رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الثانية عشرة: محنة زوج انجيليكا

مضت سيارة الجيب بهم، ترتفع وتنخفض وتهتز وترتعش مثل مريض بالحمي، عبر الطريق المترب، وعجلاتها تثير الغبار، الذي يتسلل رغم الزجاج المقفول الى الافواه، منتقلا منها الى الحلوق ليبقى ملتصقا بها، كما تبقى ذرات منه عالقة باهداب العيون، حتى وصلوا الطريق الرئيسي الذي لم يكن معبدا ولكنه كان مرصوفا ببعض المواد الجيرية، اكثر اتساعا واقل ترابا، فصار بامكان السيارة ان تزيد في سرعتها، وعبر كثل الظلام التي تشقها السيارة بانوارها الصفراء الشحيحة المريضة، كان الطريق يظهر تحف به كتل الرمال وتظهر شجرة بين الفينة والاخرى كانها شبح يطل على الطريق، وعبر العتمة التي تحيط بكل شي، الطريق والسيارة ووجوه الرجال داخل السيارة، اسفر السردوك للفونسو عن وجهه الحقيقي، وجه العدو، الذي يكرهه ويحسده لانه فاز دونا عنه بجميلة الجميلات انجيليكا، وافهمه بلغة صريحة واضحة، وفي حضور هذين الشرطيين من اعوانه، اللذين يأتمران بامره، ويبديان استعدادهما، امام الفونسو، بل سعادتهما بتنفيذ ما يأمرهما به من تعليمات حتى لو كان امرا بقتل انسان ما، قائلا له انه الان في قبضته، يفعل به ما يشاء، واذا ما قام هذه اللحظة بقتله، وحفر له حفرة في هذه القفار، فلن يكون ثمة مجال لان يعثر له احد على اثر، بل لن يعدم وسيلة اخرى اكثر امانا و نجاعة في التخلص منه، بان يفتعل الان حادثا يحدث لهذه السيارة، ويقول مدعوما بشهادة الرجلين انه قتل اثناء الحادث، وهو خيار يضعه امامه مستهلا به الحديث، لكنه سيتركه جانبا ولن يقوم بتنفيذه الا مرغما، بل كارها، لانه لا يتفق مع طبيعته التي تكره القتل، وسيعرض عليه الان الخيار الثاني الذي سيكون نعيما يتمرغ فيه، مدى الحياة، اذا سمع كلامه واستجاب له، اذ ان هناك منطقة في الصحراء في الجبال المحاذية لقرية طبقة، وهي تقع في اطار المنطقة الادارية للقبلة، مليئة بنبات الحلفاء، ربما بكميات اكثر غزارة من جنائن العرعار، وقد تم ابلاغ شركة الحلفاء، وتكليفها من قبل نائب الوالي بتأسيس وكالة بها، على غرار وكالة بانايوتي، مشترطا هذه المرة ان تعطى الرخصة بمعرفة الجهاز الاداري لمنطقة القبلة، التي ستنتدب لها رجلا من اهل الخبرة، يكون صاحب الوكالة، ولن تجد الادارة عنصرا افضل منه لتسليمه الوكالة، وسيتولى السردوك نفسه اعطائه المبلغ الكبير الذي يدفعه صاحب الرخصة للشركة على سبيل التأمين، وسيعطيه المبلغ كاملا ليبقى محفوظا باسمه لدى الشركة، ويكون ملكه حتى بعد انتهاء مدة الضمان وعودة المبلغ اليه، وهو مبلغ كبير يزيد عن خمسة الاف فرنك، وستكون الوكالة هي طريقه الى الثراء باذن الله، يعرضها السردوك عليه هبة خالصة مقابل عمل بسيط لا يكلفه مليما واحدا، هو ان يطلق انجيليكا، وهو يرجوه بل يتوسل اليه ان يقبل هذا العرض، ويعفيه من البديل الاخر، وهو ازاحته من طريق انجيليكا وتحريرها من ارتباطها به لتكون حرة تتزوج مرة اخرى، عن طريق قتله، اذ لا سبيل لاعطاء المرأة حريتها الا عن هذين الطريقين، وهو شخصيا يفضل طريق الطلاق، لانه يعفيه من تلويث يده بدمه، والاختيار متروك له، وهو يريد ان يسمع منه ردا الان وفي هذه اللحظة، دون ان يكون ملزما بتنفيذ هذا الطلاق قبل ان يضمن الفونسو حقوقه كاملة، ويضع عقد الوكالة في جيبه، بعد ايداع الضمان في صندوق الشركة باسمه، عارفا، يقول السردوك، انه لن يستطيع خداعه، لان يده طويلة، وسيلحق به اينما كان، ولن يكون اول ولا أخر رجل يلقى حتفه على يديه، فهو يقتل الناس بحكم العمل وتنفيذا للقانون، وبترخيص حكومي، ولن يحير في تدبير الاسباب والوسائل لقتله ولا توفير الشهود الذين سيعينونه في المهمة اذا اظهر خيانته له، كما انه وبحكم منصبه ايضا يتحكم في عدد من قطاع الطرق ولصوص الصحراء ومجرميها الذين يتصرفون باشارة من اصبعه، وسيناله اذا اراد نيله سواء بالقانون او خارج دائرة القانون، وهو هنا الان، يترك له الخيار كاملا، كل ما يريده منه ان يبلغه بالقرار الذي يختاره، ولم يكن الفونسو يستطيع ان يعارض، بل لم يكن يستطيع ان يفتح فمه لينطق باي شيء، اذ وجد نفسه للوهلة الاولى عاجزا عن فتحه لمجرد ان يتنفس، فقد انحبس في حلقة الكلام كما انحبست الانفاس، لان ما قاله السردوك كتم على صدره حتى اشعره بالاختناق، ولم يستطع ان يقول شيئا، او يفعل شيئا ردا على عروض السردوك الا ان يهز راسه موافقا على العرض الذي قدمه اليه ويخرج اصواتا اشبه بالحشرجة يفيد بها قبوله له، ولم يصدق بعد ان وصل الى مزده انه مازال حقا على قيد الحياة، وان السردوك تركه يرتاح في غرفة الضيافة في بيته، ثم عندما جاء الصباح اخذه معه الى مركز الشرطة للقيام بمهمة التسجيل والتقاط صورة له ولجوازه، وبعد ذلك اوفى بوعده الذي قاله له في الوكالة، ووضع تحت امره سيارة الجيب بسائقها تعود به الى بيته في وكالة بانايوتي، ولكن هل يستطيع ان يسمى ما حدث له الان نجاة من تهديد السردوك؟
اوصلته السيارة الى باب مكتب بانايوتي واقفلت راجعة، وهرع اليه صهره يساله في قلق عما حدث، لانه لم يكن يأمن للسردوك، ولهذا فهو سعيد بان يراه يعود سالما، فابلغه صهره بانه قام فعلا بتسجيل نفسه في سجل اقامة الاجانب، الا ان الامر لم يكن يبدأ او ينتهي عند هذا الحد، فما التسجيل الا ذريعة استخدمها السردوك لتحقيق غرض آخر كان في نفسه، واخبر صهره بما تعرض له من تهديد بالقتل من السردوك، وما عرضه عليه من اغراء مقابل ان يترك له انجيليكا، بمعنى ان يطلقها، ليستطيع بالتالي ان يتزوج منها، وبلهفة سأله بانايوتي عما كانت اجابته للسردوك، فقال الفونسو بشيء من المكر والمخاتلة:
ـــ اريد ان استشيرك انت، عما تريدني ان افعل اونكل بانايوتي؟
ــ وهل يستحق موضوعا كهذا اية استشارة يا الفونسو؟ ترفض طبعا، لانه ليس وحده في البلاد، ولم تتنازل له حكومة بريطانيا العظمى على حكم البلاد والتصرف في رقاب الناس كما يشاء.
ــ انه يقول بان الحكومة اعطته ترخيصا بالقتل.
ــ انه كاذب سافل حقير، الا تعرف ذلك؟
ــ اعرف طبعا اونكل بانايوتي، وبسبب هذه السفالة والحقارة، يستطيع تنفيد تهديده لي بالقتل؟
ــ لابد ان نشتكيه الى نائب الوالي.
ــ نائب الوالي يعرفه، ويبقيه لانه يخاف منه على نفسه، ويعرف انه سيصبح قتيلا
لو حاول عزله او نقله.
ــ من قال لك مثل هذا الكلام الفارغ؟
ــ هناك اناس يرددون هذا الكلام.
ــ انت خائف منه،اليس كذلك؟
ــ اقول لك ان نائب الوالي مرعوب منه، فكيف بالنسبة لرجل لا حول ولا قوة له مثلي؟
ـــ لا تقل انك اجبته لما يريد.
ـــ وهل لديك بديل؟
ـــ هب انك اجبته حقا لتطليق زوجتك، من يضمن له انها ستوافق على الزواج منه، او انني شخصيا لن ارفض تزويج ابنتي منه؟
ــــ هذا طبعا راجع اليك اونكل بانايوتي وراجع لانجيليكا، فانتما من سيدخل في المواجهة معه عندئد، بالنسبة لي فكل ما يريده مني ان اتنحى عن طريقه.
ــ وماهو الثمن الذي عرضه عليك؟
ــ اولا، انه لن يقتلني.
ــ وثانيا؟
ـــ وثانيا، فانه يتحدث عن وجود مكان في الصحراء تنبت فيه الحلفاء بغزارة، ويملك اذنا بفتح وكالة في يده رخصتها، يستطيع منحها لي.
ـــ هل اعتبر ابنتي انجيليكا طالقا؟
ـــ انها ليست طالقا.
ــ ولماذا وانت فيما يبدو قد اتخذت قرارك؟
ــ لن يحدث هذا الطلاق الا بعد ان استلم عقد الوكالة في يدي.
ــ لم اكن اظن انك ساقط الى هذا الحد.
ــ الفونسو ليس ساقطا، اونكل بانايوتي، الفونسو بائس مسكين.
ينخرط الفونسو في البكاء وهو يكرر كلمتي بائس مسكين، في حين يتركه بانايوتي ويمضي كعادته في لحظات الكدر والضيق، متوغلا في البراري، وقد بدأت العتمة تطبق على المكان، ماضيا في طريقه حتى احس بنفسه يذوب تماما في الظلام وقد ابتعدت عنه اضواء الوكالة وابتعد عنها.
جاء الى هذا المكان لا من اجل الربح واكتساب المال، وانما جاء ينشد الصعود في مدارج الصفاء والنقاء متأثرا بمن عرف قديما من النساك ممن رآهم يعتزلون الناس والعمران ويصعدون الجبال لكي لا يصلهم ضجيج الحياة ولا ينسحقون تحت مطالبها كما يفعل سكان المدينة ولا يدخلون صراعاتها ولكن هاهو مهدد بالانسحاق، مطالب بدخول ميادين الصراع حتى وهو يهرب الى هذا المربع من الجبال التي تحيط به من كل جانب، واصوات تاتيه من خلفه ومن امامه تقول له لا نجاة، حتى لو صنع ثقبا في الارض واختفى فيه، ربما لانه حقا تاخر في هروبه الى الصحراء، كان يجب ان يقوم بهذا الهروب منذ زمن مضى، ربما قبل الزواج والانجاب، كما يقول له الخاطر الذي يلح عليه مرة وراء الاخرى، ولكن لابد من حل،
لابد من سبيل لتكسير الاغلال وتحقيق الانعتاق، لابد من طريق ما، اما الان فان الهروب يبدو مطلبا عزيزا، حتى في وضعه الان وهو ينزوي في الظلمة ويرى حلقة الجبال تحيط به كثل سوداء من الظلام، نعم كانوا اولئك النساك يذهبون في رحلة العزلة والهروب من مشاغل الحياة ومشاكلها، فرادى، لا يحملون الا مسئولية انفسهم، اما هو، فالامر يختلف بالنسبة له، فكرة الارتقاء في مدارج الصفاء الروحي، جاءته وهو يرسف في هذه القيود العائلية، التي يتعذر معها التحليق بعيدا عن ارضها واجوائها المثقلة بالالتزامات والاحتياجات والمطالب، وهذه الاسرة التي انشأها، هي التي يسميها اهل الاجتماع خلية، وذلك يعني ان تتولد عنها خلايا اخرى، كما يحدث الان لعائلته، فابنته صار لها زوج، ومع الزوج بيت ومسئولية، ودعك الان من يورجو الذي تلبسته روح شيطانية لا يدري اين ساقته وماذا فعلت به، اما ابنته فانها معه، لم تنفصل عنه رغم الزواج، والبيت الجديد، لكنه زوج فيما يبدو، ليس اهلا للمسئولية الزوجية، فهو يتهاوى مع اول هبة ريح تلاقيه، يهرب من المواجهة ليتركه وجها لوجه مع رجل بلغ الحد الاقصى من الخسة والسقوط الانساني، ستكون مشكلته معه انه لن يستطيع ان يحاربه باسلحته واساليبه التي يجيد اختيار اكثرها انحطاطا ودناءة في معاركه، لو اراد حقا ان يكون شريرا مثله، ويهبط الى مستوى الاساليب الهابطة التي تتفق مع مستواه، لما استطاع ان يفعل ذلك، حتى لو اراد حقا ان يتجرد من جانبه الانساني ويتخلى عن مبادئه واخلاقياته، لان في الامر شيئا يتصل بالتكوين، ويتصل بطبع الانسان، واستعداده الفطري لان يفعل او لايفعل ما يستطيع او لا يستطيع فعله، نعم، انه يستطيع التفكير فيما يجب ان يفعله ليجابه الرجل باسليبه وتآمره، لكنه في التنفيذ، لن يستطيع، اليس بمقدوره مثلا ان يكتري له قاطع طريق ماهر في القنص، يترصد له اثناء عودته من الوكالة الى مزده، ويصيبه في مقتل، فتنتهي بذلك كل المشاكل التي يصنعها له هذا الرجل ويقوم بتقديم الخلاص لاخرين كان مصدر ضرر واذي لهم، لكنه ساعة التنفيذ سيرى امامه قول الانجيل في اصحاح لوقا quot; ولكنني اقول لك ما يجب ان تسمعه، افعل خيرا لولئك الذين يكرهونك، ومن صفعك على خذك، فادر له خذك الثاني ليصفعك عليه quot; او ما يقوله الله بحسب ما ورد في رواية القديس بول quot; اتركوا الانتقام لي، انا من يقوم به، يقول الرب quot; فهو الذي اخذ عهدا على نفسه ان ينتقم للظلم والمظلومين، اما الانسان فعليه كما يقول انجيل لوقا في موضع آخر، الا يدين احدا لكي لا يدان، وعليه دائما ان يغفر للاخرين اخطاءهم لكي يغفر الله له اثامه، ولهذا هو يعرف انه لن يستطيع ان يهبط باخلاقه ومثله الى حضيض هذا الرجل، فهو طريق يمكن ان يستخدمه ليربح المعركة ضد خصمه وحينذ سينطبق عليه قال المسيح عمن يربح العالم ويخسر نفسه،وستكونالخسارة في هذا المعنى خسارة دائمه وهو الذي ارد بمجيئة الى هذا المكان نشدان الرفعة والسمو. انه يلوم نفسه لمجرد ان تمرق في خاطره افكار تتصل بالتهديد والانتقام، ويعتبر مثل هذا الافكار اثم في حق نفسه وحق الاسلوب الذي ارتضاه في الحياة.
لا يدري في مثل هذه الظروف هل يلوم الفونسو على ضعفه وانهياره او لا يلومه، ولكنه علي يقين الان ان الحياة الزوجية لابنته بلغت طريقا مسدودا. ولعله ليس شيئا مزعجا ان يحدث مثل هذا الفراق بعد ما ابداه زوجها من سلوك سيء ازاءها، حتى قبل ان يدخل الرجل البوليسي على الخط، فهو ليس بالزوج الذي سوف تتأسف ابنته على فراقه او يتاسف هو على اختفائه من حياته وحياة اسرته، فقد صدمت به انجيليكا منذ اليوم الاول لزواجها به، ثم هاهو يثبت بجبنه وتخاذله وانهياره انه ليس جديرا بها، ولكنه ابدا لن يسمح للسردوك ان يضم انجيليكا الى حريمه. هناك اسباب كثيرة تبرر اعتراضه على مثل هذا الزواج، يأتي على راسها اخلاق وسلوك وطبيعة الرجل الاجرامية، وياتي بعدها انه متزوج وصاحب بيت مليء باولاده وبناته، وياتي في المقام الثالث فارق السن بينه وبينها وهو فارق يجعلها بمثابة ابنة من بناته، فكيف خطر له اساسا خاطر ان يكون زوجا لها حتى لو لم يسبقه الفونسو للزواج بها، ثم هناك سبب رابع يدفعه للاعتراض هو الطريقة الابتزازية الاجرامية التي يستخدمها لتحقيق طلبه، مما يجعله اكثر اصرارا على رفض ابترازه واسلوبه الهمجي في التعامل مع مثل هذه القضايا التي لا يجوز فيها أي نوع من التعامل غير التعامل الانساني القائم على التراضي والقبول والمودة بين كل الاطراف، وهو واثق ان ابنته نفسها سوف ترفض بقوة ان تحيل نفسها الى سلعة يشتريها السردوك بماله ومنصبه ونفوذه، وهو باعتباره والدها ومصدر الحب والحنان والحماية لها في مضى من عمرها، لن يتخلى اليوم عنها، ولن يسمح للسردوك ان يفرض ارادته عليه او عليها. السردوك له رئيس، هو البريجادير هيوز، نائب الوالي في منطقة القبلة، سيذهب اليه وسيسعى للحصول على دعمه، طالبا الاستنجاد به في الحيلولة بينه وبين الشرور التي تاتي من رجل الامن في ادارته.

عند عودته الى البيت، انتبه الى المكتب الصغيرة الموجودة في ركن الصالون، وراى نفسه منساقا للجلوس فوقه، وقد اخذ القلم وفتح الدرج الذي يضم المفكرة السوداء التي تعود ان يكتب فيها يومياته كلما عن له ذلك، وغمس الريشة في المحبرة وكتب:

((لا لم يكن هذا ما جئت من اجله الى هذه الصحراء، لم يكن هذا ما كنت اريده، ولكن الاشياء يبدو انها تاخذ دائما مسارا بعيدا عما نخطط له، ونجد انفسنا في مثل هذه الحالة، مرغمين نمضى عبر ذاك المسار، ولكن للارادة ايضا دورها، او لابد ان يكون لها دور حتى ونحن نمضي في طريق لا نختاره، ولا نريده، ولا قدرة لنا على تفاديه، نعم هناك دائما بجوار الحتمية الالهية مجال للفعل الانساني كما تقول تعاليم الانجيل لان الرب لم يمنحنا عقلا لنتركه عاطلا دون عمل، ويبقى لدينا الاسلوب الذي ندير به الصراع، اذ كان المسار صراعا ومجابهة، حيث تتفاوت جهود البشر اعتمادا على ما اعطاهم الله من قدرات عقلية وموارد روحية وامكانيات ثقافية وعلمية، فهناك دائما من له حكمة يستطيع توظيفها، وعقل كرم به الانسان بني ادم، نستطيع استخدامه، فيما يعرض لنا من قضايا عبر هذا المسار المفروض علينا. هناك بالتاكيد مناطق يجب استكشافها، وافكار يجب دراستها، في اطار هذا الموضوع، سابدا هذه الليلة بفتحها مع كاتيا اذا كانت لم تستغرق في النوم بعد، وطبعا دون مبالغة او توهيل، فانا لا اريد ان اكون في مقام الرجل الذي حذرت منه تعليم الكنيسة والذي يتصور الخطر حيث لا وجود للخطر، ويخاف من الضرر حيث لا وجود لهذا الضرر، دون استباق للاحداث، ودون اهمال لها حتى لا تاخذنا علي حين غفلة ))

اقفل بانايوتي الكراس، ودخل غرفة النوم ليجد زوجته تنتظر دخوله، تضيء فنار الغاز وتقرأ صفحات من الانجيل. ابدل ملابسه، واخذ مكانه بجوارها متمددا فوق السرير ويحكي لها باختصار عما وصله من اخبار المؤامرة التي يدبرها السردوك ليطلق انجيليكا من زوجها، وكيف اظهر الفونسو جبنا ونذالة تتيح للسردوك فرصة تمرير المؤامرة، بيسر وسهولة، ودون ان يلقى ادنى معارضة، كان يجب ان يقوم بها الفونسو، باعتباره الزوج المعني قبل غيره بالدفاع عن بيته وشرفه، ولكن السردوك، كما اخبر بانايوتي زوجته، لن يهنأ بتحقيق اغراضه، ولن يقطف ثمار خسته ومؤامرته، واذا كان الفونسو قد تخاذل وتراجع، فانه شخصيا لن يتخاذل ولن يهرب من المواجهة وسيمضي في طريق التصدي لهذا الرجل الكريه، حتى النهاية، واقترح على زوجته الا تفاتح ابنتها بشيء في هذه المرحلة، فلا حاجة لازعاجها قبل الاوان، بامل ان الفونسو، قد ينتبه لنفسه قليلا، ويتراجع عن المضي في طريق الهوان والمذلة، ويجد في نفسه ذرة من رجوله، تعينه على اتخاذ الموقف الصحيح، ومن ناحية اخرى فقد لا يفلح السردوك في الوفاء بالوعود التي وعد بها الفونسو، وتبدأ المؤامرة في الانهيار بفعل اصحابها انفسهم.

في اليوم التالي انتظر بانايوتي ان تأتي سيارة الشحن وقد دبر في نفسه امرا، وانتظر، بعد ان جاءت، حتى اكملت اخذ حمولتها من رزم الحلفاء، ثم دعا السائق ومساعده والعامل القادم معهما، لتناول العشاء في بيته، وهي دعوة تقع خارج الروتين اليومي لطاقم الشاحنة، انها استثناء اراد ان يحقق به غرضا خاصا به، وهو تاجيل رحلة الشاحنة حتى ساعة متقدمة من الليل، لانه قرر ان يسافر بواسطتها الى عاصمة القبلة، لمقابلة نائب الوالي هناك، ويريد ان يصلها مع طلوع النهار، لكي لا يجد نفسه هناك في اخر الليل دون ان يجد مكانا يأويه، في حالة سفره مع الشاحنة في موعدها، وسيكون مناسبا بعد انتها مهمته هناك، ان يعود مع الظهيرة في شاحنة الغد، وهكذا رتب لرحلة الشاحنة بحيث وجد نفسه في مزده مع شروق الشمس، ووصل الى مكتب نائب الوالي مبكرا وقبل وصول صاحبه، فجلس في غرفة الانتظار، حتى جاء من يبلغه بوصول السيد هيوز، ويأذن له في الدخول، فهو على سابق معرفة به، منذ بداية التحضير لانشاء الوكالة، ووجد نائب الوالي يستقبله بحفاوة وترحيب، منوها بمشروع الوكالة ونجاحه في انقاذ عائلات كثيرة كانت تهددها المجاعة من هذا المصير لانه قدم لها مصدر رزق شريف كريم، وقبل ان يطرح بانايوتي مشكلته على نائب الوالي، وجده يشير الى موضوع يتصل بالقصة التي جاء من اجلها ويجعل مهمته في طرحها اكثر يسرا، ففي اطار اشارته الى الوكالة، وما فتحته من ابواب الرزق امام ابناء البادية وعائلاتها، اشار نائب الوالي الى حقيقة ان الله كان كريما مع منطقة القبلة، بان حباها بوفرة هذا النوع من النبات المطلوب عالميا وهو الحلفاء، وكشف له كيف ان هناك شعابا في الجنوب الغربي لمنطقة القبلة، وبمحاذاة قرية طبقة، تتوفر على ثروة هائلة من الحلفاء مما استوجب الشروع في تاسيس وكالة جديدة لجمعها وتصديرها، وهنا تدخل بانايوتي قائلا بانه قد نما الى علمه خبرهذه الوكالة الجديدة، وعرف ان مدير الامن لديه السيد صالح السردوك، يريد استغلال هذه الوكالة لتحقيق مآرب خاصة به، على حساب بيوت يسعى لتدميرها، وما وجوده اليوم في مكتبه الا للاستنجاد لانقاذ بيت ابنته انجيليكا وزوجها الفونسو الذي استهدفه السردوك بشروره، مستخدما قوة منصبه، لهذا الغرض وهو المنصب الذي اعطته له سلطة الحماية البريطانية لتسخيره في خدمة المواطنين وحمايتهم لا لارهابهم وتدمير بيوتهم، وقد جاء اليه باعتباره رئيسه الذي يجب ان يعرف ان الرجل ليس امينا على هذه السلطة ولا نزيها في استخدامه لها. وللحظة بقى البريجادير هيوز صامتا لا ينطق باي تعليق، ثم داس على زر فوق مكتبه، فظهر عبر انفراجة الباب وجه احد موظفيه، فسأله ان يهبط الى مكتب الرائد السردوك ويبلغه بسرعة الحضور الى مكتبه.

يتبع غدا