رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة السادسة والعشرون: الدخول في أجواء شهر الصيام

شكر بانايوتي الفونسو على اخلاصه الذي دفعه اليوم للمجيء الى الوكالة لتحذيره، وابلغه بنقل تحياته وتقديره لنائب الوالي، الذي يتبث بهذا الكلام انه رجل على مستوى المسئولية، وابلغ الفونسو بانه لا يشعر باذنى خوف من السردوك، ولا يستطيع ان يتصور الجريمة او الورطة التي يستطيع تلفيقها له، ويشك في انه قادر على صنعها من الهواء، حيث انه رجل لا يغادر بيته وحانوته الا مرة كل عام او عامين، ومع ذلك فانه سيعمل جاهدا الا يكون صيدا سهلا لمكائده والاعيبه. وبعد ان غادر الفونسو الوكالة، مع السيارة التي تحركت ليلا، حاول بانايوتي ان ينسى السردوك ومؤامراته، وان يمضي مع تيار الحياة في الوكالة وروتينها الرمضاني الجديد الذي بدأ مع اول يوم من ايام الشهر ولن ينتهي الا بانتهائه.
وبصدق واخلاص يحاول بانايوتي ان يتواصل مع الاجواء الروحانية التي يعيشها رفاقه المسلمون في الوكالة، وان يندمج مع اجواء الشهر الكريم الذي يقدسونه،حتى وان كان الشهر لا يعنيه من جانبه الديني الاجرائي، ولا تكليف عليه بصيامه كما المسلمين، فانه معني بالنواحي الاخرى التي تتصل بمحتواه الانساني وجوانبه الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ولا يتواني عن الامتناع خلال ساعات النهار عن الاكل والشراب لتعميق احساسه به كما لو انه مسلم كنوع من التمرين الروحي، وحرصا على المشاركة في الترفيه على قاطني الوكالة، اضاف ساعتين الى الساعات المخصصة لاضاءة الوكالة ليلا، فصارت تسبح في انوار الكهرباء الى ما بعد منتصف الليل، ومد اكثر من سلك يحمل عددا من المصابيح لتصل الاضاءة الى كل الفراغات والطرقات المعتمة، وعلى المستوى العائلي، فقد التزم بيته بطهي وجبة واحدة وهي وجبة العشاء تتناولها الاسرة في موعد افطار المسلمين ساعة ان ينطلق صوت الفقي عامر يرفع اذان المغرب، ويندمج بعد العشاء مع اهل النجع في الحياة الاجتماعية الليلية التي تبدأ عادة بخروج الاطفال فور الانتهاء من وجبة الافطار الى الساحة التي تفصل بين خيام النجع وابنية الوكالة، يباشرون بناتا وذكورا العابا مثل القفز على الحبل والاستغماية وكرة اليد و كرة القدم، كما تنشأ تجمعات للكبار، للنساء على حدة وللرجال على حدة، للصبايا والشابات تجمع، ولكبار النساء تجمع، يقمنها في المساحات الفارغة امام الخيام، كما للشباب تجمع يتخذ موقعه في خيمة المقهى والبراح الذي امامها، يلعبون الورق ويتبارون احيانا في لعب كرة القدم او يتجمعون حول مزمار عاشور، بينما يتأخر تجمع الرجال الكبار الى ما بعد الانتهاء من صلاة التراويح، وينعقد اما مكتب الادارة، مع عدد من اطباق الحلوى تاتي من تجمعات النساء، ويستمر عامرا بحديث الذكريات والقصص المستوحاة من التاريخ الى الدقائق الاخيرة التي ينطفيء فيها محرك الكهراء، وقد تعود العامل ان يقدم لهم انذارا هو لحظة اظلام لا تستغرق الا بضع ثوان، تسبق اطفاء المحرك بربع ساعة كافية لايصال كل واحد من اهل النجع الى مهجعه. وبطبيعة الحال، فاجواء السهر والمرح ليلا، تجعل الاستيقاظ يتأخر موعده نهارا عن مواعيد سائر اشهر العام، باستثناء الشيوخ الحريصين على صلاة الفجر في موعده، فيستيقظون لصلاته ويعودون لاكمال نومهم،كما تزداد فترة القيلولة وتمتد ضعف معدلاتها في ايام الافطار، يقضونها نياما تحت اشجار الاثل والبطم والعرعار، وتسبق النساء ازواجهن في العودة الى النجع للقيام باعداد وجبة الافطار.

ولم يفعل بانايوتي شيئا ازاء تحذيرات الفونسو عدا انه احضر اوسادن، واخبره ان هناك شرطيا سريا زرعه السردوك، داخل مجتمع الوكالة، ويريد ان يكون حاضرا وشاهدا على ما سيقوله له لحظة استدعائه الى مكتب الادارة، لان اخبارا وصلت اليه تقول بان السردوك يريد استخدامه في نسج مؤامرة له، وهو يريد ان يتدبر لقاء معه، فاجابه اوسادن بانه قادر على ان يحكم الرقابة عليه، بحيث يجعل من الصعب ان يقوم باي عمل ينفع السردوك في مؤامراته، الا ان بانايوتي اثر ان يتحدث اليه مباشرة بحضوره، ولم يشر عندما التقى بالرجل الى أي شيء يتصل بالسردوك ومؤامراته، بل جدد الترحيب بوجود رشيد في الوكالة، لان وجود شرطي مثله يجب ان يمنح الناس جميعا احساسا بالامان، فهو يمثل الحكومة، ويستطيع ان يكون عينها التي تراقب وتحرس، وتمنع الانحراف، الا انه رجل اعزب، واجواء رمضان الليلية، اجوء تتيح للناس فرصة السمر والسهر والاختلاط البريء، بين الرجال والنساء في احيان كثيرة، ويريد ان ينقل اليه تحفظات بعض اهل النجع على وجوده بينهم دون عائلته، وخاصة في هذا الشهر الكريم، ويتمنون عليه ان يقوم بعمل احدى الخيارين، احضار اسرته لتقضي هذا الشهر معه وتكون حزءا من مجتمع الوكالة، او ان يذهب الى عائلته في مزده لقضاء الشهر معهم، فهو حرام ان يبقى بعيدا عن اسرته، وبعيدا عمن يقوم بتجهيز افطاره وسحوره، ويرجوه ان يأخذ خلال هذا الشهر اجازة لقضائها مع عائلته، ومرحبا به بعد انقضاء الشهر الكريم، حيث تكون قد انقضت بانقضائه اجواء الاختلاط اثناء السهر ليلا. ولم يستطع ان يقول شيئا يعارض به اللهجة الودودة المهذبة التي خاطبه بها بانايوتي، ودون ان يلتزم في ذات الوقت بتنفيذ احد الخيارين، فقد اعتذر بان ظروفه العائلية لا تسمح له بجلب الاسرة من مزده، فزوجته ترعى امه الطاعنة في السن الى حد العجز عن الحركة، ومن الناحية الثانية وهي قضاء الشهر في مزده، فهو ليس حرا في نفسه يأخذ اجازته متى يشاء، مع انه يحبذ فعلا ان يفعل ذلك، لكنه لابد ان يستشير رئيسه في العمل اولا، وهذا ما وعد به، قبل ان يغادر مكتب الادارة، وبعد مضي يومين على هذا اللقاء طوى خيمته ونقلها عائدا الى مزده فوق ظهر الشاحنة، ولم يعد الا بعد انقضاء اجازة العيد، وعندها رأى بانايوتي ان عودته ربما تكون اشارة الى ان السردوك بدأ يباشر وضع خططه التآمرية موقع التنفيذ، فقد صح ما توقعه بانايوتي بان يكون شهر رمضان شهر هدنة وتجميد لاعمال الشر، فلم تصل اليه ادنى مضايقة من خصمه، الا ان عودة الرجل الان، تثير توجسه، الذي ما كان ليثيره بنفس الدرجة لو استمر موجودا في الوكالة، فقد بدت هذه الاجازة، او كان يجب ان تكون، نهاية طبيعية لعمله السري في الوكالة، فقد جاء تحت ذريعة الكشف عن مجرم تسلل الى الوكالة، واتضح بعد مرور اشهر من وجوده ان لا اثر لمثل هذا المجرم، فما الذي يستوجب هذا الاصرار على وجوده في الوكالة، ان لم يكن مخططا يريد ان يمضى السردوك في تنفيذه للوقيعة به، وهو مجبر الان ان يقوم بخطوة معاكسة ضده، ولم يجد في نفسه أي حرج عندما عمد الى معاودة احضار الرجل ليلا الى مكتبه، وامام صديقه اوسادن مرة اخرى، قائلا له انه يعرف المهمة التي جاء ليقوم بها هذه المرة، فلا يظنه جاهلا او غافلا عنها، وبشيء من الاندهاش المفتعل، ابدى رشيد جهله بوجود اية مهمة اخرى غير المهمة التى جاء ليواصل القيام بها بعد انقضاء اجازته، فافهمه بانايوتي بصراحة ان تلك المهمة لم يعد لها وجود، حتى لو كان لديه حقا او لدى رؤسائه شبهة لوجود ذاك المجرم، فقد تأكد الان بعد انقضاء كل هذه المدة ان لا وجود اصلا له، وباعتبار بانايوتي مسئولا عن هذه الوكالة، فلابد ان هناك هدفا جديدا، بعد ان سقط العذر القديم، يجب ان يعرفه، فهو هنا ليس لاقتلاع الحلفاء، لان لديه وظيفة تجلب له مرتبا هي وظيفته كشرطي في الخدمة السرية، وعليه اذا اراد قبولا من اهل الوكالة وتعاونا منهم ان يتكلم بوضوح ودون تورية او تمويه او غموض عن هذه المهمة، وهنا ابدى رشيد شيئا من العناد والتحدي عندما قال ان الرجل الذي يعمل مثله في الشرطة السرية ليس مطالبا دائما بالكشف عن اسرار مهمته، بل ليس مخولا من رؤسائه بالتحدث لعموم الناس عن طبيعة عمله، وعند هذا الحد راى بانايوتي انه في حل من المحافظة على اسلوبه المهذب مع هذا الرجل، طالما انه ابدى مثل هذا المكر والعناد، فقال مستمدا بعض الشجاعة من وجود اوسادن بجواره، موجها كلامه لرشيد، بانه جاء الى هذه الوكالة صحبة رئيسه الرائد السردوك quot; وسمعت كيف ان هذا الرئيس اوصاني بك خيرا، وقدم لي شرحا وافيا عن المهمة التي جئت من اجلها، وقد اتضح ان المهمة لم يعد لها وجود، ولذلك اقول لك ان وجودك هنا لم يعد له ما يبرره quot; وافهمه بصريح العبارة انه طالما يريد ان يلعب دور الرجل الغامص، ويحيط عمله بالسرية، ويقول انه ليس مجبرا على كشف اسراره له، فان بانايوتي ايضا ليس مجبرا على القبول به، ولا مجبرا على التعاون معه، بل انه والحال كذلك فلن يتعامل معه اطلاقا علي أي مستوى من المستويات، انه لا يملك هذه الارض، فهو حر في البقاء فيها، ولكنه يملك الوكالة التي تشتري الحلفاء، وهو لن يشتري منه بعد اليوم أي حلفاء يقتلعها، ويملك الدكان الذي يبيع السلع للعاملين بالوكالة، وهو لن يبيع له شيئا من الدكان، ويملك بيته ومكتبه ومخازن الوكالة وملحقاتها كالمقهى وغيره، وهو لا يريد وجوده في أي مكان من هذه الاماكن التابعة له، وصارحه بانه سمع كلاما عنه يقول ان وجوده هنا من اجل البحث عن ورطة يقوم بتلبيسها له، وهو لن ينتظر ليتأكد من صحة هذه المعلومة، اوعدم صحتها، ومن حقه ان يتجنبه ويأخذ حذره منه، فليتفضل يبني خيمته اينما شاء في النجع،ويذهب مع الناس الى الشعاب، فهو لا سيطرة له الا على ما يملكه، ويقول له الان بحضور هذا الرجل الطارقي بانه لن يأمن ما يحدث له اذا خالف التنبيهات التي قالها له، ولذلك يرجوه ان يذهب ليستأنف عمله البوليسى في مكان غير هذه الوكالة، لانه سيبقى منبوذا، طريدا، وهو يعلم ان كل اهل الوكالة وسكان النجع يؤازرونه في هذا الموقف، ثم سأله بلهجة حازمة ان ينصرف الى شأنه، راجيا الا يراه في هذا الجوار مرة اخرى.
انصرف الرجل مغضبا، وراى بانايوتي صاحبه الطارقي وقد بدت علامات الدهشة على وجهه، مستغربا لما ابداه بانايوتي من حزم وجزم في معاملة الرجل، فافهمه ان المسألة لا تحتمل اية مجاملات، لانها هنا على حساب مؤامرة تستهدف هلاكه، فلابد ان يظهر امام خصومه شديدا قويا، وهو لا يقصد ان يستعرض موقفه الشديد القوي على هذا الشرطي الذليل، المرغم على اطاعة الاوامر مهما كان سخفها، ولكنه يقصد سيده الذي يريد تسخيره للشر والجريمة، وهو امر يناقض عمله الحقيقي في حماية الناس من الشر والجريمة، ولانه يعرف ان هذا الاسلوب هو الذي يفهمه ضابط بائس مثل السردوك، كما يفهمه هذا التابع الحقير، وابداء الضعف هو ما يريدونه منه، لاظهار قوتهم والعبث بضحاياهم. وابدى اوسادن اعجابه بمنطق صاحبه، قائلا بانه يسعده حقا ان يراه قويا، قادرا على مجابهة النذالة المتمثلة في هؤلاء الرجال، واعدا بانه سيقوم بتشديد الرقابة على رشيد ورصد حركته وسيعطيه علما باي تحرك مشبوه يقوم به.
انتهى اللقاء، فذهب بانايوتي مستفردا بنفسه، متحدا بالعتمة،متوغلا في عمق الخلاء، وقد بدت النجوم شاحبة فقدت لمعانها، لان الكون تغلفه ابخرة ليست سحبا وليست ضبابا، وانما طبقة رقيقة شفافة من شبورة الخريف، وقد احس بانسام الليل تهب عليه باردة منعشة، وتضرب وجهه كانها محملة بالطل والندى، وفكره منشغل بما يمكن ان يحدث من رد فعل على ما قدمه من انذار للشرطي السري، انه يعرف بالتأكيد ما سوف يفعله، وهو ان يرفع الامر لسيده السردوك، ولعله مشغول في هذه اللحظة بابراق ما ابلغه به الى سيده في مزده على جهاز المخابرة، فكيف اذا سيكون رد فعل السردوك، بالتأكيد سيكون الغضب والاحساس بالمهانة، وهو امر ليس جديدا، فقد سبق ان اغضبه واهانه بشكل اكثر قوة، وفي وجهه شخصيا، وليس عبر ذنب من اذنابه، والسؤال ليس عن قوة هذا الغضب او هذا الاحساس بالمهانة، ولكن عن مدى الامكانيات التي يستطيع استخدامها للتعبير عن هذا الغضب، وهذه المهانة وخاصة وان الاهانة هذه المرة لا تلحقه بسبب شخصي مثل الخطوبة، وانما تتصل بما يمكن ان يسميه عملا، فهو رفض لمندوب حكومي من التواجد في مكان تستدعيه ظروف العمل كما يدعي، ومع ذلك، فان ما يملكه قليل بالنسبة للتعبير عن غضبه او للانتقام على اهانته، فهو لن يقدر على توقيفه، او حجزه في المركز، او حبسه احتياطيا على ذمة التحقيق او المحاكمة، ولن يستطيع اتخاذ اجراء بسحب رخصة الوكالة مثلا، بل مجرد توجيه انذار له، امر ليس من اختصاصه، وانما من اختصاص نائب الوالي فهل في مثل هذه الحالة، يستطيع استصدار قرار من البريجادير هيوز بمثل هذا الايقاف او الحجز، الا يبدو ذلك مستبعدا جدا في ضوء ما ارسله اليه نائب الوالي من تطمينات وتعبير عن تأييده في هذه المعركة الظالمة التي يريد ان يخوضها ضده السردوك بلا حق، وباسلحة المنصب الحكومي وقوته، وجملة ما انتهى اليله تفكيره،هو ان السردوك لن يصمت على ما حدث، وسيحاول بشكل من الاشكال توظيفه في اطار الحملة التي يديرها ضده.
عندما عاد الى البيت كتب في دفتر يومياته:
(( عادت الحياة الى روتينها بعد انقضاء شهر الصيام، وما احسست به من طمأنينة تؤكدها تقاليد الناس في المجتمع الصحراوي في التعامل مع هذا الشهر، واجد نفسي هذه الايام في حالة استنفار واستفزاز، دون ان ارى ان هناك عاملا خارجيا هو الذي اوجب هذه الحالة، فهي حالة ناتجة عما يخالجني من مشاعر نابعة من ذاتي، بل ان الشرطي رشيد نفسه، الذي تحول وجوده في الوكالة الى روتين وعادة، ما كان يجب لعودته بعد اجازة العيد، ان تكون مصدرا للتوتر، وعاملا يحرك نوازع الفزع التي تنتابني، ان هي اذن ليست الا حالة شعورية نابعة من ذاتي، بعد ان وجدت نفسي في غياب الاطمئنان الذي يشيعه شهر الصيام في النفوس، استشعر الخوف من المستقبل، واستنفر اليات الدفاع الذاتي، لكي تقوم بهذا الفعل الاستباقي للاحداث، الذي ياخذ في ذهني صورة العمل الوقائي الاحترازي الذي يصد المتاعب، فاذا به في حقيقة الامر، يصبح عملا تحريضيا وليس وقائيا، ويسعي لجلب المتاعب وليس لصدها ومنعها او ابعادها وتفاديها ))

ما حدث في اليوم التالي، لم يكن بعيدا عما تصور بانايوتي حدوثه، غير انه جاء في صورة اقل جهامة وقسوة مما كان يتوقع، فقد وصلت قبل منتصف النهار سيارة جيب تحمل لافتة الشرطة، وقفت مباشرة امام مكتب الادارة، وهبط منها السائق ومرافق له هو الشاويش عمر، الذي سبق ان زار الوكالة صحبة رئيسه السردوك، ناقلا اليه تحيات رئيسه ورسالة شفهية منه، ذات صياغة شديدة التهذيب، تقول بان السردوك يعتذر عن أي خطأ ارتكبه الشرطي رشيد، واثارت غضب صاحب الوكالة الذي طالبه بالرحيل، ويريد ان يعرف هذا الاثم، الذي اقترفه ضد باناياتي، لتذنيبه، ومن اجل ذلك فهو يرجوه ان يحضر الى عاصمة الاقليم، ليفهم منه ما حدث، ويعرف ما يريده بالضبط، حرصا على صلة التعاون بين مديرية الامن والوكالة.

لم يكن بانايوتي يتوقع ان يتخذ رد فعل السردوك على رفض القبول بعميله، مثل هذه الصيغة المهذبة، الا انه مع ارتباحه الى انها لم تتخذ صيغة اكثر قسوة وعنفا، لم يكن مطمئنا لصدقها، او صدق صاحبها، غير مستبعد ان تكون غطاء لشيء آخر سوف يسفر عن نفسه حال وصوله الى مديرية الامن، ويكون هو عندئذ تحت سيطرة السردوك وبين الجلاوزة الذين يأتمرون بامره، فكان موقفه متأنيا ازاء ما قاله الشاويش عمر، ومتحفظا في اعطاء اية اجابة سريعة، دون ان يفصح لهذا المبعوث بشيء من الهواجس التي تخامره، واكتفى بان رحب به باعتباره ضيفا على وكالته، وجلب له القهوة والبسكويت والمشروب البارد، والح في دعوته للبقاء من اجل تناول طعام الغذاء معه، الا ان الرجل كان يريد الاسراع في اداء مهمته، راجيا بانايوتي ان يرافقه في رحلة العودة الى مزده، وستقوم ذات السيارة بارجاعه في مساء نفس اليوم الى الوكالة. اعتذر بانايوتي عن عدم استطاعته مغادرة الوكالة في هذا الوقت، لان هناك نقصا في العاملين، وثمة شاحنة قادمة لنقل رزم الحلفاء الى طرابلس، يجب ان يكون في انتظارها ويشرف على تحميلها وتجهيزها، ويرجوه ان يعود الى رئيسه، ليطمئن انه سيكون قد رتب امره بحيث يسافر للقائه في موعد اقصاه يومين اثنين، لازالة أي لبس يتصل بوجود الشرطي رشيد في الوكالة، وكان رشيد قد طوى خيمته وبقى ينتظر وصول السيارة التي تحمل الشاويش عمر، جاهزا لمغادرة الوكالة معه.
ارجأ بانايوتي ذهابه الى السردوك، لانه لا يريد ان يضع نفسه بين يدي خصمه دون ترتيب، واول مراحل هذا الترتيب ان يخطر نائب الوالي بما حدث، وانه قادم بعد غد لمديرية الامن بناء على استدعاء السردوك، مع انه ليس استدعاء رسميا وانما دعوة للاجتماع به من اجل التفاهم على استمرار وجود الشرطي السري الذي وضعه في الوكالة بحجة تعقب احد المجرمين، وكان تفكير بانايوتي ينحصر فيمن يجب ان يحمل الرسالة، الا انه لم يستعجل في اختيار هذا الرسول، فهناك وقت للتفكير، قبل ان يذهب مع سيارة الشحن التي تغادر الوكالة اواخر الليلة القادمة، وقد جاءت زوجته مسرعة من الحانوت الى المكتب فور مغادرة السيارة تسأله في قلق عن سر مجيئها، فابلغها باختصار بما حدث، وسألته ان يأتي معها الى الحانوت ليطمئن ابنتها التي تركتها هناك في حالة خوف وتوجس من ان يكون السردوك ما زال يطارد والدها. وهو ذات القلق الذي اثارته السيارة في نفوس بعض اهل النجع ممن سمعوا بمجيئها عند عودتهم من الشعاب، وكان اول القادمين مستفسرا هو اوسادن، الذي كان على علم اكثر من غيره، بهواجس بانايوتي ومخاوفه، فجاء لكي يطمئن عليه، ولم يتردد بانايوتي في بابلاغه ما لم يبلغ به اسرته، وهو مخاوفه من ان تكون الرسالة المهذبه التي ارسلها السردوك يطلب منه الاجتماع به، مجرد فخ لاستدراجه الى قلعته في مزده، فيدبر له مصيبة هناك، وهنا تدخل اوسادن مبديا استعداده لتقديم أي عون يريده منه، وصارحه بانه يملك بعض القوي الخفية، التي لا يعرفها احد غيره، علمها له المرحوم والده، ولم يصارح بها احدا بمن في ذلك زوجته، لانه لم يكون يريد استخدامها، خشية اثار سلبية رآها شخصيا تحدث لوالده الذي اورثه اياها، وهي اوراد وادعية وتعاويذ وطقوس يستطيع ان يحضر بها اجنادا من اهل الخفاء، يستعين بهم في دفع خطر يتهدده، كذلك بعض التعاويذ الاخرى التي يستطيع ان يجلب بها الاذى للاخرين، وهي ايضا تعلمها من والده، اعطاه اسرارها مع تحذير صارم بالا يستخذمها ضد أي انسان الا اذا تأكد انه من اهل الشر، فيستعملها ليكفي الناس شروره، وقد قرر بينه وبين نفسه ان يطوي هذا السر في قلبه فلا يبوح به لاي انسان، بل حاول جاهدا ان يمسح من راسه هذه التعاويذ وينساها ومع ذلك بقيت في ذاكرته كالوشم لا يمكن محوه، الا انه كان مصمما على الا يستخذم هذه التعاويذ، او يقترب من عوالمها، لان والده كان يدخل احيانا صراعا مع بعض اهل الخفاء، ممن يخدمون اناسا آخرين من خصومه قاموا بتسليطهم عليه، وقد استطاع هؤلاء الخصوم جلب الاذى لوالده، عندما اصابوه بداء الصرع، الذي فتك به، لان نوبة من نوبات هذا الصرع داهمته وهو يضرب في الصحراء راكبا المهري لبعض شأنه، فسقط فوق ارض صخرية، ومات اثر ذلك بسبب نزيف في الرأس، ولهذا السبب آثر ان يبتعد عن هذه العوالم والصراعات التي يجد فيها رجل يتعامل مع اهل الخفاء نفسه مرغماعلى خوضها كما كان الحال مع والده، محبذا ان يعيش انسيا يتعامل مع الانس لا مع الجن. الان فقط وهو يري هذه الملاحقات الشريرة التي يلاحقه بها والسردوك، فكر في ان يقوم باستثناء لهذا النظام الذي فرضه على نفسه، ويستخدم هذه القوة لمرة واحدة لن تتكرر، مستهدفا هذا الرجل، لايقافه عند حده، وهو مستعد ان يبدأ منذ اليوم الدخول في الحالة التي تؤهله للتعامل مع اهل الخفاء وقراءة ما يجب قراءته من اوراد والقيام بالطقوس التي تقضي صياما واغتسالا وترديد تسابيح وابتهالات، ثم يباشر العمل الذي يعطل السردوك عن القيام باي عمل من اعمال الشر.
وتاثرا بما قاله اوسادن، تقدم منه بانايوتي يأخذه الى حضنه، قائلا له انه يعتبره اخا اصغر له، وعاهده على الصفاء والنقاء والبقاء على العهد الى آخر العمر، ورجاه الا يفعل شيئا في هذا المضمار، طالما انه يكره الدخول في هذه العوالم المسكونة باهل الخفاء، لانه يفضل شخصيا ان يقوما بمواجهة الرجل باساليب العقل والحكمة، لا بتلك القوى الواقعة خلف وفوق العقل وهو لا يحتاج منه الا ان يضع عقله معه، وهما الكفيلان بان يحققا النصر في هذه المعركة، ورد اوسادن قائلا بانه يقبل منه ان يترك الاستعانة بهذه القوى الخفية المجهولة، مؤقتا، وخلال هذه المرحلة، دون ان يتنازل عن حقه في استخدامها اذا ما استطاع السردوك ان يكون مصدر خطر لا سبيل الى ردعه ودفعه بالوسائل الاعتيادية، عندئد فانه لن يتردد ولن يتنازل عن تسخير هذه القوى لتعطيله وايقافه عاجزا عن أي فعل، وراى بانايوتي ان اوسادن، الذي صار شريكا في تحمل اعباء هذه المواجهة، هو اصلح رسول الى نائب الوالي، يذهب اليه في صباح اليوم التالي لابلاغه رسالته، وفعلا سعى ان يتأخر سفر سيارة الشحن الى وقت الفجر، لكي يتفق وصوله الى مزده مع وجود الوالي في مكتبه، ويعود مع الشاحنة القادمة بعد الظهر الى الوكالة، وكما توقع بانايوتي، استطاع اوسادن ان ينهي المهمة بنجاح، حيث وجد ترحيبا كبيرا من نائب الوالي، لان لديه اهتماما خاصا، سياسيا واداريا، بتاريخ الطوارق في منطقة الحمادة الحمراء وتخومها الجنوبية المسماة الهروج السود، واساليب حياتهم وعاداتهم وتراثهم، ولديه معلومات سابقة يريد ان يستوثق منها من مصدر طارقي، فاجابه اوسادن على استفساراته، وابدى استعداده لتقديم مزيد من المعلومات التي يريدها لاستكمال فهمه لهؤلاء القوم الذين يفخر بالانتماء لهم.