أحمد إبراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الرابعة عشرة: نائب الوالي يحضر العرس
تواصل في اليوم التالي لعب الفرسان بخيولهم عبر المضمار الذي صنعوه بين ابنية الوكالة وخيام النجع، وعلى الجانبين يقف النساء والاطفال في صف ويقف الرجال في الصف المقابل، يشاركون بالتصفيق وترديد الغناء وراء الفرقة، وفي موقع بين صف الرجال، تم تحضير مكان خاص لنائب الوالي ومرافقيه صفت فيه الكراسي ووضعت مظلة تظلل الرؤوس وتقيها من اشعة الشمس، لمشاهدة الملهاد، ولم يتوقف الفرسان عن العدو الا عندما انتصف النهار واشتدت حرارة الشمس على بقية المشاهدين ممن لا وجود لمظلات فوق رؤوسهم، حيث انسحب الجميع الى الخيام لاستراحة الغذاء، والاحتماء بها من قيظ القيلولة، وظلوا بها حتى انكسرت حرارة الشمس، قرب لحظات الاصيل، فتفجر الفضاء من جديد غناء وعزفا للطبول والمقرونة واطلاقا للاعيرة النارية، بينما اخذت حوافر الخيل تدق الارض بعنف وقوة وبايقاع سريع يكاد ان يحقق توافقا وانسجاما مع ايقاعات الطبول، وكانت هذه الليلة هي ليلة الحناء، وهي نفسها ليلة النجمة في اعراس البادية، حيث تنتظر النساء بزوغ قرص القمر، فيخرجن في موكب حاشد وبينهن العروس، التي تكون قد ارتدت ملابس العرس التقليدية، فيما يسمى البذلة الكبيرة وهي بذلة موشاة بالفضة، كما ترتدي ما توفر لديها من حلي اغلبها ايضا من الفضة، وتكتمل في جلوتها وتمام زينتها، وتتوافد نساء بيت العريس للتعرف عليها، قبل ان يشاركن هن ايضا في اصطحابها الى جزء من الخلاء الممتد بمحاذاة النجع دون ان يصطحبن معهن أي مصدر للضوء نارا او فنارا يولع بالغاز، عدا القمر والنجوم، وهناك في تلك البقعة المختارة من الخلاء، تبدأ العروس بان تسفر عن وجهها كاملا وتتجه به الى اعلى، شاخصة الى السماء، وتتجه الى القمر تغسل وجهها بنوره، وتفعل مثلها بقية الصبايا تبركا بهذا النور، والسنتهن تلهج بالدعاء الى خالق الكون بتحقيق امانيهن وهن ينشدن الخير والهناء والسعادة في الزواج والحياة، وكان اكثر الناس احساسا بالابتهاج والاثارة نائب الوالي، الذي كان يقف على مسافة بعيدة من موكب النساء، يراقبهن وهن يقمن بهذا الطقس، دون ان يكون باستطاعته ان يتبين ملامح الوجوه التي رفعت الاغطية شاخصة الى القمر، كما لم يكن ممكنا وهو في حضرة رجال النجع ان يكون اكثر اقترابا، مراعاة لما تفرضه التقاليد من الابقاء على مسافة بين الرجال والنساء، الا انه مع ذلك كان سعيدا بان يرقب هذه المشاهد والمناشط ويسمع شرحا لها من بعض اهل الوكالة، ويعود موكب العروس بعد مخاطبة قرص القمر بالدعاء وبثه الاشواق والامنيات، الى الخيمة لاتمام طقوس الحنة، وبالذات تحنية يدي وقدمي العروس من قبل احدى نساء النجع التي تقوم بدور الزيانة، تحت مراقبة واشراف ام العروس، التي كانت جاهزة باحضار المناديل الاربعة التي اشتغل فيها المقص تقطيعا لرسم تكوينات وتشكيلات تبقى على شكل ثقوب، وتلف بها يدي وقدمي العروس قبل الصاق عجينة الحناء فوقها، ليتحدد من خلال تلك الثقوب نوع الرسوم والزخارف التي سوف تنطبع فوق هذين اليدين والقدمين، بعد ان تجف الحناء ويتم انتزاع المناديل، وهي زخارف وتكوينات تتنوع في جمالياتها وبهاء تخطيطها متوارثة في اشكالها التي تنتقل من جيل الى جيل، وتشير اليها بعض العجائز باعتبارها تعاويذ مكتوبة بلغة مجهولة، تخدم بجوار الهدف الجمالي الذي يضيف زينة الى ما تتزين به العروس من مظاهر الزينة الاخرى في التزويق والحلي والملابس، هدفا يتصل بمحاربة العين واثقاء شر الحسد، وغالبا ما تمتد الى يد الزيانة التي بيدها عجينة الحناء، ايادي واقدام نساء اخريات يطلبن منها ان تشملهن بفنون حنائها، ولكن ليس بالضرورة بذات الدقة والاتقان واستخدام المناديل المثقوبة، فهذا امر يجب ان تتميز به العروس وحدها، لا تنافسها فيه امراة اخرى، وتواصلت في اليوم الثالث الاحتفالات التي استهلها بداية فرسان الخيالة صباحا ومع المساء بدا االترتيب لتلك الليلة الكبيرة التي تسبق ليلة الدخلة، وهي ليلة النخيخ، الرقصة التي تقدمها صبايا النجع، وقد تم اعداد مكان في الخلاء المحاذي للنجع، تعاون الرجال على طرح ارضه وتنظيفها، وبعد ذلك فرشها بكل ما في النجع من اكلمة وبسط وحصران، وتم تقسيم المكان الى جزئين، جزء لجلوس النساء والاطفال، ويقابله جزء لجلوس الرجال، بينما خصصت المساحة الفاصلة بين الجزئين، لنساء رقصة النخيخ ومن يتولى العزف والضرب على الطبلة وترديد الاهازيج المشهورة في الافراح امامهن، وقد تم الاهتمام بهذه المساحة، باعتبارها البقعة المخصصة لتقديم العرض الفني لهذه الليلة الكبيرة وذلك بتركيز اكبر قدر من الاضاءة فوقها بالاضافة الى النار التى توقد على مسافة من الحفل وتظل طوال الليل مشتعلة يغذونها بالاحطاب تصنع لهبا في حجم الجبل، وتوضع في النار اكبر كمية من الاعشاب ذات الرائحة الزكية تفوح بعطرها في ارجاء المكان وفرش هذه المساحة من الارض بافضل الابسطة والمفارش , وتبخيرها بالبخور الزكي، ورش المحيط الذي حولها بماء الورد ليكون مكانا مناسبا لجلوس العروس ترافقها مجموعة من الصبايا ونساء النجع، ليقمن معها باداء هذه الرقصة البدوية التي يتم فيها الاعتماد كليا على حركة شعر الراس المتهدل فوق الوجه، ويغطيه فلا تظهر ملامحه، وتعتمد فيه المراة على تحريك رأسها ليغذو الشعر الطويل يتماوج ويتمايل في رحلة ذهاب وعودة من اليمين الى الشمال وبالعكس، وهي جالسة على ركبتيها، تصاحب حركة الشعر بحركات يديها، ولهذا السبب فان الصبايا والنساء الشابات، وتمهيدا واستعدادا لمثل هذه الليلة، يعتنين بتربية شعور رؤوسهن، لتكون طويلة ويتعهدنها بالطيب والزيت لابقائها لامعة ناعمة، ويعتنين بتمشيطها وتعطيرها قبل الحفل لتكون فائحة بالاريج الجميل، تتهدل في انسياب ويسر، وتأخذ العروس مكانها في منتصف الصف ورفيقاتها يجلسن عن يمينها وشمالها، لتتحرك الرؤوس في حركة متناغمة ومتوافقة مع ايقاع الموسقى، أي مزمار عاشور ودفوف فرقة الشوشان ونقرهم بالعصي فوق القصاع الخشبية، والنساء خلف صف العروس ورفيقاتها يطلقن الزغاريد ويشاركن بالتصفيق وترديد الغناء، وكذللك يفعل الرجال في الجانب المقابل، وقد جلسوا على شكل حدوة حصان، في الطرف الايمن من هذه الحدوة وضعت مجموعة من الكراسي ليجلس فوقها نائب الوالي والسردوك ومضيفهما بانايوتي وصهره الفونسو وثلاثة هم طاقم الشاحنة،وهم الذين اختلفت ملابسهم عن الاردية الليبية التقليدية التي يرتديها رجال النجع، وكلهم جلسوا على الارض، وعاشور جالسا بين زملائه في العزف، يملأ قربة المزمار بهواء انفاسه ثم يترك لهذه القربة النفخ في قصبتي المزمار في حين يأخذ فرصته في الانشاد مستهلا انشاده بمدح الرسول
يارسول الله يا نعم الامين
يارسول النور والنصر المبين
وقبل ان يبدأ في ترديد قصائد الغزل الشعبية التي يحيي بها الافراح، وقبل ان تبدأ نساء النخيخ رفع الاغطية عن رؤوسهن، وصلت الى مكان النخيخ انجيليكا لتشارك في الرقص وتاخذ مكانها بين بقية النساء المصطفات لاداء دورهن في احياء ليلة العرس الكبيرة، جاءت تتهادي، وتتثنى في غنج ودلال، وقد ارتدت هي ايضا هذه المرة لباسا بدويا، مشابها لما ترتديه نساء النخيخ، اختلفت عنهن في الحلي فقط، فحليهن فضة تتالق تحت المصابيح وتنعكس فوقها السنة النار التي تستعر في مرتفع من الارض ليس ببعيد عن مكان الحفل،
بينما الحلي التي جاءت انجيليكا ترتديها، حلي من ذهب، مما تشتهر بارتدائه نساء طرابلس، مثل قلادة الشجرة وهي قلادة ذهبية مصنوعة من الليرات التي تغطي الصدر كله وتتسلق الجزء الاعلى من الجسم مثل شجرة ممدة الاغصان، والدمالح والاقراط والبروش المرشوق في شكل تاج باعلى الرأس، ومن تحته يتهدل الشعر في كراديس على الكتفين وخلف الظهر، وقفت تتخير لها مكانا للجلوس بين بقية النساء، وهي في تمام مجدها الانثوي، تتراقص السنة النار فوق وجهها السافر، المكشوف للنجوم والبدر الساطع، واعين حشود العرس من نساء ورجال تشخص اليها بانبهار، وكاظهار لما تتوفر عليه اسرتها من نعمة ويسار، ارتدت في ساقيها فردتي خلخال من الذهب، واحاطت خصرها بحزام من الذهب، علاوة على مجموعة من الخواتم الذهبية في اصابعها ترصعها الاحجار الكريمة، وخطت بقدمين حافيتين لهما لون الذهب ايضا فوق الابسطة وقد افسحت لها الصبايا مكانا بجوار العروس، ورفعن الاغطية على رؤوسهن، لتتبدى الشعور مسدولة امام وجوههن، وارخت انجيليكا هي الاخرى جدائل شعرها الغزير الناعم الطويل الذي كان مفكوكا يتدلى حتى نصف جسمها، وجعلته ينسدل امام وجهها، وانطلق عاشور في موال طويل، يعبر عما رأه، يخص بغنائه انجيليكا، كانه مساق بطاقة سحرية يصف جمالها وهي تضع شالا كثير الزخارف والالوان بين يديها، تلعب به اثناء جلوسها على ركبتيها تباشر الرقص مع بقية النساء، فمضى يقول ارتجالا:
يازين يا لابس الزين
يا جاي من بلاد بعيدة
على الصدر لابس ذهب
وفي الساق واليد والخصر
والجسم مصبوب صب
يللش في كسوة جديدة
ثم دفع بانفاس جديدة في القربة، وانتقل الى الايقاع السريع وقد زادت حركة اصابعه فوق فتحات القصبتين كما زاد ايقاع الدفوف والنقر بالعصي سرعة وقوة
مرحب يا لاوي هالشال
اسمعني يا بو هدوب طوال
عليك الخاطر زايد حال
اعرف باقداره خلك زين
مرحب بيك ومرحبتين
يا زين ويا سيد الزينين
حيث بدا واضحا ان هذا المغني لم يعد يرى احدا في العرس الا انجيليكا، وقد شرد قلبه وراءها، وطار صوابه بسبب جمالها الذي تجلى في اكمل زينته، ولم يعد يعزف ويغني الا لها، حتى العروس المعنية بهذا الفرح، لم ينتبه الى مجاملتها بسطر واحد من كلمات الغناء التي يرتجلها، الا ان احد اعضاء الفرقة همس في اذنه يذكره بالعروس، فننظر خلفه ونظر شماله ويمينه كانه يعتذر للحاضرين، وطفق يرتجل شيئا من الغناء يخص العروس:
عرسك يا بنت لاجواد
جيناه من كل صوب
والصوب صوبين يا بنت لاجواد
صوب المحبة
وصوب البعاد
وصوب هاللي مفارق حبيبة
وجيناك من بلاد وبلاد
باغيين نفرحوا بيك
والفرح فرحين
فرح في القلب ياخذ مكانه
وفرح للناس السعيدة
والله يجعله عيد واعياد
وكل حد يتهنى بعيده
وهالنجع اللي ايجيه الميعاد
بركة ربي تنزل فيه
وايقويه على كل منه ايعاديه
وعرسك يا بنت الاجواد
وفي حين كانت نساء الرقص البدويات يحرصن على الا تظهر ملامح وجوههن من وراء قناع الشعر، فان انجيليكا باعتبارها امرأة تخرج سافرة بحكم طبيعتها واسلوب تربيتها ونشأتها وعادات اهلها، فانها وحدها بينهن من كانت تترك الشعر يتطوح بعيدا ليكشف للناظرين كامل وجهها، يضيء ويبرق في ومضات اثناء رحلة الشعر ذهابا وعودة، فكان وجهها الوجه الوحيد، الذي يظهر بين بقية الراقصات، كما انها لم تلتزم مثلهن بالبقاء جالسة طوال الوقت، لان النخيخ بالنسبة اليهن، جلوس على الركبتين وحركة من النصف الاعلى للجسم ترافق حركة الرأس والكتفين مع رحلة الشعر، بينما تمضى اليدين في رحلة موازية لحركة الشعر كما في الرقص الهندي الذي يعتمد على تحريك الذراعين واليدين والاصابع اكثر مما يعتمد على بقية الجسم، ما عدا انجيليكا، التي لم يكن يعنيها ان تلتزم بقواعد النخيخ في الجلوس الدائم على الركبتين، وان التزمت بالقواعد الاساسية للرقصة وهي الاعتماد على الشعر وتحريكه،ون ان تكتفي به وحده، ربما محتدية بذلك بما راته يحدث من تطوير لهذه الرقصة البدوية اثناء استخدامها في اعراس طرابلسية وتطويعها لانواع من الرقص تقوم به النساء في تلك الاعراس، فنهضت من مجلسها واقفة وتحركت بكامل جسمها، جاعلة الجسم يشارك الشعر في الحركة والاهتزاز والرقص، وكانها عامدة متعمدة تريد اظهار المؤهلات الانثوية لهذا الجسد، وتتركه يعبر عن نفسه افصح وابلغ تعبير في هذه الليلة الكبيرة من ليالي الفرح والطرب، وتحت كثافة النجوم ورحابة هذا الضوء الحريري القادم من بدر كامل الاستدارة وعلى السنة اللهب الدائم الاستعار، وعبير الاعشاب الصحراوية التي تنتشر فوق الرؤوس وتصيبها بالانتشاء والخذر، ووسط هذه الحلقة من الشعاب والهضاب التي كانت تتجاوب مع زغاريد هذا العرس وما يضج به من عزف وغناء وصخب بهيج، اذ تعود الاصوات مع رجع الصدى تبعثه الهضاب وكانها قررت المشاركة بحماس مع اهل الفرح، وكان نائب الوالي يصطحب معه الكاميرا منذ لحظة وصوله، يعلقها على كتفه ولا يتركها ابدا تغادره، ولم يكن اغلب اهل النجع يعرفون طبيعة عملها، ولهذا لم يكونوا يحفلون بها عند تحريكه لها، بينما كان يضعها فوق ركبتيه ويدوس على الزر الذي يلتقط الصور لحظة ان يعرف بان العدسة قد اتجهت الى المكان الذي يريد تصويره، ويفعل ذلك بشكل عفوي، وبدون ان يضطر الى وضعها على عينه، لكي لا يثير حفيظة او تائرة احد حتى ممن يعرفون مهمة وعمل هذه الالة، واستمر يراقب الحفل والرقص والغناء حتى وصل الحفل الى نهايته في ساعة متقدمة من الليل، وفي الصباح راى ان الايام التي خصصها لهذه الرحلة قد وصلت الى آخر ايامها دون ان يجوب كل المناطق في جنائن العرعار، وقد جاء بغية ان يرى ما كان قد طالعه في مراجعه من وجود بعض القبور الرومانية وبعض بقايا القصور والاشياء الاثرية والتاريخية الاخرى، فقرر ان يخصص النهار بكامله لهذه الجولة، وكان بانايوتي قد اقترح ان ينيب عنه المواطن الاول، أي الراعي ابو فاس، باعتباره اكثر خبرة من غيره بهذه المنطقة، يرافق نائب الوالي في جولته، ولهذا فقد اكتفى باصطحاب السردوك يقود به السيارة، وامامهما سائق يقود سيارة اخرى تحمل المرشد ابو فاس، وبدا السردوك مبتهجا لوجوده منفردا مع نائب الوالي، وراى في ذلك فرصة يكرسها لكسب تعاطفه وتاييده في مشروعه، بعد ان افهمه بوضوح انه واقع تحت سحر تلك المرأة التي استولت على مشاعره وسلبت لبه وصار اسير شباك مفاتنها ولن يشفى من الوجد الذي اصابه بالسهد والقلق الا بان يتحقق حلمه في الزواج منها، وقد جاء ذلك متاخرا قليلا وبعد ان اكتشفه نائب الوالي متلبسا بالتزوير اثناء القرعة التي جرت من اجل رخصة الوكالة لصالح الفونسو، وظنه يفعل ذلك من اجل البحث عن صفقة او تحقيق ربح او قبول رشوة فافهمه ان دوافعه كانت دوافع من اجل العشق ولا شيء غيره، ولكي يفوز في معركة العشق لابد ان يفوز الفونسو بعقد الشركة هكذا افهمه، وهكذا زور النتيجة لصالحة واوهم المقترعين انها قرعة عادلة عندما سالهم كتابة اسماءهم جميعا في الاوراق التي تم طيها وخلطها ووضعها في طبق وجلب رجل كفيف مشهور بالورع والتقوى ويعمل مؤذنا في مسجد البلدة لالتقاط واحدة منها، فاذا بالورقة التي تم التقاطها هي ورقة الفونسو، ليفوز بحكم هذه القرعة الامينة النزيهة، بالعطاء ويصبح المالك لعقد الوكالة، وقبل انتهاء الجلسة وخروج المشاركين في القرعة يفاجأ السردوك بباشكاتب المنطقة ياتي حاملا قرار نائب الوالي بالغاء النتيجة، وامرا منه باحضار الطبق الذي يحتوي على اوراق القرعة،واصطحب السردوك الباشكاتب وهو يحمل الطبق بين يديه الى نائب الوالي ودخل معه غاضبا يعبر عن احتجاجه لقرار الغاء القرعة، فاذا بنائب الوالي ياخذ الطبق ويبدا في فتح الاوراق التي كانت كلها تحمل اسم الفونسو، ويكشف عملية التزييف التي اجراها السردوك، لانه عندما طلب من الحاضرين وضع الاوراق التي تحمل اسماءهم في الطبق، كان قد اعد طبقا مشابها مليئا بالاوراق مثله، هو الذي تم وضعه مكان الطبق اثناء دورته على الحاضرين يرمون فيه باوراقهم، وعندما جاء الشيخ الكفيف يلتقط الورقة كان يلتقطها من هذا الطبق الذي يمتليء باوراق تحمل اسما واحدا مكتوبا في كل الاوراق هو الفونسو، وانطلت الحيلة على الجميع ما عدا نائب الوالي الذي كان قد ارسل احد الحجاب يتجسس بل ويشارك في عملية التزييف وينقل له اخبار ما حصل، ولم يشأ نائب الوالي ان يفضح مدير الامن امام المشاركين في القرعة واكتفى باصدار قرار الالغاء لاسباب ادارية فنية وعدم اكتمال للشروط الواجب توفرها في اقامة هذه القرعة، وستعاد في وقت لاحق، بعد ايفاء الشروط الناقصة، وادرك السردوك اذ ذاك انه يواجه لحظة حاسمة في علاقته مع رئيسه، ربما يتوقف عليها مستقبله الوظيفي، وان أي رغبة في العناد والمكابرة والتحدي يجب ان يقمعها في نفسه لانها لن تنجده وهو في مثل هذا الموقف، ومع رئيس استطاع الامساك به في حالة تلبس، ولا نجاة له الا ان يعترف بحقيقة مشاعره ونواياه، فطريق الانكار صار الان مسدودا امامه، وعليه ان يلتمس النجاة بالكشف عن حقيقة موقفه من انجيليكا، ولم يجد طريقة يستطيع ان يبرر بها ماحدث الا ان يجثو على ركبتيه امام رئيسه منهارا، تتدفق العبرات من عينيه وتسيل فوق وجهه دون انقطاع، قبل ان يتمكن من الكلام معترفا بحبه الجنوني لابنة بانايوتي، هذا الحب الذي سيطر على جماع قلبه، وجعله حائرا تائها لا يعرف ماذا يعمل، وكيف يفكر تفكيرا سليما، ولهذا ارتكب هذه المخالفة، وقام بتدبير هذه الحيلة، لانه في حالة من التوهان والشرود، لا يعي شيئا ولا يرى شيئا غير صورة معبودته انجيليكا ولا يسمع الا صوتها ولا يملأ عقله ولا قلبه الا خيالها، الذي يزوره ليلا ونهارا ويتركه مسهدا ساهرا يعاني لواعج الغرام، ولا امل في ان يستمر على قيد الحياة، فلا يموت ولها وصبابة وعشقا وسهدا وجوعا وعطشا، الا بان يتزوج بها، فيعيد له هذا الاقتران بمعبودة الفؤاد، حياته المسروقة المخطوفة، ويرجع له صحته التي صارت تعاني الاوصاب والعلل، بسبب مكابدات الغرام ولوعته، وهو يقول له هذا الكلام متمنيا ان يشفق عليه ويرحمه ويتركه يتدبر سبيلا لتحقيق الوصال بهذه المراة، ويعاهده بانه سيعود بعد زواجه بانجيليكا، رجل الامن القوي الذي يعرفه، سيعود الى طبيعته وكفاءته والتزامه ونزاهته، سيعود السردوك الذي استطاع ان يعيد الى الصحراء الامن والطمانينة، بعد ان استباحها اللصوص وقطاع الطرق، والبريجادير هيوز يعرف طبعا هذا السجل للقائد الامني لمنطقة القبلة، وهو سجل يستحق عليه الثناء والتقدير، ولكنه لا يجوز ان يعطيه حصانة من المحاسبة او يكون سببا في التغاضي على ما يرتكبه من مخالفات، الا انه الان وهو يراه في هذا الموقف، منهارا بهذه الصورة المهينة، جاثيا على ركبتيه يذرف الدموع، لم يكن ممكنا الا ان يشفق لحاله، وينهض من مكتبه، يعينه على الوقوف والجلد، طالبا منه ان يذهب ليرتاح بقية النهار في بيته لان حاله لا يسمح له بان يواصل العمل في مكتبه، تاركا مناقشة الموضوع الى نهار الغد.
في صباح اليوم التالي كانت حالة الغضب التي اجتاحت البريجادير اثر اكتشافه لعملية التزوير قد غادرته، وبدا اكثر استعداد لفهم الدوافع وراء فعلة التزوير، واكثر تعاطفا مع ازمته التي رواها له اثر وقوعه في عشق ابنة بانايوتي، وقرر بدلا من استدعائه الى مكتبه، ان يهبط الدرج الى الطابق الارضي حيث مكتب السردوك، وسأله وهو يستفرد به، بعد ان احضر عامل البوفيه القهوة، عن كيف ومتى حصلت له قصة الغرام مع هذه المرأة، فافهمه انه في الحقيقة كان يراها منذ مجيئها مع والدها للاقامة في الوكالة، دون ان تثير في نفسه غير مشاعر الاعجاب والغبطة، الا انه عندما حضر العرس الذي اقاموه لها، وخرجت امام الناس عروسا في جلوتها، راى نفسه في حضرة جمال الهي فردوسي لا ينتمي الا الى عالم من النعيم المقيم، ولا علاقة له بهذه الصحراء الغبراء الشعتاء ووجهها الكالح المتجهم، فاثار هذه التعارض بين جمالها وبين اختفاء البهجة والجمال من ملامح العالم الذي يحيط به، شيئا من النقمة على حياته وواقعه وراى نفسه يتصور كيف ستصبح حياته لو احتوت مثل هذا الجمال،
يتبع غدا
التعليقات