رواية جديدة لأحمد إبراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة السادسة: عرس انجيليكا

وانتهت بعد حفلة الخطوبة تلك العزلة التي فرضتها كاتيا على نفسها وعلى ابنتها، تحت وطأة الاحساس بالعار، فقد ازالت هذه الخطبة ذلك الاحساس واعادت الفتاة وامها الى العمل في الحانوت دون ان تعاود انجيليكا ذهابها الى الشعبة مع اهل النجع، وصار للوكالة رجل يتولى القيادة مع بانايوتي هو الفونسو الذي اتخذ لنفسه مكانا مؤقتا لمبيته داخل هانجر الحلفاء الى حين الانتهاء من بناء البيت، واظهر سلوكا مختلفا عن سلفه يورجو في معاملة الناس اثناء قدومهم لوزن الحلفاء، فقد بدى شديد الترحيب عند قدومهم اليه بحمولاتهم من الحلفاء، يستقبلهم بود وبشاشة ويقوم بوزن محاصيلهم وهو يداعبهم ويتبادل معهم الحديث دون كلفة وتقتير في الحساب، بل كان كريما في الكوبونات التي يقدمها لهم مقابل ما يستلمه من الحلفاء، ولا يتردد في اعتبار نصف الكيلو الذي جاء بعد الكيلو السادس مثلا، متمما للكيلو السابع، ويصرف كوبونا بقيمة هذا المقدار، وصارت له صداقات مع اهل النجع، الى حد ان اصبح يذهب الى خيامهم يتفقد صديقا مريضا، ويعرف ما يريده من دواء، ليوصي عمال الشاحنة باحضاره له، ولم يكن احد من اهل النجع يستخدم الحقن الا عند الذهاب الى المستوصف المركزي في مزده، لانه لا احد يجيد استخدامها بينهم، ولا امكانية لحفظها، فصار هو يوصى باحضارها للمرضى، ويعتني بحفظ الدواء الذي تعبأ به الحقن في ثلاجة المقهى مستعينا بقوالب الثلج عند غياب الكهرباء، كما يقوم بمهمة حقنها للمريض منهم في الاوقات المحددة لذلك، مما جعله محبوبا من رجال النجع يتوددوه اليه، ويسعون لكسب صداقته، وانتهت في بضع اسابيع بناء الغرفة ومنافعها، فشاهد ساكني الوكالة قسيسا بكامل هندامه الكنسي، ياتي مع الشاحنة جالسا بجوار السائق، وعرفوا بطبيعة الحال انه جاء بالضرورة لاتمام مراسم الزواج بين الفونسو وانجيليكا، فاستضافه الفونسو للمبيت في الركن الذي كان يستخدمه لنومه وانتقل هو الى البيت الذي سيضمه مع زوجته، وابدى الفونسو نشاطا وحيوية في مد اسلاك الزينة عبر المنطقة التي يقام بها حفل الزفاف، مستعينا بمن كان موجودا من عمال الوكالة، وهي اسلاك تحمل عقودا من المصابيح الملونة، وتم نصب خيمتين لمبيت الضيوف، وبدأ الرجال في نحر الخراف، وقد بلغ العدد هذه المرة ست خراف، وقبل حلول الظلام ظهر عبر الطريق الترابي موكب السيارات كان اولها سيارة نصف نقل تضم افراد عائلة الفونسو وبعض اصدقائه الايطاليين وصلوا يغنون اغانيهم الايطالية ويصفقون ويصنعون ضجيجا مرحا، تبعتهما بعد فترة قصيرة سيارتان صحراويتان من نوع الجيب، قادمتان من عاصمة القبلة مزده، تضمان رئيس المركز صالح السردوك، يرتدي بزته العسكرية ورمز رتبة الرائد وهو التاج ذهبيا يلمع فوق كتفيه، ووسام فضي يزين صدره، وفي يده العصا الغليظة التي تشبه الهراوة، وهي عصا لا علاقة لها بعصا الشرف المصنوعة من الابنوس التي يحملها بعض الضباط من ذوي الرتب العالية، فهي هراوة ذات خشب مصقول، تؤدي مهمتها في الضرب والتعذيب بكلفاءة شديدة، مع كل من ساقه سوء طاله للامتثال بين يديه، فالسردوك لا يستطيع ان يستجوب متهما دون استخدام هذه الهراوة، حيث يصل الضرب الذي يقوم به الى حد كسر العظام او خروج المتهم بعاهة خلال ايام من حجزه، بل ان بعض مرتكبي الجرائم الكبيرة، لا يخرج من مركز الشرطة الذي يديره الرائد السردوك الا الى قبورهم، لانه يرى ان لا حاجة لان تتعب الدولة نفسها في اقامة المحاكم، التي تنتهي بعد مشوار طويل من العناء، بادانتهم والحكم عليهم بالسجن او الاعدام، فهو يقوم باعدامهم فور وصولهم اليه اختصارا للطريق وتوفيرا للجهد والتكاليف.
جاء هذا الرجل الشهير بسطوته وقوة باسه ليكون احد الشهود على عقد الزواج، او ما يسميه الاجانب افضل رفاق العريس، وخدمة لصاحب الوكالة جاء له من عاصمة الاقليم بصديقه الشيخ مفتاح شيخ البلدة، وكبير تجارها اليهودي شلهوب، وجلب اثنين من انفار الشرطة بملابسهم المدنية علاوة على السائق للقيام بخدمته ومساعدة اهل الفرح في خدمة الضيوف.

واشتعل محرك الكهرباء، لتلعلع الاضواء الملونة في المكان، وبدأ تجمع الناس، وصدحت الحناجر بالغناء البدوي، تطلقه النساء، بمرافقة الزغاريد، ومزمار عاشور وفرقة الشوشان، واكثر من امرأة في الجانب الذي تحتله النساء واكثر من رجل في الجانب الاخر يضربون الطبول، وارتدت انجيليكا فستان الفرح الابيض فظهرت في صورة لم يكن احد يستطيع التكهن بها، جمالا يتألق تحت اضواء الفرح بهيجا ومشرقا، كأنها كائن سماوي تنتمي الى حوريات الفردوس، وجميع الحاضرين منبهرون بهذه الزينة التي ظهرت بها، وجمالها الذي ابرزته الزينة، وصنع له الثوب الجميل اطارا يليق به، وصاروا رجالا ونساء يعلقون ابصارهم بها لا يريدون ان يتركوا التحديق في صورتها للحظة واحدة، بمن فيهم رجل القوة والسلطة الميجور السردوك، الذي ظل يلهج بلكمات التسابيح يرتلها في حضرة ربة هذا الجمال وهذا الاغراء قائلا بصوت مرتفع يسمعه الناس
ــ سبحان الله، ما شاء الله، سبحان الله، ما شاء الله.
وبعد ان مدت اسمطة الطعام والشراب وهنأ الجميع باكلهم شرابهم، قام القسيس بواجبه في اتمام مراسم العرس مانحا الاذن للعريس بان يقبل عروسه حسب التقاليد الاجنبية، امام اعين كل الحاضرين، وواصل العرس انطلاقه بعد اتمام المراسم باكثر ضجة بحيث تم افساح مساحة للرقص قاد فيها العروس وعروسه عدد من الراقصين الاجانب بمن فيهم بانايوتي الذي مضى سعيدا يراقص زوجته كاتيا ومن حولهما افراد عائلة الفونسو، وحرصا على المحافظة على بعض التقاليد اليونانية التي تجلب الحظ، امر بانايوتي باحضار بعض الصحون الخزفية، التي صار يقذف بها فوق احدى الصخور الموجودة لدعم اوتاد الخيمة، وقلدته زوجته فحطمت بعض الصحون وسط دهشة فقراء النجع الذين يرون في تحطيم هذه الصحون، اهدارا لادوات يتم شراؤها بالنقود، فهي بالتالي اهدار للمال من اجل اللعب والعبث، وخلال كل الوقت استمرت دفوف فرقة الشوشان و مزمار عاشور تقدم الانغام السريعة الخفيفة الراقصة التي تساعد الراقصين على ان يقوموا بتبديل خطواتهم على ايقاعها.

ـــ 11 ـــ
انتهى العرس
ذهب العريس يشبك ذراعه في ذراع عروسه الى دارهما الجديدة، وعاد اهل النجع الى خيامهم واكواخهم، اما الضيوف القادمون من خارج الوكالة فقد تفرغ بانايوتي نفسه للاشراف على ترتيب مهاجع مريحة لهم داخل خيام الفرح، فقد ذهبت احدى الخيام لعائلة الفونسو، وقد جاءوا معهم باسرة السافاري، وخصصت الخيمة الثانية للسردوك وضيفيه، اما الثالثة وهي خيمة المقهى التي تركت مفروشة بالاكلمة والحصران والبطاطين فقد خصصت للعمال القادمين مع الضيوف وسائقهم واصدقاء الفونسو من العاملين في شركة الحلفاء، وكان الميجور السردوك وضيفيه، قد رآوا ان يواصلوا السهر قليلا بعد انتهاء الحفل، خاصة وان بانايوتي قرر ان يستمر محرك الكهرباء في العمل لساعتين او ثلاثة بعد موعده، فسحبوا عددا من الكراسي من خيمة العرس وجلسوا في الخلاء يتسامرون تزجية للوقت الذي كان سيستغرقه اعداد الخيمة، وحلت لهم الجلسة فواصلوا انعقادها حتى بعد ان جاء بانايوتي يبلغهم بان الخيمة جاهزة لمبيتهم، وسألهم ان كان يستطيع ان يجلب لهم شيئا من الاكل او الشراب يتسلون به، وعندما رآهم صامتين حائرين، اقترح ان يحضر لهم سخانا من الشاي الخفيف الاخضر الذي تزيد فيه كمية النعناع على الشاي لكي لا يكون مانعا من النوم، فوافقوا على اقتراحه، فارسل لهم السخان مع علي وهو صبي يعمل في المقهى ومعه عدة اطباق من اللوز المحمص والفستق السوداني وقطع الكعك والبسكويت، وسفرة تقبع فوقها اربعة كؤوس زجاجية صغيرة، واراد ان يقف على خدمتهم فسألوه ان ينصرف بعد ان اعد كأسا لكل واحد منهم، وكان الجو فعلا يغري بان يبقى هؤلاء الاصدقاء الثلاثة جالسين في الخلاء، حتى بعد ا ن حان اطفاء محرك الكهرباء وتبعا له انطفات اضواء الوكالة وحل الظلام والصمت محل النور والضجيج، ولم تبق الا اضواء النجوم، وضوء قمر لم يصل الى مرحلة البدر الكامل، يطل من جانب الافق، وقد بدت البهجة على السردوك، منتشيا بالعبق الذي ياتي مع نسيم الليل، محملا بعبير اشجار العرعار، فعبر بكلمات اشبه بالهمهمات عن هذا الاحساس، فصادق عليه الشيخ مفتاح قائلا
ــ الا يغرينا هذا الهواء الجميل الزكي الرائحة، وهذه السماء المرصعة بالنجوم، التي نحس بها قريبة حتى لتكاد تلامس الرؤوس، وهذا الخلاء، وهذا الهدوء، بان نترك مزده، وناتي لنعيش تحت ولاية ورعاية السيد بانايوتي.
فرد عليه الرائد السردوك قائلا:
ــ نعم، نعم، خاصة في جوار هذا الجمال المبهر الملهم لابنة صديقنا بانايوتي.
ــ يشهد علي سيدي ربي انني لم استطع ان احيد عنها بصري طوال السهرة.
قال ذلك التاجر شلهوب، واضاف:
ــ الا انني كنت انظر بطريقة اقل صراحة، وشجاعة منك يا سيادة الميجور، فقد كنت فالتا عينيك فيها، كانهما ماسورتا بندقية، يرميان الرصاص.
فرد الرائد السردوك متحسرا
ــ ولكن ما الفائدة؟
ــ لم افهم
قال شلهوب واضاف متسائلا:
ــ ما هي الفائدة التي التي تريد تحقيقها من الحملقة غير متعة النظر.
فرد عليه الرائد بغضب
ــ اقصد انه خطأ ولم يعد هناك امكانية لتصحيحه، نعم خطأ صريح قبيح، اذ كيف يكون بانايوتي عائشا معنا، ويعطي هذا الكنز من الجمال لولد ايطالي قادم من طرابلس، لماذا؟ هل خلت القبلة من الرجال؟
فقال شلهوب يطرح سؤاله بخبت ومكر
ــ ومن من رجال القبلة تريد ان توده بهذا الكنز؟
وقبل ان يجيب الرائد، تكلم الشيخ مفتاح بصوت العقل والمسئولية:
ـــ الزواج ستر وغطاء، وقد فعل والدها خيرا بان جاء لها برجل من اهل دينها يبني بها.
وبغضب اكثر حدة قال الكولونيل السردوك
ـــ وما اهمية ان يكون العريس من اهل دينها او لا يكون؟ الم يكن الشرع كريما ورحيما فاباح بان يتزوج المسلم من اي دين، مسيحية او يهودية كما فعل سيدنا الرسول؟
ــ نحن هنا لا نتكلم عن الحلال والحرام، ولكن عما هواكثر لياقة وانسجاما، واعتقد ان كل من العريس والعروس يليقان باحدهما الاخر منتهى اللياقة، دينا وعمرا ومستوى اجتماعيا وثقافيا.
لم يعجب كلامه الرائد السردوك، فقام واقفا
ــ هيا، تصبحون على خير.

ورغم الخيمة التي اعدها بانايوتي للضيوف الثلاثة، الا ان السردوك اصر على اتباع تقليد يقوم به كلما خرج الى الصحراء، حيث قام واتجه الى سيارته، فانبثق سائقه من مكان ما في الظلام ولحق به مهرولا، ليركب بجواره، امام المقود، ويقود السيارة بضع مئات من الامتار، حيث تعود السردوك في مثل هذه الرحلات الصحراوية ان تكون سيارته مجهزة بحاجات المبيت في العراء، مستغنيا عن غطاء الخيمة، منتبذا لنفسه مكانا قصيا عن الجميع، يهنأ فيه بنومه، وبجواره سائقه يقوم بمهمة الحارس، والخادم الذي يلبي طلباته.

اجتمعت في عرس انجيليكا والفونسو، بعض تقاليد البدو الليبييين، وتقاليد الاجانب، طليانا ويونانا، ولعل اهل النجع انتظوروا كما كان متبعا في تقاليد الاعراس لديهم ان يعقب ساعة الدخلة، ما يسمونه (اخراج القمجة) اي عرض قميص نوم العروس ممهورا باثار قطرات من دم البكارة تأكيدا لعذرية الفتاة، الا انهم اكتشفوا انه تقليد لا وجود له في اعراس الاجانب، ومعنى ذلك انه لا سبيل الى ارضاء فضولهم لمعرفة ما اذا كانت انجيليكا، قد ذهبت بعذريتها الى بيت الزوجية ام انها فقدت هذه العذرية يوم اغتصاب اخيها لها، كل ما حدث انها ظهرت في مساء اليوم التالي تعمل مع امها في الحانوت، متألقة كأنها جوهرة، ترتدي فستانا يجر في الارض، اسود اللون، بعكس فستان الفرح، ببياضه الشمعي الناصع، ومع الثوب الاسود، وتحقيقا لجماليات التقابل والتضاد، ارتدت عقدا من الذهب الابيض يشع كانه الالماس، يحيط بعنقها، وتتارجح زوائد منه فوق صدرها، وهو الجزء الاساسي من طقم تكمله اسورتان في معصميها وقرطان في اذنيها، ووضعت في قدميها حذاء نساء جميلا انيقا له سيور بيضاء لا تقل القا وبريقا عن الطاقم البلاتيني، وكانها شاءت ان يتواصل الانبهار بجمالها وهي ترتدي فستان الفرح ليلا، ويبقى موصولا بكلام الناس وهم يتناقلون اخبار مظهرها الصباحي الجديد، وهو ما حدث فعلا، الى حد ان الرجال صاروا يختلقون الذرائع لزيارة الحانوت وشراء اشياء لا يحتاجون اليها، لمجرد الاستمتاع بالنظر اليها، وبدت هي سعيدة، تستقبل الزبائن بالابتسام، وتودعهم بذات الابتسامة المشعة التي تكمل الاشعاع الصادر من حليها، وكأنها وجدت في الزواج، نبعا من السعادة تنهل منه، وتفيض بما نهلت على كل من حولها.
وكان والدها اكثر سعادة منها لانه ازال الغمة التي خيمت على اسرته وكادت تسمم حياته، ولم يعبأ بمصير ابنه، فقد وصله طشاش كلام بانه وصل الى طرابلس، وينوي العودة الى اليونان، واثقا انه هناك لن يسمع احد بفضيحته، ويبدأ حياة جديدة بمعاونة فرعي الاسرة، الفرع الموجود في الاسكندرية من ناحية ابيه، او الفرع الموجود في جزيرة كريت من ناحية امه، فاليذهب حيث شاء لان المهم بالنسبة لابيه ان يغرب عنه ولا يريه وجهه مدى الحياة، وقبل ان يأوي لسرير ه اخرج بانايوتي دفتره الاسود وكتب بضعة اسطر عما يجول في ذهنه من خواطر
لم يكن ممكنا ان افتح هذا الكراس وادون شيئا في الايام الماضية وانا بين شطري رحى تلك المحنة القاسية تطحنني وتسحقني كما تسحق الرحى حبة شعير، لم يكن ممكنا ان ا قوى على مواجهة نفسي، او اقدر ان امسك القلم واصف محنتي التي لم يصنعها لي منافس او عدو وانما صنعها لي كائن من نسيجي ولحمه من لحمي ودمه من دمي، فكأن جزءا مني يمسك سكينا ويذبح الجزء الاخر ويمزق لحمه نتفا ومزقا، الان فقط وقد سخر الله لي امكانية تجاوز المحنة ومعالجة الازمة والخروج منها بسلام، استطيع ان اجلس واكتب شاكرا الله ان هداني للحل الذي انقذني من العذاب وانقذ ايضا ابنتي وزوجتي، ومع كل هذه النتائج الطيبة التي وصلنا اليها اخيرا، فان الندوب في النفس باقية، وبانايوتي الذي تعرض للازمة وخرج منها، لم يعد نفس الشخص قبلها، هناك اشياء كثيرة تغيرت في حياتي، بل اقول هناك شيء انكسر، فاقبالي على الحياة في هذا المكان الذي جئت انشد فيه السلام والطمانية والامان، تلون بلون المصيبة التي حلت بي وباهلي وبيتي، وكانها ريح تقلب الاشياء وتجعل اعاليها اسافلها، فاين حقا هذه الطمأنينة وهذا الامان وهذا السلام اذا كان العدو داخليا، بمعني من داخل بيتي واسرتي، ويحمل حفنة من دمي ولحمي، كيف يهرب الانسان من دمه ولحمه وبيته واسرته، الاثم طبعا ليس على المكان، فهذه الجبال التي اوت اسلافا من قبل الفي عام، لم يطرأ عليها ما يحول طبيعتها الى شيء اخر، ولن تضيق بحمل وايواء خلف ياتي لاجئا اليها من سلالة اولئك الاسلاف، فلا لوم ولا تثريب ولا عتاب على جنائن العرعار وهضابها وشعابها وما ينمو فيها من نبات كالحلفاء الذي يمدنا بخبز يومنا، ولا لوم ولا عتاب ولا تتريب على الزمان فهو في امتداده من الازل الى ابد دائم سرمدي بذات البدور والكواكب والاقمار، تشرق شمسه الابدية كما كانت تفعل من بدء خلق الكون وتغرب دون تغيير، تنتقل في منازلها كما تفعل كل عام في نظام تسير عليه الافلاك، وتلتزم به الفصول من شتاء وربيع وصيف وخريف، لا يلحقه التبدل، انما التغيير والتبدل هو ما يحدث في نفوس الناس، ولا احد يستحق اللوم والعتاب والتتريب الا انفسنا فالطف بنا يا رب الكون، واعنا يا يسوع يا مخلص النفوس من ادرانها.

ــ 12 ــ

لم تكن فرحة الاومباشي جبران، تقل عن فرحة صديقه بانايوتي بهذه النتيجة التي وصلتها احوال الفتاة بعد الكارثة التي تعرضت لها، وهو حقا وصدقا يغبط والدها لانه استطاع بمهارة واقتدار لفلفة الفضيحة بهذا الزواج، ونجح في ان يضع غطاء فوقها ومحاصرة نتائجها، فلتنجب انجيليكا طفلا الان اذا شاءت، يكون ثمرة تلك الجريمة التي ارتكبها شقيقها، فلا احد يجرؤ ان ينسب الطفل الى ذلك الاب الذي تحرم النواميس والشرائع ان يكون له ابنا منها، ولا احد يمكن ان ينكر عليها ان تنسبه لزوجها الفونسو حتى لو لم يكن حقا من صلبه، ومن ناحية ثانية فقد افرحه هذا الزواج لانه جاء يرفع عنه عبء اصطحاب الفتاة مع اسرته الى الشعبة واختلاطها بابنه وابنته، فاذا كان جمالها قد اصاب بالغواية الملعونة المجنونة شقيقها فلم تمنعه الحواجز الانسانية والا خلاقية والدينية من الاعتداء عليها، فكيف الحال مع فتى في سنها ويحل له ان يتعشقها ويفتن بها مثل ابنه، فيرتكب بدافع هذا العشق والافتتان حماقة الاعتداء عليها، كما كان مصدر راحة له ان هذا الزواج اعفاه من ان يراها ترافق ابنته وهي محاطة بتلك الدائرة من الاتهام والخطيئة، لان وجودها ملازمة لمريم، كان يمكن ان يفسد شيئا من براءة ابنته، او ينالها رذاذا من جو الاثارة الذي تثيره انجيليكا، ولكنه لم يفاتح احدا بمشاعر الارتياح التي احس بها، ويبدو ان طيف ابتسامة كان يرف على شفتيه وهو يمضي في اقتلاع الحلفاء قريبا من صديقه الحاج رضوان، فسأله الحاج عما يجعله يبتسم فاجابه قائلا
ــ تذكرت عرس البارحة، وكيف اختلطت فيه عوائد البدو بعوائد الروميين.
ــ هاهو عرس يختلط فيه الناس، نساء ورجال، دون ان تتفجر البراكين او يغمر الارض الطوفان، فلماذا لا نقيم نحن ايضا اعراسنا بهذا الشكل وتجلس العروس بجوار عريسها سافرة الوجه حاسرة الراس امام الجميع.
ــ واين نهرب من الفقهاء ورجال الدين. حمدا لله ان صاحبنا الفقي عمار ليس موجودا بجوارنا والا اعتبرك خارجا عن الدين بسبب هذا الكلام.
ــ سامحني اذا قلت لك ان هؤلاء الفقهاء مخطئون، فقد رأيت بنفسي اختلاط الرجال والنساء، عند الكعبة، اقدس مكان فوق الارض، فهل يحرم الله شيئا حلل حدوثه في اقدم بيت من بيوت عبادته واكثرها شرفا عنده.
ــ سيمضي وقت طويل قبل ان يتحقق هذا الامر، فالناس تخشى على اعراضها، والعرض عند اهلنا اكثر اهمية من الحياة نفسها.
ــ الاعراض مصونة، محفوظة، الا اذا كنت تقصد حادثا كالذي حصل بين ابنة بانايوتي وشقيقها، فهو طبعا امر فوق التصور.
ــ اللهم اسبل سترك علينا.
ــ لو حدث هذا الحادث لعائلة بدوية من اهلنا لما كان امام افراد هذه العائلة الا الانتحار.
ــ قد لا تعلم ان بانايوتي اراد ان يأخذ سكينا ويلحق بابنه ليقتله.
ــ هل صار بانايوتي بدويا هو ايضا.
ــ بانايوتي عاش منذ صباه في المدينة القديمة، في باب البحر، واهلها اشداء في المحافظة على الشرف وقد تعود بعاداتهم.
ــ ان يورجو اكثر انغماسا منه في المدينة القديمة، فهو مولود فيها.
ــ مجنون، لا محالة في انه ولد مجنون، وما فعله لا علاقة له بالتربية ولكن بالجنون.
ــ الم يكن للفتاة دور في غواية شقيقها.
ــ لقد خلقها الله جميلة، فائقة الانوثة، فماذا تريدها ان تفعل؟ لا، لا، الفتاة طبيعية جدا، لكن اخاها صبي فاقد العقل.

يتبع غدا