رواية جديدة لأحمد إبراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي

الحلقة الثامنة: غناء يصنع المتاعب

كان قد تخلف عن جلسة اليوم بقية اعضاء الحلقة التي تنعقد حول بانايوتي بسبب انشغالهم بمعالجة اثار العاصفة او نتيجة الانهاك الذي لم ينج منه احد من اهل النجع، وجاء من خيمة المسجد صوت المؤذن يرفع عقيرته باذان العشاء فاستأذن الاومباشي للذهاب للصلاة تاركا بانايوتي مع كاسه، ومتبرما من بقائه وحيدا وسط الضجيج الذي يصنعه رواد المقهى من شباب النجع، حمل الكأس في يده وغادر دائرة الضوء التي تصنعها مصابيح الوكالة، ودخل دائرة القمر ونورها غير المشوب بالانوار الصناعية، ومضى يغوص وحيدا في العتمة المضيئة، تلفح وجهه انفاس الليل المحملة برائحة اشجار العرعار، ويغمره الضياء الشاحب الشفيف الذي ينعكس باصفرار لونه على بعض الاشجار ونبتات العجرم القريبة، وتظهر له انعكاسات على صخور الصوان في قمم الوهاد البعيدة، تثير في نفسه تلك الالفة التي احس بها مع المكان عندما بدأ يبني وكالته ويهيء بيته ويتخذ جنائن العرعار موطنا له ومحلا لاقامة تستمر طويلا كما كان يأمل، نعم انها لا تزال مكانا لاقامته واقامة اسرته، ولكن احساسا يراوده في هذه اللحظات، ان هذا المكان الذي ظنه مكانا لاقامة طويلة ربما دائمة، لم يعد يراه كذلك، وانما هو مكان طاريء، عارض، في حياته، وان حاله، كما بدا له على ضوء ما شعشع في راسه من سائل الاوزو، لا يختلف عن حال من ياتي ليغرس شجرة في بيئة ومناخ وتربة لا تصلح لها، نعم هنا ارض تنبت الرتم والسدر والاثل والعرعار، كما تنبت الشيح والحلفاء والقزاح والحنظل والحرمل والثقفت والحنظل والرمث والقندول بازهاره الصفراء، وهي نباتات بعلية برية فطرية تعلم اسماءها وتعرف على خصائصها واستخداماتها رغبة في ان يتواءم مع البيئة التي انتجتها، كما جرب بنفسه غرس اشجار فاكهة مثل النخل والتين وايضا الزيتون لانها اشجار تنتمي لهذه الارض وهذا المناخ وهذه التربة، الا انه لا يمكن لنفس هذه الارض ان تنبت اشجار المناخ الاستوائي، ويبدو ان البشر هم ايضا مثل هذه الاشجار لديهم مناخ وتربة وبيئة تصلح لهم دون غيرها. توغل في الخلاء ينشد الطمأنية والسلام الداخلي، متأملا المشهد الطبيعي الذي يحيط به، مفعما بالعتمة، التي يتخللها ضوء القمر ومن قاوم البقاء معها من نجوم، محاولا ان يجد في هذا التامل شيئا من الاستغراق ينسيه هموم النهار التي ظلت تلح على ذهنه، وعندما وصل في مسيره الى منطقة قريبة من سفوح الهضاب، بعيدا عن الوكالة ومصابيحها التي لم تعد موجودة في افق الرؤيا، طوح بالكاس الذي كان يحمله فارغا، فارتفع غائبا في الظلام ثم سقط شظايا فوق جزء من الارض الصخرية عند قدم الجبل، تصنع التماعات تحت مسقط النور الباهث القادم من قبة الكون، احس بشيء من الراحة والسكينة واقفل راجعا، موقنا انه سيمضي في فراشه ليلة خالية من الارق، الا انه قبل ان ينام، صادفة في ردهة البيت المكتب الخشبي الصغير الذي يجلس اليه عند قراءة الانجيل او القيام ببعض العمل المكتبي الذي يعود به من الوكالة الى البيت فجلس عليه، وفتح بمفتاح كان معه اخر درج في المكتب يحتفظ فيه بكراس له غلاف جلدي اسود، يحرر فيه خواطره، وتناول القلم وكتب:
شيء من النشوة احسست به وانا اقذف بالكاس الفارغ واسمع صوت تهشمه على الصخور، وارى شظاياه الزجاجية وقد انعكس عليها نور النجوم فتتحول هي ايضا الى ما يشبه النجوم الصغيرة المرمية فوق الارض، فكيف لفعل تافه مثل هذا الفعل ان يحدث هذا التأثير في نفس انسان مثلي كان للحظات يشعر بثقل الهموم كانه حمل يكاد يعيقه عن الحركة، الى حد انني متثاقلا نهضت من مجلسي احمل الكاس في يدي وكانه ليس كأسا وانما صخرة اثقل من صخرة سيزيف، ثم اشعر بعد هذا الدخول في الخلاء، انني اعود خفيفا كانني صرت كائنا من شعاع
هل هي تفاهة الهموم التي نحملها ونظن ان لها ثقل الجبال فتذوب لاتفه سبب مثل عدة جرعات من الاوزو، وبضع خطوات تحت نور القمر، والعبث بكاس فارغ ورميه فوق الصخور، ام التفاهة ليست في الهموم وثقلها او خفتها وانما خفة عقل الانسان وتحولاته دون اسباب واضحة بين مناطق الضوء والظلام ومشاعر الاسى والبهجة، بما يعني انه في كلا الحالتين انما هو خاضع لاوهام، فلا حزنه حقيقي ولا فرحه حقيقي وانما هي تهويمات وتصورات مصدرها الضعف الانساني وهشاشة هذا الكائن المخدوع في نفسه الذي يظن انه اقوى الكائنات. يجب ان اضع هذا الامر في اعتبارى فلا اسعى لتهويل ما اشعر به من حزن ولا تهويل ما اشعر به من بهجة ولا اركن او اثق في اي افكار اظن ان لها شيئا من الثبات والرسوخ لان قلوبنا قائمة على التحول والتقلب وما نظنه الان شيئا ثابتا تبوت الحقائق الازلية في الحياة اذا به يصبح في تحوله اشبه بريشة تعبث بها الريح، انه شيء فيما اري يتصل بباطل الشأن البشري في هذه الدنيا.
تدبرت وانا اسير متوحدا مع نفسي ما قاله لي الاومباشي جبران، واراه يعرف في كثير من اشياء هذه البلاد اكثر مما اعرفه، ولديه نظرة للامور اكثر صفاء من كثيرين غيره، وربما اكثر صفاء من نظرتي لها، لانني اجلب معي الى هذه الارض كثيرا من الافكار والمعارف التي يمكن ان تفيض بالوانها على رؤيتي للامور، بينما هو يستطيع بطبيعة الرجل البدوي وخبرته العملية وعدم توغله في الافكار والتجريد، ان يراها على حقيقتها، ولهذا فان من المهم استشارته فيما تشوبه الفوضى من امور في هذه الوكالة للاهتداء بالبوصلة الفطرية الموجودة داخل رأسه.

ــ 14 ـــ

انتظم قدوم الشاحنات بعد ان قامت الجرافة بازالة الاتربة والرمال من الطريق، كما انتظم العمل داخل الوكالة بعد حالة الارتباك الناتجة عن العاصفة، واجتهد اهل النجع في تخليص نباتات الحلفاء من اكوام الاتربة والرمال التي ردمتها واحاطت بها، وعادوا الى جمعها بذات الكميات السابقة، وجلبها قبل الغروب الى المربع الفضي، لوزنها واستلام كوبونات الثمن من الفونسو، والذهاب بها الى الحانوت حيث كانت كاتيا وابنتها انجيليكا تقومان على خدمة الزبائن، ورغم ان الاومباشي طرد الاطفال واسلمهم الى معلمهم الفقي عمار، الا انه ما ان جاء المساء والتقى الاطفال الذين انهوا حصتهم الدراسية في المسجد، بالاطفال الاكبر سنا العائدين مع عائلاتهم من الشعبة، حتى ملأت حلقات الرقص والغناء النجع منتقلين بها نحو ابنية الوكالة، وجاءت هذه المرة مصحوبة بآلة المقرونة يعزفها عاشور، يغريه بعض الصبيان بعزفها مقابل قطعة معدنية من النقود، او ببعض مكعبات الكعك وحلقاته التي تصنعها بعض نساء النجع، فيسحب مزماره ويأتي معهم، وتصادف ان شاهدوا انجيليكا تقطع الطريق بين البيت والحانوت الموجود في ظهر البيت، فجاءوا يرقصون حولها ويغنون لها ذات الاغنية، فتخلصت منهم بسرعة ودخلت لتلحق بامها في الحانوت، وقد صفقت بابه خلفها بقوة مظهرة غضبها مما يحدث لها ولكي تقطع عليهم فرصة ملاحقتها بالداخل، وسمع غناءهم الاومباشي، وهو في طريقه للوكالة بعد ان اكمل صلاة المغرب، ورآهم وهم يضايقون انجيليكا، فجاء مسرعا يصرخ في عاشور ان يتوقف عن العزف، ماشيا كالاهبل وراء الصبيان، ويسأل الاطفال ان يتوقفوا عن قول الاغنية وان يعودوا الى بيوتهم ويهددهم بالضرب ان استمروا في اللعب وغناء الاغنية، فتفرقوا واختفوا واوقف عاشور يلومه قائلا
ـــ ما هذا الذي تفعله يا عاشور، هؤلاء اطفال لا عقول لهم، ولكنك رجل له عقل، فكيف تفعل ما يجب ان تنهاهم عن فعله.

ادرك الاومباشي ان عاشور لم يكن واعيا بفحوى الاغنية، فاعاد عليه بعض كلماتها، التي رآها لا تليق بان تقال في حق اية امرأة، فمالك بامراة تنتمي لبيت صاحبهم ورب نعمتهم بانايوتي، فوعده عاشور، الا يعاود عزفها مع الاطفال، الا ان الامباشي لم يكن ليكتفي بهذا الوعد، وانما طلب منه ان يقدم للاطفال اغنيات جديدة، من التراث الشعبي، تنسيهم هذه الاغنية فلا يعودون لقولها، وبدوره سيسال اباء هولاء الاطفال اثناء لقائه بهم في المسجد منع اطفالهم ذكر هذه الاغنية التي يستاء منها بانايوتي واسرته، وذهب يبحث عند مكتب الوكالة عن صاحبها لانعقاد الحلقة التي سيحضرها بقية رفاق السهرة، وعندما وجده عاكفا على مراجعة دفاتره، اكتفى بان القى عليه التحية، واقفل راجعا مؤجلا الجلوس معه الى ما بعد انتهائه من عمله، فناداه بانايوتي يستبقيه قائلا انه اكمل عمله، وطوى سجلاته وخرج يسحب باب المكتب خلفه، وقبل ان يبدأ الاثنان اولى خطواتها بعيدا عن باب المكتب استعدادا لانعقاد جلسة الاصدقاء، سمعا صراخ انجيليكا قادما من الحانوت، ثم خرجت هاربة باتجاه البيت امام زوجها الفونسو الذي خرج خلفها يتبعها ويلاحقها بسيل من الكلمات الغاضبة، ينطقها بلغته الايطالية، فيما بدا واضحا انه سباب لم يكن صعبا عليهما فهم بعض كلماته، فهرعا يحولان دونه ودون الوصول الى زوجته لكي لا يشتبك معها في عراك بالايدي لانها هي ايضا التقطت غصن شجرة يابس قبضت عليه بقوة ورفعت به يدها استعدادا للدفاع عن نفسها، وقد وقفت قريبا من باب بيتها تلفها العتمة، وهي تجهش بالبكاء، في حين صاح بانايوتي بالفونسو غاضبا:
ـــ ما الذي حدث يا الفونسو، ما السبب الذي يجعلك تشتمها وتحاول ضربها.
ــ ارجوك يا اونكل بانايوتي ان تسألها هي اولا؟
فتدخل الاومباشي جبران قائلا:
ــ لا تحول المسألة الى لغز، قل لوالدها ماذا حدث قصرا للشر.
ــ اردته ان يسمع منها ما الذي ستقوله عن المسخرة التي حدثث، وهي راضية بان يأتي عاشور يسوقه الاطفال، يرددون لها الاغنيات التي تهينها وهي ترقص بينهم.
سأله بانايوتي والغضب يلون صوته:
ـــ هل رأيت ذلك بنفسك؟
ــ نعم
وهنا تقدم الاومباشي بشهادته قائلا:
ـــ لا تخطيء يا الفونسو، ولا تظلم زوجتك، لقد كنت انا موجودا، ورأيتها عندما تصادف خروجها من البيت ووصول الاطفال الى هنا، وقد داروا حولها، فتخلصت هي منهم وذهبت مسرعة الى الحانوت، واشهد بالله ان هذا ما رأيته بهذين العينين اللذين سيأكلهما الدود والتراب.
ـــ ومن تراه يعلم ما دار بينهما وبين الشبان الثلاثة الذين دخلوا الى الحانوت؟
قبل ان تواصل النقاش، صاح بانايوتي بابنته ان تدخل البيت فتجاوزت عتبة بيتها ودخلت بيت اهلها، ورأى الام قادمة من الحانوت، فخشى ان تضيف اشتعالا للمشهد المشتعل، ولهذا سألها ان تقفل الحانوت وتلحق بابنتها في البيت، وتترك له معالجة الموقف، وطلب من كل من الفونسو والامباشي ان يأتيا معه بعيدا عن مناطق الضوء وقد رأى بعض الاطياف قادمة من ناحية النجع، حزر ان من بينهم اعضاء الجلسة الثلاثة الباقين الا ان هناك غيرهم ممن اثار فضولهم المشهد الذي يحدث امام الدكان، فآثر ان يبتعد بهذه المناقشة عن الجميع، وفعلا اسرع بالدخول في المناطق المعتمة يتبعه الاثنان، ومضى يوسع الخطا ولم يتوقف الا عندما وصل الى مكان بعيد عن احتمال ان يلحق به احد من اهل النجع، وعاود الحديث متجها بالخطاب الى الفونسو
ــ كنت تقول ان ثلاثة شبان دخلوا الحانوت، ثم ماذا؟
ـــ اتساءل عما يمكن ان يكون قد حدث بينهم وبين انجيليكا داخل الحانوت؟
وبغضب وحدة قال الاب
ـــ هل رايت شيئا يحدث داخل الحانوت؟ هل كنت هناك؟ انها ليست زوجتك وحدها، وانما زوجتي انا ايضا، بالاضافة الى ان التي تتحدث عنها ابنتي، فقل بصراحة ماذا رأيت؟
ــ لم اكن هناك، ولا اعرف ماذا حدث، ولكن كلام الاغنية يكون دافعا لمثل هؤلاء الشبان في الاجتراء على انجيليكا، يكفي ان يعاود احدهم كلمات الاغنية امامها ليحدث الضرر، لقد سقط رداء الحياء والعفة.
ــ لا تتحدث عن شيء لم يحدث كأنه حدث، فهذا دكان يدار بهذه الطريقة، منذ زمن طويل قبل ان تاتي انت الى هذا المكان، فلا تخترع اشياء لا احتمال لحدوثها.
وتدخل الاومباشي قائلا:
ــ لا تصنع يا الفونسو من الحبة قبة، تدمر بها حياتك الزوجية وهي لا زالت في بدايتها.
واضاف بانايوتي معاتبا:
ــ تريد ان تصنع لنفسك فضيحة من لاشيء.
ــ عاهدنا انك لن تعود ابدا لهذا السلوك، ابدا، ابدا، لكي اسعى مع والدها لارضائها، شرط ان تأتي وتعتذر لها بعد الاعتذار لوالدها.
وفي شيء من الارتباك والاحساس بالاثم، قال الفونسو
ــ اعرف انني عصبي، وهم يسمونني في البيت، الفونسو الاحمق، ولهذا فارجو وان تسامحني ايها الاونكل بانايوتي، وان تعطني رأسك لاقبلها.
عاد الثلاثة الى خيمة المقهى، وكان بقية زملاء السهرة قد اقفلوا راجعين الى خيامهم، بعد ان احسوا بان الجو لم يكن ملائما للسهر، وجلس الثلاثة الى طاولة من تلك المتناثرة خارج الخيمة، بعيدا عن الشبان الذين يلعبون الورق، وبعد برهة قصيرة، استاذن بانايوتي في تفقد امر العائلة، وعاد يطلب من الاومباشي ان يأتي معه ليحاول ان يقنع معه انجيليكا بالعودة الى بيت زوجها، الا انها ابت ان تعود، واستمرت في بكائها مصرة على موقفها الرافض للصلح.
واتفق الاثنان على ان يتركاها الليلة لتنام مع امها التي ستعمل على تهدئتها وستكون في الغد اكثر قبولا لمبدأ التصالح، وخرجا الى الفونسو يبلغانه بقرارهما بان يتركها الليلة حتى تهدأ وينتهي غضبها، وقد اتضح انه فعلا مد يده عليها في عتبة الحانوت، الامر الذي لم يكن الاب والامباشي قد عرفا به الا متأخرا، وهو ما اسهم في اضرام غضبها لانها لم تكن تتوقع ان يفعل الفونسو معها ذلك، وسبب لها صدمة لم يكن سهلا ان تتجاوزها.
انسحبا الى ركن خارج دائرة الضوء يسحبان معهما كرسيين يجلسان اليهما دون ان يطلبا شيئا من المقهي، يريدان ان يستفردا بنفسيهما الا ان رجلا ثالثا وجداه يقلدهما في سحب كرسيه وينتقل به اليهما، واذا به منصور ابو فاس الذي اطلق عليه بانايوتي المواطن الاول، لانه وجده يسكن جناين العرعار قبل تـاسيسه للوكالة، وطلب الاذن بان ينضم اليهما قائلا انه جاء متاخرا ليشكر صاحب الوكالة على الجهد الذي بدله في انقاذه عندما قاد فريقا من اهل النجع واقتحم الشعاب ليلا يبحث عنه، فهو مدين له بحياته، وقد الهته المشاغل في اليومين الماضيين عن المجيء اليه ليشكره، فقد احتاج للراحة مما حصل له كما انشغل فيما بعد باستكمال ترميم العشة التي يسكنها، وراى اليوم انه لن يستطيع ان يتأخر اكثر من ذلك في تقديم واجب الشكر للرجل الذي يعود له الفضل في انقاذ حياته، لانه لم يكن ليستطيع ان يواصل المقاومة لو لم تصل النجدة في موعدها، فرد بانايوتي يشكره على مشاعره ويقول انه لم يقم الا بالواجب ازاء الرجل الذي راد هذه الارض قبل الجميع، وسبقهم بتاسيس مكان لاقامته الدائمة، وهي المنطقة التي كان يخشى الجميع دخولها والبقاء فيها، وتخلوا عنها للغيلان والاشباح، فجاء هو يطرد منها الغيلان ويثبت انها مكان لاقامة البشر ومورد رزق لحياتهم فكان المثل والقدوة الذي احتدى به كل من جاء بعده، وانتهز بانايوتي هذه الفرصة قائلا بانه كان يتحين الفرصة ليسأله عما كان موجودا قبل وجود الوكالة ومجيء اهل النجع، وهل كان حقا يتصور هذا الخلاء الذي تحيط به الجبال مكانا لاقامة مثل هذا العدد من البشر، فقال بانه لا يستطيع ان يقول بانه لم يكن خائفا في البداية من مخزون الخرافات والاشاعات التي تتحدث عن الاشباح وصراخ الاموات، وانه كثيرا ما تهيأ له انه سمع مثل هذه الاصوات خاصة عندما يشتد عصف الريح وكان يطمئن نفسه بانها اصوات تصنعها الريح حتى لو جاءت في شكل نواح وعويل كما تحكي الخرافات لاناس يحاصرهم الحريق، ولعله راي ظلالا تعدو ليلا على ضوء القمر ولكنه ايضا كان يفسرها بانها ظلال لثعلب يركض او ارنب يفر مذعورا حتى لو كان الظل بحجم رجل لان ضوء القمر يمكن ان يجعل الظلال كبيرة وطويلة في بداية اطلالته من خلف الوهاد، وهكذا كان يطرد مخاوفه، ويرفض احيانا تصديق ما يراه ببصره وما يسمعه باذنيه لكي يستطيع الاستمرار في الحياة في هذا المكان، لانه كان دائما يجده الافضل لرعي الشياه، كما انه لم يقترب ابدا من البئر التي يسمونها البئر الملعونة او بئر الغولة التي يقال انها المسئولة عن قتل اناس سقطوا في عمقها السحيق، بل رفض ان يلبي فضوله لرؤية شكلها واسقطها من حسابه نهائيا، وطبعا ازداد الونس وتضاءل الخوف بزواجه من سالمة وموافقتها على الحياة معه وسط حلقة الجبال، وكانت فرحته كبيرة عندما تاسست الوكالة وتوافدت مراحيل العاملين، لانهم ياتون لعمل لا ينتزع الحشائش من افواه اغنامه، فهم يبحثون عن مصدر رزق اخر غير مصدر رزقه وطعام شياهه، وقد استفاد شخصيا من وجود الوكالة فقد صار ما تجمعه زوجته من حلفاء رزقا مضافا الى الرزق الذي يتحصل عليه من رعي الشياه، مع وجود الحانوت والمقهى ووجود الرفقة وتواصل المواعيد ومجالس الدردشة والحكايات، فهو يشارك بانايوتي اليقين بان الوكالة هي بداية تاسيس لبلدة جديدة ستستمر وتكبر وتبقى موجودة بين حواضر القبلة. والح عليه بانايوتي ان يوضح له بصورة افضل ظروف الحياة في جنائن العرعار قبل مجيء الوكالة، فقال انها لم تكن منطقة مقطوعة او معزولة تماما عن الناس، لانه كان دائما هناك اناس يأتون ويذهبون، الا انهم لم يقوموا باختيارها مكانا للبقاء الدائم مثله، فقد استقر بها لا يغادرها الا في رحلات مؤقتة منذ تسع سنوات، سبع سنوات كان وحيدا قبل ان يتزوج من سالمة، الا انه لم يكن في عزلة فقد كان يلتقي باناس بعضهم رعاة مثله، التقى بشيوخ من اهل الله جوابون طرقات، والتقي باهل تجارة وقوافل، والتقى باهل حكمة من شيوخ البادية، مثل الذي جاء يتبع اثر ناقة ضائعة، واستطاع ان يعتر عليها في احدى شعاب جنائن العرعار، وقال انه لم يبحث عنها في اي مكان اخر، وانما جاء ليجدها في المكان الذي حلم اثناء منامه انه راها موجودة فيها، وراي فيه رجلا صالحا من اصحاب الرؤيا فساله ان يبارك هذه الشعاب والوهاد خاصة وانه كان رجلا حافظا لكتاب الله فصار يرتل سور القرآن بصوت مرتفع جميل لمدة طويلة، ثم اخذ ناقته ورجع من حيث اتى واحس منصور ابو فاس ان المكان صار اكثر امانا فاطمأنت نفسه للاقامة فيه خاصة ان هذا الشيخ كان قد جاء في اول عام من الاعوام التي قضاها في جناين العرعار.
عندما عاد الى البيت كتب بانايوتي في دفتر يومياته السطور التالية:
ربما كنت احمل استعدادا للتعامل مع مشاكل العمل في الوكالة الا ان المشاكل التي تأتي من البيت تكون بالتاكيد اكثر مدعاة للكدر والتعب، يجب ان تتصالح انجيليكا مع زوجها، لا استطيع ان انسى انني بذلت جهدا في ايجاد هذا الزوج وجهدا في اقناعه ولا سبيل لان تخسره لان به شيئا من الحماقة، جاء منصور ابو فاس الى مجلسي بالليل، شاكرا ما قمت به من عمل لانقاذه، فكان اشبه بنسمة رطبة في يوم قائظ، لان للرجل كما يقول الليبيون ملا ئكة خفيفة ظريفة، وكانت فرصة لان اثير فيه شهية الحديث عن ماضي هذه الشعاب، ربما هناك اشياء تدل على الماضي البعيد، اما الماضي القريب فهو الشاهد الحي عليه، وهو حلقة الوصل بين الماضي والحاضر في هذه المنطقة من الارض، من هنا تكون اهميته واهمية شهادته، لا اريد ان استبق الاحداث ولا ان استاء مما يحدث، فقد علمتني الايام ان آخذها كما تاتي، وان الغد ليس ملكنا ولكنه ملك الله فلماذا نحمل قلقا من اجله. قناعتي ان انجيليكا يجب ان تعود الى الفونسو، وهي مهمة ربما تكون الام اقدر من الاب على القيام بها، ولهذا فسوف اسعى لان تقوم كاتيا بواجبها في هذا السبيل.