رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة السادسة عشرة: انجيليكا وعاشق جديد

اتجه البريجادير وبجواره السردوك الى السيارة يرافقهما اشياخ النجع يقومون بواجب توديعهما، وفي مقدمتهم كل من الاومباشي جبران وخليل مكاري، يتلقيان منهما التهنئة مجددا، وقبل ان يصعد الى السيارة، سحب البريجادير هيوز بانايوتي بعيدا عن بقية المودعين، يخاطبه بطريقة هامسة، لكي لا يصل صوته الى اسماع الاخرين، معبرا عن انزعاجه من تصرفات صهره وسلوكه المشين مع ابنته انجيليكا، ورجاه الا يغضب اذا اتخذ صديقه السردوك بعض التدابير لابعاده عن هذا المكان، ابعادا لا يؤذيه ولا يتسبب في قطع عيشه، وانما يوفر له لقمة شريفة في مكان آخر ووكالة حلفاء جديدة، تثمر فيها جهوده، وتظهر فيها نتائج الدروس التي تعلمها من وكالة بانايوتي. واتجه بسرعة يركب السيارة، دون ان يسمع ردا من بانايوتي، لانه لم يكن يهمه ان يسمع هذا الرد، وانما هي كلمات راى ان يتحلل فيها من الوعد الذي قطعه على نفسه امام بانايوتي بالا يترك السردوك يتدخل في شئون اسرته او يحشر نفسه في العلاقة بين ابنته وزوجها الفونسو، وقد خامره بعض الاحساس بالذنب وهو يرى وقع كلماته مرتسما على ملامح بانايوتي، ولكنه كان لابد ان يفعل ذلك ليعطي نفسه حرية التصرف ازاء ما يطرا من تطورات على هذا الموضوع.
اختار السردوك، حرصا على سرية الحديث بينه وبين رئيسه، ان يقود السيارة بنفسه، طالبا من السائق، ان يلتحق باحدى السيارات الاخرى، ولم يتركه رئيسه ينتظر كثيرا، فقد فتح معه الموضوع فور ان تحركت عجلات السيارة مبتعدة عن الوكالة، معيدا امامه قوة انبهاره بما رآه من جمال انجيليكا، قائلا ان اسمها الملائكي، حسب اعتقاده، لا يعبر الا عن نصف الحقيقة، لان لديها في شخصيتها، بمحاذاة هذا الشق الملائكي، شقا آخر ابليسيا، يعذب ويدمر وسحق الرجل الذي يقع في دائرة سحرها وفتنتها، ولذلك فهو يلتمس له العذر فيما حدث له من وله، ويعطيه الحق في ان يلجأ لكل حيلة من اجل الفوز بها، خاصة انه صار واضحا امامه الان، ان انجيليكا وقعت في شباك زوج لا يعرف قيمتها، ولا يقدر جمالها، ويقتضي العدل الالهي، ان يتم تخليصها منه، الا ان هناك مسألة يريد ان يصارح به صديقه وزميله، وهي انه صار مثله ضحية من ضحايا هذا الجمال المهلك، غارقا الى حد الاختناق في لجج غرامها، ولا يريد شيئا من الدنيا الا ان يجد نفسه بين احضانها، وهو عشق هبط عليه فجأة، وبشكل مباغت ودون توقع او انتظار، فقد عاش طوال عمره زاهدا في النساء، وكان يستهجن الزواج من اجل ان يرضى الانسان شهواته الترابية، ويرى ان رجلا يتزوج من اجل هذا الغرض كمن يشتري بقرة ويضعها في غرفة من غرف البيت، من اجل ان يشرب كوبا من الحليب كل صباح، وهناك حل اسهل، هو ذات الحل الذي نفعله مع حليب الصباح، اي نشتريه من السوق دون حاجة لابتياع وتربية الابقار، وكان يحصل على كاس الحليب الذي يريده، عبر اجازات يقوم بها الى جزيرة مالطا كل عدة اسابيع، حيث ينزل هناك ضيفا على صديق ضابط من ابناء دفعته، يعيش اعزبا مثله ومثله محبا للتنويع والتبديل في علاقاته النسائية، ناويا ان يستمر طوال عمره على هذا الحال، يشتري الكأس بدلا من البقرة، الا ان هذه القناعة ضربها زلزال عنيف دمرها دمارا كاملا، وايقن بعد ان راى انجيليكا ان هناك مناسبات لا يتحقق فيها ارضاء هذا الجانب الا بالزواج، خاصة اذا كان حبا معجونا بالشهوة، كما في حالة عشقه لانجيليكا، لانه لا وجود ولا سبيل لتحقيق رغبته الا عبر امتلاكها بعقد الزواج، وهو يرى ان ما اصابه هو نفسه ما اصاب صاحبه السردوك، وان حال كل منهما مثل حال الآخر، وهو لا يقول هذا الكلام ليصنع من موضوع عشقه لانجيليكا لغزا مقفلا لا وجود لحل له، ولا يطلب من السردوك ان يتخلى له عن مكانه، ليحتله هو في لعبة الفوز بها، لان انجيلكيا كما يراها كنز هو من عثر عليه وهو من تفضل واطلعه عليه،وتبقى له الاولوية في الفوز بهذا الكنز وامتلاكه، وهو لا يطلب في مثل هذه الحالة من صديقه السردوك الا ان يتكرم ويتعطف ويتنازل عن حصة صغيرة من هذا الكنز لرئيسه، وان يفعل ذلك بروح رياضية اخوية، لانه بغير هذه الروح، لن يقبل هذه الحصة الصغيرة، ولن يرضى ان يأخذها عسفا، وكرها، من غير رضاه، وهو لا يملك في هذه اللحظة صيغة محددة، للتعامل مع الحالة، ولكنه يعترف بان السردوك يسبقه في الاحقية بالانتفاع بهذا الكنز، وسيعتبر نفسه مجرد ضيف على موائد فضله، ولا مانع في ان يضع نفسه موضع المتسول لشيء من الاحسان يقدمه له.
ظل السردوك يستمع الى مايقوله رئيسه في حالة ذهول، صامتا، لا يتفوه بشيء، كأن ما سمعه اصابه بداء الخرس لانه لا يعرف تفسيرا لما يقوله الرجل، وكيف يريد ان يقاسمه في حصة من انجيليكا، هو بالتأكيد امر جائز لو انها راقصة اخرجها من ملهى الموكامبو في طرابلس، وتقاسمها بواقع ليلة لكل منهما، ولكنها امرأة متزوجة، وابنة عائلة محترمة، ولا سبيل للفوز بها والاستمتاع بكنز جمالها الا عن طريق الزواج، وعندما يتزوج الرجل امراة تصير حرما له، وتصير شرفا وعرضا، ربما كان اكثر منطقا لو قال انه يريدها لنفسه، ويمكن ان يسوق من المبررات ما يشاء، كما سبق ان تحدث مازحا ذات مرة عن عزوبيته التي تمنحه احقية في الزواج عن رجل مثله قضى عقودا وهو في حالة زواج، اما حديثه الغامض عن الحصص كبيرة او صغيرة في انجيليكا التي يقول انه لا يملك لها صيغة او شكلا، فهو حديث لا يستطيع استيعابه، وينتظر ان يسمع منه مزيدا من الشرح، تاركا له فرصة الاسترسال من جانبه دون تعليق، وقد واصل كلامه قائلا :
ـــ دعنى اتحدث اليك بطريقة عملية، فانا رجل عملي، واحب ان اتصرف مع القضايا التي تعرض لي باسلوب عملي، فانتبه لما اقوله لك.
ـــ كلني اذان صاغية.
ـــ هناك بالتأكيد ثمن ستدفعه لزوجها لكي تمكنه من شراء رخصة الوكالة، اليس كذلك؟ ثمن كبير، سيكلفك ثمن ما تملكه من ابل واغنام، وستدفع هذا الثمن راضيا باعتباره جزءا من مهر انجيليكا، هنيئا لك، ولن اعترض طريقك، ولك حرية القيام بالترتيبات التي تضمن وصول الوكالة الى الفونسو بالطريقة التي تشاء، وربما اساعدك في التوسط لدى والدها بانايوتي، للحصول على موافقته في اعطائك يد ابنته المطلقة، واضمن لك انك ستفوز بها، فانعم بما ملكت يداك، ولا تتهاون دقيقة واحدة في الاستمتاع بها , خذ ما تشاء من وقت لاطفاء نار الشوق من هذه المرأة، التي سكنت حنايا صدرك، ولانه حب معجون بالشهوة الحمراء، فستقضى لبانتك منها، وتروي شهوتك، وستفكر عندئد في طريقة تتخلص بها منها، وهنا اقول لك ارجوك لا تفعل معها ما فعله زوجها الاول من تنكيل بها، او توجيه الاهانات اليها والى جمالها، او الانتقام منها بالضرب والتعذيب لانها باعدت بينك وبين اولادك وبناتك، لن تحتاج لان تفعل ذلك، لان هناك انسانا هو الرجل الجالس بجوارك، والذي لن يتوانى عن عونك في الوصول الى هدفك، مستعدا لان يراك تطلقها، ليأخذ فرصته في الزواج منها، وسيدفع لك مهرا يعادل خمسة اضعاف المهر الذي دفعته لها، ربما تبيع عشرين ناقة وجملا، فلا تندم، سيكون هناك مائة ناقة وجمل بانتظار اليوم الذي تفرغ فيه منها، مع ملاحظة صغيرة واحدة، ولا اقول شرطا، هي انني باق في هذه البلاد مدة بقاء الادارة البريطانية التي تنتهي رخصة حمايتها للبلاد بعد عامين، فليكن نصيبك من هذه القسمة عاما كاملا، وسيكون امامي بعد انتهاء هذا العام، عام اقضيه معها، ثم اودعها بما تستحقه من مؤخر الصداق الذي سيضمن لها ولاسرتها حياة رغيدة مدى العمر، لانني اعرف قيمة الجمال واعرف كيف اعطيه حقه.
رغم غرابة العرض ورغم ضيق السردوك من هذا التدخل الذي فرض به الرجل نفسه على الموضوع كله، فان امر التعويض المالي الذي يقترحه، تعويض يسيل له لعاب كل انسان، لانه تعويض كبير بكل المقاييس، والرجل قادر عليه، ليس فقط بسبب الموارد المتاحة لمن كان في منصه وما يحصل عليه من علاوات ومكافآت ومخصصات للمصاريف السريه، وانما ايضا لانه ينتمي الى اسرة من الطبقة الراقية في لندن، وله املاك وقصور وحدائق تحيط بهذه القصور، وعقارات يستطيع ان يشتري باموالها، اذا باعها او وضعها في اسواق الاستثمار، مدنا باكملها بمن فيها من نساء ورجال، لا ان يخصص مهرا مجزيا لامراة مثل انجيليكا يعرف انه لن يتنازل له عنها بسهولة، نعم سيبيع بعض قطيع الابل الذي يملكه، وسيبلغ نائب الوالي انه باعه باكمله، وزاد عليه اغناما، لكي يجزل له العطاء، ولابد ان ما يقوله عن الاشباع الذي يصيب الرجل، بعد ان ان تصبح المرأة التي يتعشقها، ملك يمينه وطوع امره، قول صحيح، ولن يضيره عندئد ان يأخذ الثمن الذي دفعه مهرا، مضروبا في خمسة اضعاف، سيجتهد ان يجعلها عشرة اضعاف، ثم انه عام بطوله وعرضه، يموت خلاله اناس ويحيا اناس، وتتغير فيه مصائر شعوب، وتبدأ حروب وتنتهي اخرى، ولا احد يدري، الا خالق الكون، ما يمكن ان تجيء به الايام، ليقل له نعم، ويشترط عليه ان يعطيه خلال هذا العام كل ما تراكم من اجازاته، ووسيبحث له عن مساعد يقوم بالمهمة بدلا منه، ليستمتع بوقته مع امرأته الجديدة، وبدلا من قضاء شهر واحد كما يفعل الاجانب الذين يسمونه شهر العسل، سيقضي ستة او سبعة اشهر عسلية، متفرغا لها، لان حجم الاجازات المتراكمة التي يستحقا تزيد عن عدد هذه الاشهر، ويستطيع ان يؤجر بستان تين في اخصب مناطق الجبل الغربي بين هضابه واوديته الخضراء في منطقة مسكة حيث له اخوال يستانس بهم ويعيش قريبا منهم وفي حمايتهم وعزوتهم، بدلا من البقاء بها في هذه الصحارى المجذبة وارضها العجفاء الميتة، ويبعد عن مزده حيث تقيم اسرته القديمة، وحيث يقيم البريجادير، وحيث اجواء العمل التي ستلاحقه وهو يقضي اجازته فيها، نعم، سيهيء نفسه لما يقرب من عام من البطالة والكسل والتقلب فوق سرير الحب، ثم ليات بعد هذا العام ما يأتي، سيترك الامر للظروف والمزاج، ولهذا فسيقول لنائب الوالي انه يوافق على الخطة التي يقترحها، منتظرا منه ان يبدأ في تنفيذها والوصول بها الى نتائجها بسرعة وفعالية، لكي لا يضيع جزء من العام، سيكون بالتأكيد خصما من حصة البريجادير في انجيليكا وليس من حصته هو، لان ما كان اوله شرط عاقبته السلامة دائما كما يقولون في الامثال.

18

طارقي فوق المهري، يخب خبا، جزء من لثامه تعبث به الريح وتعبث بفائض القماش من اكمام قميصه الازرق، ينسدل واسعا هفهافا على جسمه، من خلفه امرأة سافرة الوجه ترتدي جبة ذات لون وردي، تنتهي بغطاء للرأس، وبشرة برونزية اكثر انفتاحا من لون بشرة الرجل كما اسفر عنها ما ظهر من وجهه ومن ذراعيه الاسمرين، وقد اعطى التباين بين الوان لباسهما ولون المهري الابيض وسواد القماش الذي يغطي القتب الذي يجلسان فوقه مندمجا في قماش خيمة سوداء وسط شبكة الامتعة المتدلية على جانبي المهري، مع بقعتان سوداوتان وهما قربتا ماء تتدليان قرب الشبكة قريبا من عنق المهري، اظهرت هذه التشكيلة اللونية التي تبرق تحت اشعة شمس شديدة السطوع، مظهرا جميلا لهذا الرجل الطارقي والمرأة الطارقية فوق ظهر هذا الحيوان الانيق الرشيق، وقد اوقفته الكلاب الكثيرة التي خرجت لاستقباله في المحيط القريب من النجع في وكالة بانايوتي. لم يفعل الرجل شيئا ولم يقل كلاما ينهر به الكلاب لانه يعرف انها لن تستطيع ان تصل اليه او للمرأة التي معه في مكانهما العالي فوق المهري، وقف يجيل راسه فيما حوله، كما وقف المهري يرفع هو ايضا عنقه في كبرياء وينظر من علو الى الكلاب التي مضت تنبح، حتى خرج على صوت نباحها زنجي عجوز من احد الاكواخ يتكيء على عصاه، ومضى باتجاه الرجل الجالس فوق المهري ينهر الكلاب ويأمرها بان تنصرف عنه، ملوحا لها بعصاه حتى غادرت المكان، وتوقف امام المهري يرد على صاحبه التحية، ويتبع تحيته بسؤال عما يريد الرجل الطارقي من مجيئه الى هذا النجع، فاجابه بانه قادم من جنوب الحمادة الحمراء، ومعه زوجته، لكي يلتقط رزقه بالعمل في جني نبات الحلفاء، ويريد ان يبني خيمته في هذا الجوار، كما يفعل أي قادم جديد للوكالة، ويتمني ان يعرف منه ما اذا كان هناك اي نظام يجب ان يتبعه القادم الجديد فيما يخص المكان الذي يبني فيه خيمته، فاجابه الشيخ الزنجي، بانه يستطيع ان يبني خيمته في أي مكان يشاء في هذا الفضاء، فارض الله لاهل الله، مجرد ان يترك مسافة عشرين مترا، حرما لاخر خيمة في صف الخيام الموجودة قبله، سائلا اياه ان يذهب فور الانتهاء من بناء خيمته، لتقديم نفسه الى السيد بانايوتي صاحب الوكالة ليعرف منه ما يحتاجه عن جمع الحلفاء ونظام البيع والشراء في الوكالة، واشار بعصاه الى حيث توجد ادارة الوكالة، فاستبقاه الرجل الطارقي طالبا ان يعينه فقط على التآلف مع كلاب النجع، فابلغه بانه ليس محتاجا بعد الان لان يخاف منها، لانها ما ان تراه قد تم استقباله من احد قاطني النجع، حتى تتغير معاملتها له من الصد الى الترحيب، ثم مشى بضع خطوات يريه المكان الذي يمكن ان يبني فيه خيمته، وظل واقفا حتى راه يامر المهري بان يبرك، عندها فقط مضى ساحبا نفسه الى الخيمة التي خرج منها. باشر الرجل الطارقي في انزال الادباش، بمشاركة زوجته، ومتعاونين قاما بنصب الخيمة ووضع كل قطعة من الادباش في المكان الخاص بها، ثم ترك المهري باركا، وترك المرأة تقوم بازاحة الاحجار وقطع نبتات العجرم وتنظيف المكان الذي بنيت فيه الخيمة والارض المحيطة بها، وانطلق باتجاه مبنى الادارة حسب ما ارشده الرجل، ليقدم نفسه الى صاحب الوكالة، حيث وجده جالسا ينظر في سجلات وكالته، فحياه وذكر له انه من ابناء منطقة القبلة، يريد الاستفادة مما تقدمه الوكالة من فرص العمل الشريف لابناء المنطقة، وانه ينتمي الى طوارق الهروج السود اقصى جنوب الحمادة الحمراء، واسمه اوسادن وقد تزوج حديثا من ابنة قبيلته تانيرت، ويريد ان يستقل بحياته ويسعى للحصول على رزقه بجهده الشخصى دون اعتماد على اسرته او قبيلته، فرحب به بانايوتي، واخرج سجلا كتب فيه اسمه واسم زوجته، واضاف سطرا يتعهد فيه القادم الجديد بالاستقامة ومراعاة الاخلاق العامة واحترام جيرانه في الوكالة والا يفعل شيئا يسيء الى الوكالة او يخالف القانون، وهو اجراء قام بانايوتي باعتماده بعد ان ثار اشكال العائلات الزنجية القادمة من مناطق اوزو، وقرأ عليه الكلمات التي كتبها وسأله ان كان يريد التوقيع او وضع بصمته تحتها، فقال انه حصل على نصيب من التعليم وحفظ جزئين من القرآن، واخذ منه القلم فوضع توقيعه في السجل، وشرح له بانايوتي طبيعة العمل في الوكالة، وابلغه ان كل جامعي الحلفاء موجودون الان في الشعاب، فهم يقومون بعمل يستغرق النهار كله ويعودون في آخر النهار بما جمعوه ولا يتخلف عن الخروج الا من يقتضى عمله البقاء في الوكالة مثله او العجز مرضا او هرما مثل العجوز الذي راه عند اول وصوله، ودعاه ان يعود بعد رجوع الناس من الشعاب عند الغروب، ليقوم بتقديمه لبعض شباب الوكالة وشيوخها، تسهيلا لاندماجه في مجتمع الوكالة، وعلى عادة اهل النجع في احاطة كل قادم جديد برعايتهم وارشاده الى اسلوبهم في العمل، واعانته في التآلف معهم، التفوا حوله يجاذبونه الحديث كانه صديق قديم، وياخذونه الى المقهى يشركونه في لعب الورق، وارسلوا نساءهم الى زوجته يتعرفن عليها، وفي صباح اليوم التالي اخذوه هو وزوجته الى التقاط الحلفاء، ووجداهما لا يعرفان كيفة اقتلاعها، فصرفوا وقتا وجهدا لتعليمهما، هو مع الرجال و زوجته مع النساء، حتى تيسر لهما جمع محصول يعودان به مع العائدين في المساء، وهكذا فعلا في اليوم الثاني، مما اتاح لهما شراء ما يحتاجانه من مؤونة عن طريق الكوبونات كبقية اهل النجع، وقد حققا بسرعة اندماجهما في حياة ومجتمع الوكالة، وقبل ان يمضى على وجودهما في الوكالة اربعة ايام، داهمت الوكالة في ضحى هذا اليوم الرابع كوكبة من رجال الطوارق الملثمين، يركبون المهاري، لا يحملون فوقها ادباشا، ولا شباكا، غير انفسهم وبنادقهم، يسألون عن صاحب الوكالة، ويصلون الى مكتب بانايوتي، فينزلون عن اظهر المهاري، ويفاجئونه بالسؤال عن الطارقي الذي انضم الى وكالته منذ يومين يركب مهريه الابيض، ويردف امرأته خلفه، فاخرج السجل يذكر لهم اسمه واسم زوجته، فابلغوه ان هذا هو اسم الرجل الذي جاءوا لقتله وقتل المرأة التي معه، لانها ليست زوجته كما ادعى، وانما ابنة شيخ من شيوخهم استدرجها واوقعها في غرامه وهرب بها، وهو لم يتزوجها ولن يستطيع الزواج بها، لانه لا احد من اهلها يوافق على ذلك، وان مجلس القبيلة في الهروج السود احل دمه ودمها وارسلهم لتنفيذ هذا الحكم الذي لا راد له، ودون تعليق منه على كلامهم، خرج من مكتبه ينادي علي، عامل المقهى ان يحضر لهؤلاء الضيوف الشاي والمشروب المصنوع من عصير البرتقال وبعض البسكويت، ويبلغهم بان الوقت وقت غذاء، وقد امر باعداد الطعام لهم، ولن يخوض معهم في أي حديث الا بعد قبول ضيافته، وبسرعة جاء علي بالطلبات فانشغل الفرسان الطوارق بتناول هذا الافطار الذي يسبق الغذاء، ولم يكن لبانيوتي من هدف غير كسب الوقت، حيث اسرع يرسل عليا الى الشعبة، طالبا منه ان يمضى باقصى ما يستطيع من سرعة فيبلغ اوسادن بعدم العودة هو وزوجته الى الوكالة لان هناك مجموعة ارسلتها قبيلة الفتاة تريد قتلهما، وان يبلغ شيوخ النجع وهم الاومباشي جبران والحاج رضوان والفقي عمار وخليل مكاري والسيرجينتي خليفة بالمجيء الى الوكالة في الحال، وامر عامل الوكالة بان يذبح جديا وينقل لحمه الى البيت لتتولى زوجته وابنته تحضيره ليكون جاهزا كوجبة غذاء لهؤلاء الضيوف، ورآهم يتبادلون النظرات كانهم يتدبرون امرا، وخمن ان هذا الامر يتصل بالرغبة في تنفيذ المهمة التي جاءوا من اجلها، فقد بدت وجوههم عابسة وكان جلوسهم في ضيافة صاحب الوكالة ينتظرون وليمة الغذاء، امر لا يتفق مع خطورة المهمة بكل ما تحتاجه من حسم وعزم وانجاز، ولهذا اسرع يلح عليهم في البقاء، متوسلا اليهم ارجاء المسألة الى عودة الناس من الشعاب، لانهم يتوغلون في شعاب ليس من السهل الوصول اليها، ثم عرج نحو حديث يعرف انهم يحبونه، وهو الاشادة بنبل وعراقة قومهم، وابلغهم ان مؤرخا من بلاده اليونان، اسمه هيرودوت، ويسمونه ابو التاريخ لانه صاحب اقدم كتاب في هذا المجال زار ليبيا قبل الفين وخمسمائة عام، تحدث عن الجرامنت باعتبارهم اصل الطوارق واشاد ببطولاتهم وحبهم للحرية الذي يجعلهم يتصدون لكل غزو اجنبي لبلادهم، ورد احدهم بان هذا ما ظلوا يفعلونه في العصور الحديثه عندما قاوموا الغزو الفرنسي ثم الغزو الايطالي، وصمت بانايوتي عن قول الاضافة التي كان يريد ان يقولها للرجل، بان حربهم لا تقتصر فقط على مجابهة الغزاة، وانما اشعلوا حروبا مع بعضهم البعص، وهاهم الان يريدون قتل ابن عم وابنة عم لهم، بدل التصالح معهما، وهو سلوك همجي لا يتفق مع نبل وعراقة ما يقوله التاريخ عنهم. كانوا سبعة رجال يضعون الالثمة فوق وجوهم، فلا تظهر الا العيون تبرق في محاجرها، كانها تبحث عن شيء داخل الخيمة التي انتقل بهم اليها بعد ان عاد علي من مهمته، ليبدأ مهمة تحضير مزيد من الشاي وتعبئته في اكواب يطوف بها عليهم دون التزام بالدورات الثلاث، لان هناك وقتا يجب ان تملأه كثرة الاكواب قبل ان يتم تجهيز الغذاء، وقبل ان يصل الرجال الذين ارسل علي اليهم، الا انهم رجال كبار في السن لا يستطيعون مسايرة علي في ركضه ذهابا وعودة، الا انهم فعلا وصولوا، وسمع اصواتهم قادمين قبل دخولهم الى خيمة المقهى، فحمدا لله انه تمكن من الابقاء على هؤلاء الفرسان القادمين في مهمة للقتل، هادئن، جالسين في اماكنهم حتى جاء شيوخ النجع، وهم من اهل البادية مثلهم، ويعرفون التواصل معهم، بمفردات البدو وتقاليدهم التي يفهمونها اكثر منه، ويمكنهم الاعتراض على الجريمة التي يريدون ارتكابها بالمنطق الذي يدركه اهل البادية والنواميس التي يحتكمون اليها، دخل الرجال الخمسة، يصافحون فرسان الطوارق ويرحبون بهم في نجعهم، مؤجلين افتتاح أي حديث معهم الى ما بعد الغذاء، حيث تكون النفوس قد هدأت، ويكون الطعام قد فعل مفعوله في اخراج هولاء الرجال من حالة التوتر والعصبية والتهيج التي جاءوا بها، وادخالهم في حالة الاسترخاء والراحة، وكان جزءا من تقنيات بانايوتي ان يجعله غذاء دسما، مليئا بقطع اللحم الكبيرة، وصحون المكرونة التي يحبها اهل هذه البلاد بدوا وحضرا، لانه يعرف ما لهذه الوليمة من قدرة على تخذير هؤلاء الرجال المتأهبين للقتل الى حد لو ان رئيسهم عرض عليهم خيارا بين النوم في هذه القيلولة، وبين الانطلاق في اداء مهمة القتل، لاختاروا جميعهم غفوة القيلولة، الا ان رئيسم لن يعرض عليهم خيارا كهذا، وسيحاولون بكل قوة ان يقاوموا الاسترخاء والرغبة في النوم، لانجاز المهمة التي تتصل بشرف القبيلة وكرامة شيخها. كان يجلس في خيمة المقهى سبعة من ابناء الجنس الازرق، في عباءاتهم الزرقاء، ضد سبعة هم الليبيون الخمسة وبانايوتي الاغريقي وصهره الايطالي، واستهل بانايوتي الحديث بعد انتهاء الطعام ورفع الاطباق قائلا لزملائه شيوخ النجع، ان هؤلاء الاضياف الاشراف، جاءوا الى الوكالة في مهمة كلفتهم بها قبيلتهم هي غسل العار واسترداد الشرف وتنفيذ حكم مجلس القبيلة في اهدار دم اوسادن، الشاب الطارقي الذي انضم قبل اربعة ايام الى الوكالة وزوجته ابنة شيخ القبيلة المسماة تانيرت. وهنا رد احد الفرسان الطوارق بعصبية وتشنج بانها ليست زوجته، وانه اختطفها اختطافا وهرب بها تحت جنح الظلام، بعد رفض اهلها تزويجها منه.
يتبع غدا