي سبق ان صنعتها اقدامهم بين الخيام وبين ابنية الوكالة وهناجرها. وباشر عدد من شباب النجع، يقودهم السيرجينتي خليفة، في اعادة بناء الاكواخ المتهدمة وترميم السقوف الطائرة، وخرجت العمة مريومة من خيمتها تتفقد ما زرعته من اعشاب طبية في احواض امام الخيمة، لتجد ان النبتات اختفت باحواضها الطينية تحت التراب فجلست ترفع عنهاالتراب بيديها واحدة واحدة، وجلبت لها جارتها العمة بدرية كاسا من الشاي الاخضر مدته لها فارتشفته بسرعة وعادت تنزع التراب حتى ظهرت اوراق نبتة شندقورة خضراء سليمة، كما كانت قبل العاصفة، فقالت الجارة تبارك لها سلامة النبتة:
ــ الحمد لله ان العاصفة لم تقتلع هذه النبتات الصغيرة وهي التي اقتلعت اشجارا ذات جذور وجذوع.
ــ الحمد والشكر له ان جاء العقاب خفيفا بهذا الشكل.
ــ عن اي عقاب تتكلمين يا مريومة.
ــ وهل تشكين يا بدرية في ان العاصفة كانت عقابا من رب العالمين لاهل هذه الديرة على المفاسق والشرور التي ظهرت في ديرتهم.
ــ فعلا الان فقط انتبهت الى هذه الحقيقة، ربنا يجعلها نهاية ما يلحق بنا من سوء.
ــ نعم، هذا ما سيحدث، اذا توقفت المفاسق والشرور، ولكنني احس انها لن تتوقف.
ــ ولماذا لا تتوقف لا سمح الله
ــ لا ادري، وليس عندي تفسير غير انه احساس احس به.
ــ قلب المؤمن دليله يا اختي، وانت امرأة خير وصلاح، فما الذي يقوله لك قلبك بالله عليك؟
ــ يقول ان يورجو الذي ارتكب الفاحشة، رجل مجنون، ولكن الاخت التي كانت بطلة القصة، لا تخلو هي ايضا من عنصر الشر، انه يتبدى واضحا في عينيها.
ــ وهل تأملت عينيها وعرفت على وجه اليقين ان هناك شرا يصدر عنهما؟
ـــ لا حاجة لان يتأمل الانسان عينيها، انهما يهجمان عليك ويقولان لك بصريح عبارة انهما عينان ابليسيتان.
ــ اعوذ بالله من شر ما خلق.
ــ انتظري وستسمعين المزيد من هذه المفاسد والشرور.
وارتفع فجأة النواح من مكان قريب، نواح امرأة ملتاعة، مفجوعة، كما هو الحال في حدوث كوارث الموت الفجائي. كان النواح يرتفع من كوخ معزول مبني بالطين والقش وكرناف النخيل، هو كوخ الراعي منصور ابوفاس،المواطن الاول كما يسميه اهل النجع، يسكن مع امراته سالمة التي ارتفع نواحها بمجرد ان سكت عواء العاصفة، تبكي زوجها منصور، لانه لم يعد بشياههة التي كان يأخذها للرعي، في الوهاد القريبة، وهرع بعض اهل النجع مسرعين اليها، وعندما عرفوا سبب عويلها، صاروا يطمئنونها بان الرجل خبير بهذه المناطق وليس جديدا على مثل هذه العواصف، فهو يعرف كيف يتقي شرها، الا انها استمرت في البكاء، قائلة من خلال بكائها انها لا تعرف منذ اقترنت به قبل اربعة اعوام حصول عاصفة بهذا العنف وهذه القوة التدميرية، ولان جزءا من سقف الكوخ هدته الرياح، انتقلوا بها الي خيمة المقهى التي عادة ما تتحول الى مركز لقاء وتجمع في مثل هذه المناسبات، وتركوا للمجموعة التي يقودها السيرجينتي خليفة مهمة اعادة الكوخ الى ما كان عليه، ووجدوا وهم يصلون المقهى، الفونسو قد استعان بستة رجال بينهم ثلاثة من عمال الوكالة، لتوزيع اطباق ورقية مليئة بالتمر، على عائلات النجع هدية لهم من صاحب الوكالة، لانه يعرف ان الناس جميعا قضوا يوما كاملا بلا اكل لصعوبة ان يقوموا بطهي واعداد اي طعام بما في ذلك طعاما مثل السويق الذي يكتفون بخلطه بالماء ويتناولونه اثناء استراحة جمع الحلفاء واسمه (الزميته)، لسهولة اعداده، فالعاصفة لم تترك لاحد فرصة ان يفتح فمه مجرد الفتح، ولهذا كانت وجبة التمر، التي جاءت على سبيل الهدية محل ترحيب من الجميع بمن فيهم مجموعة النساء والرجال التي رافقت سالمة زوجة منصور ابو فاس الى المقهى، طالبين منها ان تنتظر هناك عودة زوجها، لانه لم يكن ممكنا ان يتحرك باغنامه قبل هدوء العاصفة، ولن ينقضي طويل وقت قبل ان تراه عائدا بهذه الاغنام الى النجع، الا انها لا تريد ان تقتنع بكلامهم، وواصلت البكاء الذي يتحول احيانا الى نواح، تطالب وتلح في الطلب ان يذهبوا بها للبحث عن زوجها بين الشعاب، وتحت تأثير هذا الالحاح اعد بانايوتي بعض المشاعل، ودعا عددا من الرجال لمرافقته في رحلة البحث عن منصور، ومضى يتقدمهم حاملا مصباحا يدويا يسلط بؤرة ضوئه على ما يعترض طريقه من حجارة وكثبان رمال واشجار سدر ورتم واثل، وقد اصرت سالمة على مرافقتهم، وصارت ترفع صوتها بين الحين والاخر تنادي منصور، وشاركها في النداء عددا من الشباب، الا ان منصور لم يكن يرد النداء حتى وهم يصلون الى عتبات الشعبة التي كانوا يجمعون فيها الحلفاء، وكانت هي على معرفة بالطرق التي يسلكها زوجها وهو يقود اغنامه، خاصة المنحدرات والتجاويف الجبلية التي يكثر بها العشب، الموجودة داخل الشعاب وبين الجبال، وفي حين كان هو متفرغا لرعي الشياه لا يشارك اهل النجع في جمع الحلفاء، كانت هي التي تقوم بهذا الدور، وكان يدخل هو بشياهه الى الشعبة الا انه يتخذ مسالك ويرود مناطق بداخلها غير مناطقهم، وكان الناس يخافون ان تاكل الشياه نباتات الحلفاء ولكنه كان يطمئنهم ان الشاة والنعجة او الخروف يلتقط الاعشاب حول نبتة الحلفاء ويابي ان ياكلها فهي لا تدخل في الغذاء الذي تستهلكه الاغنام، ولهذا اطمانوا الى ان وجود اغنامه في الشعبة لا يجلب ضررا لمصدر رزقهم، وكانت سالمه هي التي قادت المجموعة الى نفس الشعبة، واستمرت في المناداة على منصور، طالبة من الجميع ان يشاركوها النداء لانها تعرف ان زوجها اذا كان على قيد الحياة فلا بد انه التجا الى تجويف او كهف من تجاويف وكهوف هذه الشعبة، توغلوا في اعماق الشعبة وصعدوا بعض دروبها وهم ينادون اسم منصور، وقبل ان يأتيهم ردا منه، تعالى عواء الذئاب شرسا قريبا، فواصلوا النداء باصوات اكثر ارتفاعا، فلابد ان هذه الذئاب تعوي بسبب دخولها في مواجهة ما قد تكون هذه المرة مع منصور نفسه، وكانت المفاجأة ان جاءهم صوته يرد على ندائهم ويدل على مكانه، مختلطا باصوات الذئاب،
وقادهم صوته الى حيث كان موجودا في براح من الارض داخل الشعبة تحيط به تجويفات جبلية، حيت تحاصره وتحاصر شياهه مجموعة من الذئاب، وسط غابة واطئة من نباتات العجرم ذات الاحجام القزمية، تشتبك بعضا مع بعض، وتغطي الارض الحجرية لتلك التجويفات الجبلية،
بينما اطلت الصخور الكبيرة، في سمتها العالي، كانها غيلان تصنع حلقة حول ذلك البراح من الارض، متلفعة بالظلام، تقدم افراد المجموعة بمشاعلهم، ففرت الذئاب هاربة من رؤيتها لمنظر اللهب، وقد انطلق بعض حاملي المشاعل يطارد بها الذئاب، وكان منصور ينتفض بردا ورعبا يلهج ببعض التسابيح شكرا لله لانقاذه، فقد احتمى هو وشياهة داخل هذا الاخدود، من عنف العاصفة التي هاجمته وهو موجود بشياهه قريبا منه، فلم يكن امامه الا ان يدفع بها داخل هذه التجويفات الجبلية، الا ان العاصفة حركت قطعة من الصخر في اعلى الجبل، فانحدرت بقوة وسرعة عند احدى التجويفات، واخذت في طريقها ثلاث شياه احالتها الى اشلاء، وقد حدث سقوط الصخرة قبل نصف ساعة من انتهاء العاصفة، وحلول الليل، فاذا بذئاب الجبل تخرج من كهوفها ومخابئها وقد ايقظت رائحة الدم الناتج عن مقتل الشياه شهيتها للافتراس فانحدرت تنادي بعضها بعضا فاسرع هو بوضع الشياه خلف ظهره وتصدي هو للدفاع عنها بالعصا التي كانت معه وبرميها بالحجارة، فتتراجع ثم تعود حتى تصل قريبا منه ومن الشياه فيعمد الى ضرب انوفها ورؤوسها بالعصا، واستطاعت ان تختطف شاة رابعة فتفتك بها غير الشياه التي فتكت بها العاصفة، اذ قامت الذئاب بجرها بعيدا والالتهاء بالتهامها لمدة من الوقت استراح فيها من هجومها، الا انها عادت تطلق عوائها وتنادي مزيدا من اهلها وتتكاثر حوله حتى ذهب في يقينه انه لن تنتهي هذه الليلة حتى تهزمه وتفتك منه شياهه وقد تنتهي بالتهامه هو ايضا معها، ولكن الله ستر، فلولا مجيئهم يحملون المشاعل لما فرت الذئاب هاربة من امام نيرانهم. واحاط به اثنان من الشباب يعينانه على المسير، فقد كان منهكا متهالكا، عاجزا عن المشي، بشكل طبيعي، في حين عمدت زوجته الى الشياه، التي تصل الى ثلاثين شاة، غير ما ضاع منها، تعيد تجميعها بعد ان توزعت بين الاحقاف، اثر الضجيج والمشاعل والجمهور، وتدفع بها امامها في طريق العودة، وقد وجدوا اثناء عودتهم اكثر من زمزمية ماء كانت العاصفة قد طوحت بها واكثر من غطاء راس واكثر من عمامة امسكت بها اشجار السدر، وكانوا يلهجون بالثناء على سالمة لانها هي التي اصرت على المجيء بحثا عن زوجها في حين كان رأي الاخرين انتظاره حتى يعود، وهو بالتأكيد لم يكن ليعود وسط هذه الظروف التي وجدوها تحيط به، وحصار العاصفة الذي قتل بعض شياهه قبل ان يسلمه لحصار الذئاب التي كانت عازمة على افتراسه هو وقطيع اغنامه.

ـــ 13 ـــ
في صباح اليوم التالي للعاصفة، لم يذهب احد من اهل النجع الى الشعبة، مؤجلين الذهاب لجمع الحلفاء الى ما بعد الظهيرة، فقد كانوا منهكين بسبب مقاومتهم لعاصفة الامس، التي تلاها ذهاب بعضهم لانقاذ منصور والسهر معه بعض الوقت، علاوة على ان كل شيء اصبح مردوما بالرملة، ولم تكن نباتات الحلفاء استثناء من عملية الردم، فلا بأس من اعطاء مهلة للطبيعة تستعيد اثناءها توازنها، وتقوم بارجاع الامور التي اربكتها العاصفة الى ما كانت عليه قبل انطلاقها، مع علمهم بان الامر سيحتاج الى جهد اضافي منهم لازالة الاتربة من فوق سيقان الحلفاء قبل ان يتمكنوا من اقتلاعها، ولذلك هم يؤجلون ذهابهم لاداء هذا الواجب الثقيل، قدر ما يستطيعون، الا ان شيئا اثار فضول اهل النجع، حدث اثناء هذا الصباح الاستثنائي الذي جعلوه عطلة اختيارية، هو ان الاطفال وقد اخذ وا جميعهم عطلة مع الكبار، بمن فيهم الاطفال الذين عهد بهم اهلهم للفقي عمار يعلمهم القرآن، انطلقوا يرقصون في دوائر ويغنون اغنية عن انجيليكا تجعلها مسئولة عن العاصفة وهجوم الذئاب في مزج جميل مع وصف محاسنها حيث تقول الاغنية
انجيليكا يا محلاها
في القلب غلاها
يسلم فم اللي سماها
يا محلى بسمتها ونظرتها
ويا مبهى ضفيرتها يا ما ابهاها
ويا سعد سعود اللى اصبح راقد بحداها
وامبارك هالزين اللي ربي عطاها
لكن ليش عليها جابت
ريح القبلي لديرتنا
وليش عليها بسحر العين السودة هلكتنا وقتلتنا
وضباعة وذيابة في جيرتنا
يعووا طول الليل علينا
انجيليكا يا محلاها، يا مبهاها
يا زين النجمة في سماها
يسلم فم اللي سماها
لكن ليش عليها ليش

وعبثا حاول الاباء ايقاف الاولاد والبنات عن قول الاغنية، فقد كانوا يهربون من مكان الى آخر، يصنعون حلقة راقصة من جديد، ويواصلون الغناء والتصفيق والرقص، وابدى بعض الكبار محاولات لمعرفة مصدر الاغنية، فسألوا الاطفال عن ذلك، وكان جواب اي طفل، هو الاشارة الى طفل آخر بانه نقل له الاغنية، دون ان يهتدي احد منهم لمعرفة المؤلف الحقيقي لكلمات الاغنية.

ذهب الاومباشي جبران يتجول قبل ساعة الغذاء عند مباني الوكالة، فوجد صاحبه بانايوتي حائرا لا يدري سببا لظهور هذه الاغنية ولا يكاد يعرف معناها رغم انه لم يكن مرتاحا لكلماتها، فتوسل لصاحبه ان يشرح له ما تعنيه، فقال الاومباشي
ــ الكلمات كلها جميلة، تشيد بجمال انجيليكا وتبارك هذا الجمال، وتحيي من اطلق عليها هذا الاسم الجميل.
ــ طبعا اسم جميل، معناه ملاك، او ملائكي، شيء له علاقة بملائكة السماء، فهل تراهم عرفوا معناه؟
ــ للاسم ايضا رنين جميل، فهم ان لم يفهموا المعني عرفوا جمال الشكل.
ــ نعم هناك كلام جميل ورد في الاغنية، وكلا م اخر ليس جميلا، اليس كذلك؟
ــ نسبة قليلة جدا، من الكلمات الغريبة، وهي ايضا دخيلة على بقية الكلام الجميل، اذ ما معنى ان تقول لماذا جاءت انجيليكا بالعاصفة؟
ــ هذا كلام غير جيد اومباشي جبران، كلام وراءه مشاعر حقد وكراهية.
ــ لا لا ليس كذلك ابدا يا سيد بانايوتي، كان ما تريده الاغنية هو ان تحمي انجيليكا بهذا الحضور الملائكي، الوكالة من الشرور، وتصونها وتحفظها من العاصفة والذئاب.
ــ اريد ان اصدق ما تقول، لانني لا اريد ان يكون هذا الكلام مقدمة لشيء آخر اكثر سوءا.
ــ لن يكون الا الخير يا بانايوتي، لن يكون الا الخير.

جاءهما الفونسو يقول ان العاصفة منعت البارحة السيارة بمقطورتها من المروق عبر الطريق الذي يمر بالشعبة، ووجدت اليوم صعوبة في ان تتحرك بسبب اكداس الرمال التي غطت الطريق، وساله بانايوتي كيف استطاع ان يعرف هذه الاخبار، فاشار الى رجل كان يقف امام البسكولة، قائلا انه احد العمال، سرى منذ الفجر، وجاء على اقدامه ليبلغهم ذلك، وان السيارة ستتأخر ربما ليومين قادمين، الى حين وصول الة جرف تزيح الرمال والاتربة من الطريق وطمأنه بان دورية من الشرطة عائدة الى مزده تكفلت بنقل الرسالة الى الشركة في طرابلس، وظهرت على وجه بانايوتي تلك العقدة بين الحاجبين، ورأى صاحبه الاومباشي ذلك فقال متسائلا
ــ هل حقا ازعجك هذا الخبر؟
ــ نعم، ازعجني، لان معنى ذلك عطالة وبطالة للوكلة وفلوس تخرج دون ان يقابلها فلوس تدخل.
واقترب غناء الاطفال، وهم يلعبون ويتقافزون ويعقدون حلقاتهم الراقصة ويفضونها وهم يواصلون الغناء، فخرج لهم الاومباشي يطردهم ويسوق بعضهم امامه الى خيمة الجامع ليسال الفقي عمار ان يعقد لهم حلقة تعليم القران، وعاد الى خيمته ليقود اهل بيته الى الشعبة فقد حان وقت استئناف العمل، وكان عارفا ان المهمة هذا اليوم ستقتصر على رفع التراب عن نباتات الحلفاء وان المحصول الذين سيعودون به سيكون ضيئلا، الا انها مهمة لابد من القيام بها، وسارت من حوله وخلفه بقية عائلات النجع، في شيء من الكسل والاجهاد والنفور من المهمة على عكس مشاويرهم السابقة التي تبدا مع شروق الشمس، الا انهم وككل يوم مع اقتراب الشمس من محطة الغروب باشروا عودتهم بما توفر لهم من محصول ضئيل وكان الاومباشي قلقا على حالة صاحبه بانايوتي الذي تركه في كدر وضيق، فاستانف حديثه معه فور عودته من الشعبة وانتهائه من اداء صلاة المغرب.
ــ احس بان الامور تسير في طريق لا يبعث على الرضا.
هكذا تكلم بانايوتي وهو ينقل لصاحبه بعض يا يدور في راسه من افكار كانها قطع من سحب سوداء، وواصل كلامه قائلا
ــ تعلم يا اومباشي جبران كيف جئت الى هذا المكان مليئا بالحماس والامل في ان اقوم بتاسيس مدينة جديدة، ولكنني مع هذه الاحداث، اشعر بكثير من الاحباط، وهاهي اغنية كهذه يغنيها اطفال دون العاشرة، تبعث في نفسي احساسا مؤلما بالغربة.
رد صاحبه محاولا ان يعيد شيئا من الوهج يذيب سحب الاسى في نفس بانايوتي:
ــ لا تقل هذا الكلام يا بانايوتي، لتكن هناك عقبات، وليكن هناك بعض سوء الفهم، واحيانا بعض الالم، فالطريق الى النجاح، ليس دائما مفروشا بالورود، كما يقول التعبير الشهير، المهم ان الوكالة قائمة، وناجحة، وبدأت صغيرة، ثم صارت كبيرة،واستقطبت اناسا كثيرين، وهي تقوم على مورد لا ينفد، فلماذا الاسى والحزن.
ــ انني اتكلم معك تعبيرا عما احس به، لا اكثر ولا اقل.
ــ سيتغير هذا الاحساس عندما تنظر الى نصف الكاس الملآن وليس الى نصفه الفارغ.
ــ شكرا لانك ذكرتني بما اريد، الكأس الملآن، نعم، هذا ما احتاج اليه الان، سأملا كاسا من الاوزو، اشربه واريح به اعصابي قليلا فارجو الاذن.
ــ اذنك معك.
ينهض بانايوتي من مكان جلستهما في البراح المقابل لخيمة المقهى، فيدخل المقهى، ويمضى الى ما وراء الطارمة، وبدون ان يسأل عامل المقهى ان يقدم له شرابا، سحب الزجاجة من مكانها وسكب في الكاس مقدارا صغيرا منها، اضاف له الماء فتحول السائل الذي له لون الماء، الى سائل شديد البياض كاللبن، وعاد بكاسه يواصل الجلوس بجوار صاحبه قائلا
ــ ليس معنى كلامي انني ساقفل الوكالة واترك هذا الخلاء يعود خلاء كما كان، انني مستمر في البقاء، لان هنا توجد لقمة عيشي، وليس بامكان الانسان ان يخوض في مجال العمل مغامرة جديدة كل يوم او كل عام.
ــ ان شاء الله سيطول بك العمر حتى ترى جناين العرعار وقد صارت مدينة وسيعترف الناس بفضل مؤسسها وسيطلقون عليها اسمه كما تنبأت انت ذات.
ــ هل لا تزال تذكر ذلك، كلام قلناه في البداية وجدوة الامل لا تزال تشتعل.
ــ وهي لن تنطفي ابدا باذن الله.
ــ لا تنسى انك شريك في تاسيس هذا المكان،فقد كنت اول من جاء بمواطنين يعمرونه.
ــ وهل كنت ساضع قدمي هنا لولا الوكالة، فانت بهذه الوكالة انقذت جزءا كبيرا من شعب الصحراء من غائلة الجوع
ــ انت يا سيد جبران، تتكلم بدافع المودة.
ــ نعم وهي مودة لا تتناقض مع الحقيقة، ادام الله المعروف.