مدخل
هنا ينبغي التحرر تماماً من شؤم القراءة السريعة.
قبل الدخول في عوالم quot;ممالكquot;، التي تشرع بقصيدة quot;ممالك الوهم وهم الممالكquot; ndash;عنوان يحذرنا، كما يبدو، من البدء، من مغبة الإنزلاق في شرك الإفخاخ المرئية وغير المرئية، أو الخدع التي تدفعنا إليها طواعيةً عاداتنا السيئة في القراءة، كأن نتصور، مثلاً، وجود ممالك قائمة فعلاً في العالم، أو على العكس من ذلك، نفي وجود ممالك أخرى غيرها؛ ممالك المخيلة الشعرية، إن وجدت؛ quot;ممالك الوهم وهم الممالكquot;، كعنوان للقصيدة الأولى، غير مطروحإذا بصيغة سؤال، أو تساؤل، بل متروك، هو كما هي عليه، لرؤية وبصيرة القارىء-؛ قبل الدخول، إذاً، في كون تلك العوالم ومعايشة تجربتها الاستثنائية، نقرأ على الجهة المقابلة، ص 6، مقابل القصيدة الأولى، نصاً غير معنون، لا ندري كيف ظل مكشوف الرأس، أي بدون تسمية، ولا ترافقه حتى ملاحظة ما تشير إليه، أو تلفت عين القارىء نحوه. غرابة فاتنة! كيف يمكن التعامل مع، أو على الأقل تسمية هذا النص، الذي يبدو وكأنه خارج الديوان، مخلوع عنه، مع أنه ملتصق به ورقياً، إذ ليس هناك ما يوحي لنا بأن الشاعر قد وضعه هناك لكي يكون بمثابة مدخل، مقدمة، أو شكل من أشكال التقديم لديوانه. ومع ذلك، ترغمنا أهمية ذلك النص على التعامل معه باعتباره quot;تقديم ضمنيquot; للعمل.
يبدأ quot;التقديم الضمنيquot; لديوان الممالك، بفعل رأى، بالعين، حاسة النظر والتطلع نحو الأشياء والكائنات؛ حاسة تفرض، من تلقاء ذاتها أو بطبيعتها، مسافة ما بين الرآي والمرأي، ما بين الناظر والمنظور، ما بين تلقائية البصر وما يقف أمامه، كظاهرة:
quot;رأيت رجلاًquot;
يهيمُ بوجههِ في متاهة البراريquot;.

تلك هي عبارة quot;التقديمquot; الأولى. لن يكون من المجدي، بطبيعة الحال، التساؤل الآن من أين
بزغ ذلك quot;الرجلquot;قبل هيامه على وجهه في البراري، ذلك لأننا لسنا، هنا، ضمن حقل أو ميدان طرح الأسئلة، التي قد تأتي لاحقاً، لكن في لحظة المرئي، التي يشهد عليها القول الشعري. سنترك هذا، للحظة، معلقاً بالطريقة التي التقينا فيه بها. لذا وضعنا مفردة رجل بين قوسين لكي لا نخون النص، ذلك لأنه يتحدث عن quot;رجلاًquot;، بصيغة المجهول، أي بدون ألف ولام التعريف، التي تقضي على كل شيء وتعطل الفعل والمخيلة. لن نتساءل، إذاً، عن ذلك القدوم المُحيرِ، عن هذا اللقاء المُربكِ والمُهددِ، إذا ما صح القول، ما بين السارد، المُتحدث، وما عثر عليه في دربه، إذ ربما تكون صيغة quot;رجلاًquot;، معدوم المواصفات هذا، والتي تبدو، من الوهلة الأولى، عفوية، قد تم اختيارها عن عمد وبدقة محسوبة للغاية. قد تكون الرديف الواضح لمفردة quot;إنسانquot;. لمّ لا؟ بل وحتى quot;إنسانquot; قريب منا تماماً، مادام أنه يهيم quot;في متاهة البراريquot;، مثلنا جميعاً. وذلك ما سيكشف عنه هذا النص المكثف بقوة، من وجهة نظرنا، شيئاً فشيئاً، إلى حد التطابق أو المطابقة المحفوفة بالمخاطر. لكن لا ينبغي علينا استباق الأمور. لسببين: أولاً، نحن ننوي القطون والبقاء طويلاً تحت خيمة هذا النص، quot;التقديم الضمنيquot;، لجماليته المتفردة وإشكاليته quot;الإنطولوجيةquot;، إذا ما سُمح لنا باستخدام تعبير كهذا على غموضه، وثانياً لأن بنيته، أي الشكل الذي تتوزعه الرؤية والقول؛ قول الرؤية ورؤية القول، الديالكتيكية بمعنى ما، قد تكون المفتاح quot;الذهبيquot; لقراءة غالبية، إن لم يكن كل نصوص quot;ممالكquot; القادمة. وإلا لم خُصص لها مثل هذا المكان الخفي، أو الذي لم يخصص لها بالأحرى، لكنها أحتله، بحكم هذه القوة أو تلك، كما تختفي وتحتل الإحجار الكريمة مكانها في البراري التائهة، تحت كثبان الرمال؟ يتشكل نص التقديم، المُفترض من قبلنا، من مقطعين مفصولين عن بعضهما، ليس من جانب تقنية الكتابة وحدها، بل وأيضاً، وبشكل جوهري، من جانب بعدها quot;الإنطولوجيquot; الذي أشرنا إليه للتو.
المقطع الأول، الوصفي أو السردي، كما يشاء المرء، مُكرساً برمتهِ وبحيادية تامة، تذكر بحيادية المشاهد الشهير عند هوسيرل، ذلك المشاهد الذي يعلق أي قول أو تعبير، حكم أو تدخل ما من اللغة، لكي يسكن الظاهرة نفسها، وهذا بالدقة بفضل وضعه مسافة لا يمكن إختزالها ما بينه وبين المرئي، لكي يقدم هذا الأخير من تلقاء نفسه، ومن ثم يدخل في دائرة النور، الصورة التي ستتضح ملامحه بفضلها، دون أي إرغام يلحق به من الخارج. ذلك ما يُسمى بالفنومنولوجيا. كما قامت السينما المعاصرة، عند غوادر بشكل خاص، بما يمكن تقريبه من موقف ذلك المراقب quot;المطلقquot;. لنقرأ مقطع التقديم الأول هذا:
quot;رأيتُ رجلاً
يهيمُ بوجههِ في متاهة البراري
حاجباً الشمس بكلتا يَديه
عارياً ينتظر الليلَ
يرفعُ رأسهُ عالياً
فيطلق صرخةً موجوعةً
بوجه السماءquot;.

العري، إن كان عري quot;رجلاً يحجب الشمس بكلتا يَديهquot;، أو أي عري آخر للكينونة، هو ما يشعُ، يلهثُ كالجمر أو الياقوت الأحمر في المقطع الأول quot;للتقديمquot;. عن حق. ذلك لأن العناصر الأخرى quot;متاهة البراري، الشمس، الليلَ، الصرخة والسماءquot;، وكذلك الصفات الملازمة لها quot;حاجباً، عالياً، موجوعةquot;؛ وقد نغامر بالقول حتى الأفعال quot;يهيمُ، ينتظرُ، يرفعً، يطلقُquot; لا ترتقي، بكل المعاني الممكنة للمفردة، إلى مصاف وسمو ذلك العري، الذي يلعب دوره ويترك أثره كفعل وحيد لتقديم الكينونة ككينونة. لماذا؟ ببساطة، لأن الخصائص والحالات الأخرى تنتمي بالضرورة وتحيل إلى بعدين: بعد اللغة كلغة، وبعد السايكولوجيا بذاتها. فيما نحن، مع جمالية المنظور quot;رجلاًquot;، وجمالية العين-الكاميرا، التي التقطت هيامه الأعزل في متاهة البراري، دون أن نعرف منْ كا يحمل تلك الكاميرا ويحرك عدستها، أبعد ما نكون، في ذات الوقت، عن اللغة كوعاء عام للكلمات، كبعدنا عن أية سايكولوجيا، بما فيها الوصفية. ذلك ما أسميناه الأختيار المتعمد ربما لمفردة quot;رجلاًquot;، بلا مواصفات، دون أزمنة، وبالرغم من التحديد الظاهري لمكانه. لكن هل تمّ فعلاً تحديده؟ أي مكان؟ البراري ومتاهتها؟ نحن أمام quot;رجلاًquot;، بلا مواصفات، بلا أزمنة، بلا أمكنه، ومع ذلك يُعمي شعاع عريه العين المجردة وعين العدسة كذلك. ثمة ما يقترب من quot;القدسيquot; هنا، ليس بدلالته ومغازيه اللاهوتية أو السحرية، بل ضمن ما يغلفه من العفوية، أو، بشكل أدق، عبر ما يمنعنا من تعيين موقعه، أو التظاهر بالوقوف عند نفس أرضيته التي يستحيل حدس أبعدها اللامتناهيةِ (براري). نصرُ على تسمية لقطة كهذه بالتقديم الأسمى والمروع للكينونة. يكتفي المقطع الأول، إذاً، بنفسه، أي ليس هناك ما يُعتم فيه النظرِ ويحجب الظاهرة، أو يشوش ويلغي التأمل من التطلع الطويل في لوحته الحيّةِ والديناميكة، بالرغم من سكونها الظاهري. أجل، ثمة لوحة ما مرسومة بتأني وعناية ضمن فعل quot;التقديمquot; هذا. لوحة جديرة بالحصول على عنوان الكلاسيكية، بالمعنى الفني والنبيل للمفردة.
لنأتي أو نذهب إلى المقطع الثاني؛ مقطع quot;التقديم الضمنيquot; أو المُفترضِ، المفصول، نكرر، بصورة واضحة عن المقطع الأول بطريقة مزدوجة: من جانب الشكل الذي أخذه على الورقة، تقنية أو بروتوكول الكتابة والتقديم، الذي ينطوي هو الآخر على لغزه الخاص، هوته أو هاويته الذاتية، ومن جانب التحول الذي سنعايشه وندخل فيه:
quot;قلت له ماذا تفعلquot;، بلا علامة استفهام. ثمة، كما يظهر أو يبدو، من رجلٍ ثان يدخل في المشهد بغتةً، دون سابق إنذار، ما عدا تلك المسافة التي تفصل المقطعين والتي أكثرنا الحديث عنها، لتفردها. مع quot;ماذا تفعلquot;، يصلنا الجواب مباشرة، فوراً، بلا تردد أو تهيب من اللقاء:
quot;قال أعوي،
إنني أعوي،
طوال الليلquot;.

نحن من وضع النقطة الأخيرة، فرد quot;الرجلquot; لا يتضمنها في النص. قلت وقال، تفتحُ ميدان الحوار ما بين الكائنات، أو الكينونات العارية بالأحرى. تتكرر مرتين مفردة أنا، مرة بشكل ضمني في quot;قال أعويquot;، ومرة أخرى مكشوفة في quot;إنني أعويquot;. كذلك يتكرر فعل أعوي مرتين، لكن دون ضمنية هذه المرة؛ فعل العواء لا يمكن أن يكون ضمنياً، على الأقل كما هو في النص. لكن لمَ حالتيّ التكرار هاتين، وعلى ماذا ينبغي التوقف أطول، عند الذي يعوي أم عند عوائه؟ لا ندري، وليس هناك أيضاً من إجابة ممكنة على سؤال كهذا. ذلك لأن الإجابة ستحدث شرخاً، شطراً، ثغرة ما بين الأنا وفعل العواء ذاته، فيما يشير كل شيء هنا نحو قوة تغليف غير عادية لطرفي المعادلة. إشكال ليس بمقدورنا تعليله. ومع ذلك، لا يكمن ما نهدف في الوصول إليه لا في هذه الثنائية ولا في موضوع تغليفها. يكمن في مكان آخر:
quot;لعل قمراً مكتملاً يفيقُ
فيرجعني ذئباًquot;

يكمن ما نهدف في الوصول إليه، إذاً، في رغبة quot;الرجلquot; للرجوع، أو في الرجوع إلى... ماذا، أو إلى ماذا؟ الرجوع إلى حالته أو كينونته الأولى. أيهما؟
حالة أو كينونة quot;الذئبquot; المُختلطةِ، أي تلك التي لم تعرف بعد تراتبية الكائنات؛ حالة اللاأنقصالية أو اللاتمايزية، اختلاط الحيواني بالآدمي، أو الحالة العامة:
quot;فيرجعني ذئباً
أتآلفً مع الناس
واتطابقُ مع دخيلتهمquot;

أية خيبة سعيدة هي رغبة quot;الرجلquot; هذا أو كينونة المطابقة تلك! ومع ماذا؟ مع دواخل الآخرين، الناس. سقوط مباغت ولا يُفهم في حقل السايكولوجيا. إذ تكفي الإشارة إلى quot;الداخلquot;، أو quot;الدواخلquot;، حتى يتلقفنا شدق السايكولوجيا العريض، الذي يشل كل رغبة وفاعلية. غير أن ضربة quot;التقديم الضمنيquot; الحقيقية لا تكمن، ثانية، في هذه النقطة، أي في سوداوية أو ميلونخوليا التطابق ذاك، ولا في أي إيعاز أخلاقي آخر. أنها تكمن في:
quot;لنذهب سوية إلى
فعل quot;الذهاب سوية إلى حيث
رائحة الدم تفوحُquot;. quot; حيث يُسكب الدم وquot;تفوح رائحتهquot; هو العالم. كذلك فإن quot;سويةquot;ً تفترض الاثنين، وبالتالي تمنع كل شكل من أشكال التطابق، إن كان ذلك على صعيد الهوية أو على صعيد السايكولوجيا.
لقد عرف quot;التقديم الضمنيquot;، على طريقته الخاصة، الإفلات والتحرر من قبضتيهما. وذلك ما يشكل، بحد ذاته، عمقه وجماليته المتفردتين.