رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الثالثة عشرة: السردوك عاشقا ومناورا

فوجيء بانايوتي بهذه المواجهة مع السردوك، التي يفرضها عليه نائب الوالي فرضا، دون ان يستشيره او يأخذ اذنه فيها، وكان يتمني لو تدبر البريجادير معالجة الموضوع بينه وبين مرؤوسه، في وقت اخر غير وقت وجوده في مكتبه، وباسلوب آخر غير هذا الاسلوب الذي يسرع بتفجير الصراع بينه وبين السردوك، ودون ان يعرف شيئا عن موقف البريجادير من الموضوع، وهل حقا يستطيع تقديم ما يطالبه به من حماية، اذا اراد السردوك ان يطلق عفاريت الشر التي يخبئها في مخازنه. انه مسار جانبي تتخذه الاحداث، كما هو الحال مع المسار الاصلي، دون اختياره، فليكن، لانه لن يملك الان الا ان يتعامل مع الامور حسب ورودها عليه، وليس في امكانه الا ان ينتظر ما سوف يسفر عنه المسار الجديد، ولم يمض طويل وقت حتى جاء السردوك مرتديا بزته العسكرية، وبمجرد ان ولج المكتب وراى بانايوتي، حتى تقدم منه بخطى سريعة، يلهج بكلمات الترحيب ويفتح ذراعيه ليأخذه بالاحضان باعتباره صديقا قديما عزيزا، وجلس يرفع بصره باتجاه البريجادير هيوز، ليعرف سبب استدعائه للحضور الى مكتبه، ثم فتح فمه مستبقا ما سيقوله رئيسه، بكلام يشيد فيه ببنايوتي وسعادته بان يراه في هذا الصباح الباكر بمكتب نائب الوالي، مؤكدا عمق الصداقة التي تربطه به، فانبرى البريجادير هيوز يقول له بان صديقه الصدوق السيد بانايوتي جاء في هذا الصباح متجشما مشقة السفر الليلي من محل اقامته في عمق الصحراء، لغرض واحد هو ان يشتكي له من تصرفاته، طالبا منه مساعدته في ردعه عما يريد ان يقوم به من اجتراء واعتداء على بيته واسرته، ويبدي نائب الوالي استغرابه للسردوك كيف لم تشفع الصداقة التي يقول انها تربط بينه وبين بانايوتي من تجنيبه مثل هذا السلوك العدواني ضده، وبلهجة شديدة الانفعال انكر السردوك ان يكون هناك اجتراء او اعتداء من طرفه على بيت واسرة صديق يحترمه ويقدره ولا يحمل له ولافراد اسرته الا الحب، ولا في نيته اطلاقا مجرد النية، القدوم على مثل هذا الاجتراء، وان في الامر خطأ او سوء فهم سيقوم بتصحيحة عندما يعرف طبيعة هذه الشكوى، فافصح له نائب الوالي عن طرف مما رواه بانايوتي، طالبا من صاحب الشكوي ان يتولى بنفسه اكمال القصة، وهو ما فعله ذاكرا كل التفاصيل، مبديا استغرابه، ان يتعمد صديق مثله، اختاره ليكون شاهدا على عرس ابنته، القيام بهدم بيتها، ساعيا لتطليقها من زوجها، ليرغمها ويرغم اسرتها، على القبول به هو زوجا لها، وكان دفاع السردوك امام رئيسه، الذي انبرى يقوله بحماس وعاطفة، هو انه فعل مع بانايوتي ما يوجبه حق الصداقة والمحبة، فلم تكن دوافعه، الا انقاذ صديقه واسرته وابنته من ورطة اوقعوا انفسهم فيها عندما زوجوا ابنتهم العفيفة، الجميلة، الطاهرة، من رجل بلطجي يسيء اليها ويشتمها ويضربها ولا يعرف قيمة جوهرة مثلها، ولهذا سعى لانقاذها من براثن هذا الوحش البشري، وهو نوع من الناس لا تنفع معه لغة الاحسان والفضل، لانه لا يستجيب لها، وانما يستجيب فقط للغة المنفعة وارضاء ما لديه من اطماع، وقد رأى ان سابق تجربته في العمل بوكالة بانايوتي، تؤهله للنجاح في افتتاح وتشغيل الوكالة الجديدة، لفترة محدودة جدا، وعند ارتكابه اول غلطة، سوف يقوم بطرده منها، وتقديم الوكالة لمن هو اكثر جدارة، وليكن هذا الرجل الاقدر والاجدر هو السيد بانايوتي نفسه، يضمها الى ادارة وكالته الاولى في جنائن العرعار، المهم هو تحقيق الانعتاق لانجيليكا الجميلة من حبائل هذا الرجل، ودخل عامل البوفيه، يحمل فناجين الشاي، فتوقف السردوك عن الكلام، ووجدها نائب الوالي فرصة يسأل بانايوتي ان كان قد فهم الان الدوافع النبيلة وراء تصرفات الرائد السردوك التي ظنها مؤامرة لتهديم بيت ابنته.
فبقى بانايوتي حائرا بين ان يرفع وثيرة المواجهة، بتكذيب السردوك في كل كلمة تفوه بها،
او ان يجنح الى المهادنة وكسب شيء من السلام مع الرجل يعفيه من الخصومة والاحتراب، ولو لمرحلة مؤقته، لانه يعرف ان السردوك لن يستطيع ان يخفي نواياه الحقيقية لفترة طوية،
ومحاولة منه للمواءمة بين الموقفين، قرر الا يهادن السردوك الى حد التسليم بكل ما يقوله من افتراء، ولا يصده الى حد التوتر والمواجهة، فقال ردا على سؤال نائب الوالي، بان صديقه السردوك اخطأ في تقدير الموقف الذي يتصل بعلاقة ابنته بزوجها، لان ما حدث بينهما من اختلاف هو ما يحدث بين كل زوجين، ويتمنى منه ان يترك الفونسو يتفاهم مع انجيليكا دون تدخلاته التي تدفع الزوج لتطليقها، حتى لو كان مبعث هذا التدخل الحرص على راحة وهناء ابنته، وهو يعتذر منه اذا اساء تفسير افعاله وظن خطأ ان الدافع وراءها هو رغبته في الزواج من انجيليكا، ربما لان هذا هو ما وقر في ذهن الفونسو نفسه ونقله اليه، لانه يعرف ان الرائد السردوك اكثر عقلا من ايسعى هذا المسعى ويطلب الزواج من امرأة في سن ابنته، وله في بيته زوجة واولاد وبنات يملأون عليه حياته.
واعتبر بانايوتي انه حصل على ما جاء من اجله عندما انتوى زيارة نائب الوالي، ويكفيه انه افصح للرائد السردوك عن رأيه الرافض والمستهجن لفكرة زواجه من ابنته، وامام رئيسه الذي سيبقى شاهدا عليه فيما لو اظهر في الغد شيئا مخالفا لما قاله اليوم، ولم يكن يفيده ان يتجاوز الحديث في مكتب البريجادير هيوز هذا الحد، فقد يبدي الرائد السردوك بدهائه وخبثه شيئا، او يقول كلاما مشوها ممسوخا، يرد به على ما ابداه من استهجان ورفض لزواجه من ابنته، ولهذا قام يصافح نائب الوالي، ويصافح السردوك، ويستأذن في الخروج عائدا الى وكالته مع الشاحنة القادمة من طرابلس، فوجد ان نائب الوالي يخرج لوداعه حتى باب المكتب قائلا له ان مكتبه مفتوح له معبرا عن حرصه بالا يرى احدا يتعرض له بالازعاج او الاذى، وسعيدا بالنتيجة التي وصل اليها خرج يملأ رئتيه بهواء جديد يزيل ثقل الاجواء التي كبست اياما على صدره، ووجد ان هناك وقتا يفصله عن موعد مجيء الشاحنة يزيد على ثلاث ساعات، فاتجه الى مضيفة شيخ اشياخ الصحراء السيد احمد قرزه، الذي يملك بيتا يقيم فيه عند وجوده في مزده، وقد نصبت امامه مجموعة خيام، مفتوحة لضيوف الرحمن، فذهب لقضاء فترة الانتظار في المضيفة، بدأها بالدخول على مجلس الشيخ لتقديم التحية له، لانه سبق ان التقى به وسمع منه عاطر الثناء على انه فتح باب العمل لعدد من ابناء قبيلته، ثم انتقل الى خيام الضيافة ليتناول الغذاء، جالسا في حلقة من خمسة انفار، تاتيها قصعة الكسكسي مع خمس قطع صغيرة من القديد، وجلس يدردش مع الناس، مستمتعا مثلهم، بالدورات الثلاث من الشاي الاخضر التي تعقب الغذاء، حان بعدها موعد انتقاله الى الطريق الذي يقود الى الصحراء، لاعتراض سيارة الشحن، وعندما لاحت له من بعيد، وقف في منتصف الطريق،يلوح بكلتا يديه، لكي لا تعبره الشاحنة، ظنا من سائقها انه مجرد مسافر يبحث عن وسيلة نقل، حتى ارغمه على الوقوف ساخطا، وتحول سخط السائق الى ضحك وابتهاج عندما وجد ان الرجل لم يكن الا بانايوتي صاحب الوكالة، يريد ان يعود الى وكالته.

ــ17ــ

استشعرت الخطر، وخاصمها النوم، وهي ترى القلق في صوت زوجها قبل ان تراه في كلماته التي بدل جهدا في تخفيف حمولتها مما يعتمل في صدره من غضب وغيظ، وفي بواكير اليوم التالي لذهابه مع سيارة الشحن الى مزده، ذهبت كاتيا الى بيت ابنتها لايقظاها واصطحابها في رحلة الى خيمة العمة مريومة، ترجوها ترتيب زيارة جديدة، الى الشيخة خديجة لان هناك امورا تلوح في الافق لا تطمئن اليها، وقادتها العمة مريومة الى نفس الهضبة، صاعدة بها الى ذات الشق عند ملتقى الصخرتين وعين الماء التي تنز ماء شحيحا تحتهما، والشيخة خديجة، التي تقبل على العمة مريومة ترحب بها في حماس ومحبة، لحظة ان تسمعها وهي تلقى التحية، فتظهر في سمتها المبارك الجميل، وخضرة جلدها الزاهية تلمع تحت مسقط شمس الصباح، و لسانها الاحمر يواصل روتينه الدائم خروجا ودخولا، متوافقا مع حركة عينيها المتلصصتان شمالا ويمينا، وتكرر مع كاتيا وابنتها ما حدث لهما في المرة الاولى، وعادتا بكمية جديدة من الاعشاب التي يتم نقعها في ماء ساخن ثم شربه، او تحرقه وتتبخر انجيليكا بدخانه، درءا لشر العين، واتقاء لحسد الحاسدين، وجاء الاب مساء يحمل كلاما مطمئنا الى حد ما، ازال شيئا من القلق الذي ظل ملازما لها حتى بعد زيارة الشيخة خديجة، ناقلا لزوجته ما حدث من هدنة في الصراع مع السردوك، وعندما سالته عن مستقبل ابنتها مع زوجها، اجابها بانه امر متروك للزوج، وهو نوع من الاختبار للفونسو، وامتحان لصلابته وقوة معدنه، فاذا نجح في الاختبار واستطاع ان يتخذ موقفا سليما يحافظ به على بيته وزوجته فاهلا وسهلا به، واذا تخاذل وهرب من المواجهة فهو اذن لا يستحق ان يتأسف احد عليه، او يحزن لفقدانه، وسيأتي لابنتهما نصيبها لان لديها من جمالها، والمستوى الاقتصادي لاسرتها، ما يؤهلها للحصول على زوج افضل من هذا الزوج الذي ارغمتهم المأساة التي صنعها لها شقيقها على القبول به، بل وصل الامر الى حد استجدائه ان يتزوج بها، وطالما ان هذا الفصل الكريه قد انطوى، فلا اسف اذا انطوي من بعده فصل اخر هو زواجها من الفونسو، وعلقت الزوجة بان كل ما ترجوه من الله الان هو ان تخرج ابنتها من هذه الزيجة اذا خرجت دون حبل وانجاب، لان وجود طفل في الطريق، لن يزيد الامور الا تعقيدا.
واستيقظ بانايوتي في اليوم التالي ليراقب تطور الامور، خاصة فيما يتصل بصهره الفونسو، الذي واصل عمله كعادته كل يوم، وواصل التردد على بيته في روتين طبيعي، دون ان يبلغ انجيليكا باي شيء يخص مستقبل علاقتهما الزوجية، مما اوحى لبانايوتي بان هناك تراجعا في الخطة من طرف السردوك، بعد ما حصل من حديث امام نائب الوالي، وهو امر راى فيه علامات تبعث الطمانينة في قلبه، الا انه طمانينة قصيرة العمر جدا، اذ بددتها بعد يومين سيارة جيب حكومية اقتحمت الوكالة بازيزها وغبارها ودخان عادمها الذي كان معطوبا، تحمل لوحة شرطة القبلة، مما يعني انها مبعوثة من الرائد السردوك، لا تحمل الا سائقا له اذنان في حالة انتصاب، هبط يسأل عن الفونسو لنقله الى مزده، وبقى واقفا بانتظاره حتى اكمل شغله في شحن سيارة النقل برزم الحلفاء، ثم ارتدى ملابسه وانتقل ليجلس بجوار السائق متحركا به صوب مزده، ومع مساء اليوم التالي، وفي موعد يتوافق مع وقت تحميله لرزم الحلفاء في الشاحنة، اعادته نفس سيارة الجيب الى الوكالة واقفلت راجعة بعد ان تركته مغمورا بزوبعة الدخان الصادر عن عادمها المكسور، وانتظر بانايوتي ان يرى شيئا جديدا يحدث عقب هذا المشوار، الا انه لا شيء جديد يحدث، ولم يشأ ان يسأل الفونسو، لكي لا يضفي اهمية على تحركاته يرضي بها غروره، ترك الامور تمضى وهو يراقبها من بعيد، الى ان تظهر امامه نتائجها فيتصرف عندئد على اساسها. ثلاثة ايام مضت بعد رحلته الى مزده، دون ان يخرج الفونسو عن روتينه، وفي اليوم الرابع تكرر نفس المشهد، واقتحمت الوكالة ذات السيارة، تحيط بها زوبعة من الغبار وتتبعها زوبعة شديدة السواد من الدخان، تحمل نفس اللوحة التي تكشف هويتها البوليسية، ويقودها نفس السائق باذنيه المنتصبتين كاذني كلب، وقد جاء في مهمة لا تختلف عن مهمته السابقة، وهي استدعاء الفونسو من قبل مدير المنطقة الامنية السيد السردوك، وذهب الفونسو وعاد، كما في المرة السابقة، ليواصل روتينه دون تغيير. لم يكن ممكنا، ان تكون هذه الزيارات بلا سبب كما ينظر اليها بانايوتي، ولكنه لا يراها قد جلبت لصاحبها اية نتيجة، مع انه يتحرق فضولا لان يعرف من الفونسو ما يحدث، ولكنه يقمع نفسه، عارفا ان الفونسو لن يبوح له بالحقيقة، فيجد ان من الافضل والاجدى بالنسبة له، ان يترك الامور تكشف عن نفسها بنفسها في الوقت المناسب، ومرت ايام عديدة بعد الزيارة الثانية، لا يحدث اثناءها أي شيء، وصلت الى اكثر من اسبوع، بل عشرة ايام بالتمام والكمال قبل ان تاتي ذات السيارة، وقد اصلحت هذه المرة عادمها، متحررة من زوبعة الدخان، وان ظلت ترافقها كما هي العادة زوبعة الغبار، تحمل استدعاء جديدا لباه الفونسو، الا انه عندما عاد، رجع هذه المرة مهموما، كسير البال، كثير الشرود وغياب العقل، الى حد ان اعوانه في رفع رزم الحلفاء بالرافعة، ووضعها في الشاحنة، صاروا يحذرونه من سرحاته التي تهدد بالكوارث، لانه في اكثر من مرة كان يدفع بالرافعة للارتفاع دون حمولة، ويديرها في اتجاه خاطي ء كاد في احدى المرات يضرب بها راس احد العمال، مما يؤكد انه مهموم بشيء يقلقه ويقض مضجعه دون ان يفصح عنه لاحد، وبانايوتي يشتعل فضولا لان يعرف السبب، الا انه لن يتنازل ويسأل الفونسو، فقط قاطعه، وامتنع عن تبادل أي حديث معه، منذ تلك الليلة عندما عاد من مزده يرتعش فزعا وهو يخبره بما تلقاه من تهديد بالقتل، وانهار معترفا بخضوعه لارادة السردوك، فقطع تلك الليلة حديثه معه ولن يعود لمخاطبته حتى تصل هذه القصة المؤسفة الى نهايتها، شرا او خيرا، فهي قصة ما تزال تجر ذيولها ولن تنتهي الا بانتهاء هذه العلاقة المشبوهة القائمة بين الفونسو والسردوك، التي تركزت في المدة الاخيرة في سيارة جيب ترحل جيئة وذهابا بين الوكالة وعاصمة المركز، الا ان السيارة طال هذه المرة اختفاؤها الذي وجد فيه بانايوتي تفسيرا لشرود الفونسو وفقدانه لتوازنه، فهو غياب ينبيء بحصول فشل في الخطة، او عدول عن قيام الوكالة، وضيا ع امال الفونسو في الحصول على رخصتها، مما يعني سقوط جانب الاغراء في مساومات السردوك معه، وبقاء جانب التهديد فقط، اذ انه انقضى اكثر من شهر الان على غياب السيارة، وجاء موعد اقامة العرس المتفق عليه بين عائلة الاومباشي جبران وعائلة خليل مكاري، وفي يوم سابق لبدء العرس ظهرت سيارة الجيب لاداء نفس المهمة، اقلت الفونسو واعادته في اليوم التالي ولكنه هذه المرة لم يعد بمفرده ولكنه عاد في موكب مهول قوامه اربع سيارات بدلا من سيارة واحدة، وجاء مصحوبا بالرائد السردوك، ورجل اكثر اهمية، لم يسبق له تشريف الوكالة هو البريجادير هيوز، نائب الوالي في منطقة القبلة، فقد نقل لهما الفونسو ان اليوم هو اليوم الاول في احتفالات العرس الذي يتزوج فيه ابن المكاري بابنة الاومباشي، ولان نائب الوالي يعرفهما كما يعرفهما السردوك، فقد جاء الاثنان، خاصة وان نائب الوالي، حسب قوله، كان يبحث عن اول فرصة يزور خلالها جنائن العرعار، التي سمع وقرأ كثيرا من التقرير حولها، وتفقد احوال الوكالة، فجاء هذا العرس يعطيه سببا وجيها لاتمام زيارة طالما فكر في القيام بها، وقد جاء كبار اهل النجع لاستقباله واستقبال قائده الامني، وكانت احدى العربات تجر وراءها عربة الكارفان وهي غرفة مجهزة بسرير ودورة مياه وصالون صغير وركن للطبخ مزود بموقد الغاز، كما تحمل جهازا للاضاءة بنفس المادة، يستخدمها نائب الوالي في تنقلاته الى المديريات الصحراوية، وقد هيأ اعوانه مكانا للكارفان على بعد مائتي متر من ابنية الوكالة، وقاموا بتنظيف المدخل المؤدي اليها من الحجارة ونباتات العجرم، وافصح نائب الوالي عن نيته البقاء الى يوم الخميس، طالبا من بانايوتي ان يطلعه على اسرار هذا المكان الجميل الذي يجده مبهرا بما توفر له من تكوينات طبيعية، وما يملكه من طابع خاص يجعله مختلفا ومتميزا عن بقية مناطق الصحراء التي تنقل كثيرا بينها، قائلا بان هذه الجبال التي تحيط به من كل جانب كما يحيط الخاتم بالاصبع، تجعله مكانا محصورا، محدد المعالم، ومع ذلك لا يفقد ما يسميه بلغته الانجليزية Sense of space، باحثا عن كلمات بلغته العربية تعبر عن عن معنى الاحساس بجمالية هذا الفضاء المحصور، اذ ان شساعة الارض هنا، كما يقول، لا تشبه الشساعة المريبة والمخيفة للصحراء الكبرى التي لا حدود لها ولا نهاية على مدى ما يصل اليه البصر، فهي هنا شساعة مستأنسة، شساعة قابلة لان يتآلف معها الانسان، ويحس انه قادر على التعامل معها دون خوف من التوهان فيها، سشاعة هو الذي يسيطر عليها، لا تلك التي ترعب الانسان عندما يكون بداخلها، انها هي التي تسيطر عليه، أي على حياته وحركته، محاولا وهو يقول هذا الكلام، ان يعوض باشارات اليدين ولغة الجسد ما لا تستطع نقله لغة الكلام، فكان يفتح ذراعيه على وسعهما كانه يريد ان يحتوي هذا الفضاء بينهما، ويرفع راسه يدير عينيه في مظاهر الطبيعة التي تحيط به، ويعلو بصوته حتى يصل الى حلقة الرجال التي صارت تزداد ازدحاما حوله، وقد شارك اكثر من نفر في احضار الكراسي، ووضعها قريبا من المكان الذي اختاره لتثبيت الكارفان، لكي ينأوا بمجلسه عن الدائرة التي تدور فيها مناشط العرس، فهو عرس كبير حافل بشتى انواع النشاط، باعتباره يتم بين عائلتين من اكثر عائلات النجع عراقة، وتجذرا في عاصمة المنطقة، ولذلك فقد تم استدعاء اناس من مزدة، خاصة رجال الخيالة، الذين جاءوا يركبون ظهور جيادهم، وباشروا فور وصولهم هذا المساء، اجراء مباريات العدو بالجياد فيما بينهم، واظهار مهاراتهم في مضمار السباق، وسط زغاريد النساء وغناء المغنين، واصوات البواريد تطلق رصاصها، دون ان يحدد احد مصدرها، وتوقف اطلاقها عندما وصلت سيارات الحكومة، احتراما للضيوف الرسميين، وربما خوفا منهم، فهو رصاص بلا ترخيص ينطلق من بنادق لا ترخيص لها، الا ان الحكومة لا يخفى عليها مثل هذا السلاح في البادية، وتغض الطرف عنه، ولذلك فان بانايوتي عندما استأذن نائب الوالي في ان يستمر اهل العرس في اطلاق نيران بنادقهم استكمالا لمباهج وتقاليد الفرح اذن له، وساهم السردوك في تنشيط هذا التقليد بان امر مرافقيه من رجال الشرطة، باطلاق بعض الاعيرة النارية في الهواء، فرحا وابتهاجا، كما استمر الملهاد او الميز كما يسمونه، فهو يرافق ايام وليالي العرس التي سوف تمتد لاربعة ايام، ختامها ليلة الدخلة، وقد بدا مع بداية العرس نحر الشياه والجديان، التي يتوزع لحمها مصحوبا بما تحتاجه ولائم العرس من مواد تموينية، على عدد من عائلات النجع، للمشاركة في تجهيز الطعام، والذي يتكون غالبا من قصاع البازين والكسكس والمكرونة، تحمل بعد تجهيزها واعدادها للخيام التي يجتمع فيها ضيوف العرس واهله من نساء رجال يتحلقون جالسين فوق الارض، وقد افترشوا الاكلمة والحصران، في حلقات قوامها خمسة اشخاص لكل حلقة، وقد تم اعداد مجلس خاص لنائب الوالي ومرافقيه وكبار اهل النجع، فرشت فيه افخر الابسطة وفوقها الوسائد والمراتب المحشوة بالاسفنج، واثناء العشاء وضعت امام اعضاء هذا المجلس ثلاث قصاع من المكرونة تتميز عن بقية القصاع باحجام اللحم الذي وضع فوقها اكراما لهم، وكانت هدية نائب الوالي وقائد المنطقة الامنية، مجموعة خراف نقلتها سيارة نصف نقل، وتم انزالها وتزيعها مناصفة بين عائلتي العروس والعريس، وكانت فرقة الشوشان للفن الشعبي يرافقها عاشور بمزماره الشعبي، تتنقل بيه الخيام يتبعها الاطفال يشكلون حلقات كبيرة للرقص وترديد الغناء، ويتحركون مع حركة الفرقة، وحان موعد خروج الموكب النسائي الذي ينطلق من خيمة اهل العريس محملا بهداياه الى العروس في خيمة اهلها، وهي الملابس والسلة التي تحتوي على العطور والكحل والسواك والشمع والحناء، حيث يخرح نساء بيت العروس امام خيمتهم لاستقبال هذا المحمل كما يسمونه، بالزغاريد وعزف الدفوف، وغناء نساء الافراح او الزمزامات، وباعتبار انه لا وجود في مثل هذا النجع لنساء الافراح المحترفات، اللاتي يطلق عليهن الزمزامات، فان نساء النجع يقمن بهذا الدور تطوعا، ثم يتواصل بعد دخول الهدايا الى الخيمة غناء البوطويل، بينما تقوم فرقة الشوشان مع مزمار عاشور بمهمة الطواف بين الخيام.

يتبع غدا